شهد صعود الفكر الديمقراطي طوال تاريخ البشرية العديد من المحطات، حيث بدأ من أكثر صور الحكم الديمقراطي تخلفاً وصولاً إلى أرقى أشكاله كما هو الحال في وقتنا الراهن. ولعلّ أهم مرحلة مرّت بها الديمقراطية هي إبان عصر اليونان وحاضرتهم الذائعة الصيت أثينا، فقد كانت نقطة الانطلاق في بداية مسيرة الديمقراطية. حتى تحولت الديمقراطية لسمةٍ من سمات الحكم اليوناني القديم، على الرغم من سيطرة بعض الطغاة بين الفترة والفترة على مقاليد الحكم في أثينا ومدن اليونان الأخرى. ولكن الجماهير اليونانية كانت دائماً تقف في وجه الطغاة لترجّح الكفة لصالح الديمقراطية من جديد.
وقد كانت هذه الديمقراطية اليونانية الفتية تعاني الكثير من التحديات منها ما يتعلق بتوفر الإطار الفكري الفلسفي، والذي مثّله العديد من الفلاسفة اليونان كأرسطو أفلاطون وسقراط وصولون وأبيقراط ...إلخ. بيّد أنّ هذا الفكر الفلسفي كان يستند أساساً على فهم الفلاسفة اليونان للحالة الاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك العصر، إلى جانب أهمية نوعية العلاقات القائمة بين أنظمة الحكم المختلفة الأشكال والمواطنين في تحديد ملامح هذا الفكر الفلسفي، كما لم تكن هناك معارف وفلسفات تراكمية هائلة كما هو الحال عليه في عصرنا هذا. ومنها ما يتعلق بالأجواء السياسية المتقلبة وصعود الحضارات الجديدة واضمحلال الحضارات التي كانت قائمة، ومنها ما يتعلق أيضاً بعوامل الهجرة والانتقال والحروب التي كانت سمة العصور القديمة، ما دفع بالحضارات إلى تدمير الحضارات والثقافات التي تغزوها، وعدم الوقوف على مستوى المعرفة والثقافة التي بلغتها الحضارة المستهدفة، وحتى التفكير في الاستفادة من هذه الحضارة وما وصلت إليه من تقدم ورقي فكرياً وعمرانياً واجتماعياً وحتى فيما يتعلق بطبيعة أنظمة الحكم، ما أدّى هذا إلى فجوات ثقافية ومعرفية كبيرة في تاريخ البشرية عموماً.
لقد كانت حادثة عائلة بيزستراتوس في القرن السادس قبل الميلاد في اليونان، أيام الفيلسوف والمشرع الشهيّر صولون، من أكثر الحوادث ذات الدلالة على عمق الفجوة بين الطغيان والديمقراطية. فقد كان بيزستراتوس يدّعي بأنّه يقود حركة الفلاحين والعمال في الأرياف، وهو بالأساس ينحدر من عائلة ارستقراطية، وذلك لمواجهة الحركات والأحزاب الارستقراطية، مثل حزب الشاطئ، وقوامه التجّار وأصحاب السفن، وحزب السهل وقوامه أصحاب الأراضي من الأغنياء. وقد أطلق بيزستراتوس على حزبه تسمية "حزب الجبل"، وطرح نفسه لجموع العامة على أنّه سيقوم بتوزيع الأراضي على الفلاحين وسيشرك العمال في الاستفادة من أرباح أرباب العمل. وفي إحدى اجتماعات الجمعية العامة لمدينة أثينا جاء بيزستراتوس إلى الجمعية، وكشف عن جرحٍ في خاصرته، أدّعى بأنّه نتيجة تعرضه لمحاولة اغتيال، فطلب من الجمعية أن تخصص له عدداً من الحرس لحمايته، ولكن صولون المشرّع رفض طلبه لمعرفته بمكائد بيزستراتوس ودسائسه، ولكن الجمعية لم تنصت إلى صولون وبالفعل أمرت بخمسين رجلاً من الحرس لحماية بيزستراتوس، وبعد فترة قصيرة استطاع بيزستراتوس أنّ يجمع حوله أربعمائة من الحرس والتابعين، واقتحم معهم الأكروبول وعيّن نفسه حاكماً أوحداً على أثنيا. وما كان من الأثينيّين إلاّ أنّ هربوا وخاصة الأغنياء والارستقراطين، لأنّهم وجدوا بيزستراتوس قائد عالم العبيد يتقلّد زمام السلطة، فاعتبروا أنفسهم مهددين، لذلك توزّعوا على المقاطعات المجاورة، وهرب صولون من أثينا. بينما بيزستراتوس لم يكن ينوي الحكم لصالح الفلاحين والعمال، وإنّما كان ينوي إنشاء حكم فردي شمولي وبمساعدة من طبقة الأغنياء والتّجار وأصحاب السفن أنفسهم. لكن بعد خمس سنوات من حكم بيزستراتوس استطاع شعب أثينا من دحره وإجباره على مغادرة أثينا.
بعد هذه الحادثة أقرّت الجمعية العامة قانوناً اسمه قانون "رجل المحار"، يتمحور حول إمكانية نفي أيّ مواطن أثيني لخارج أثينا لمدة عشرة سنوات، إذا وجدوا بأنّ له تأثيراً على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو العسكري، وذلك لحماية النظام الديمقراطي من سطوة الطغاة الطامعين في مقاليد الحكم والسلطة.
لم تقف محاولة الأثينيين عند حدود هذه الممارسة السلبية لرؤيتهم الديمقراطية وحماية أنفسهم من الطغاة، وإنما ارتضت ضرباً من الديمقراطية هي "الديمقراطية المباشرة"، وكانت أول محاولة في التاريخ لإقامة حكم يرتضيه العقل ويقبله، ويحترم قيم الإنسان وكرامته. وهي تجربةً ظلّت قروناً طويلة تصحح نفسها، ويضيف إليها المفكرون والفلاسفة حتى وصلت إلى صورتها الراهنة في الفكر الغربي.
لقد كانت التجربة الديمقراطية عند اليونان غايةً في البساطة، فمدينة أثينا تجتمع بشعبها كله، لا هيئة منتخبة ولا طائفة أو طبقة، إنما هناك جمعية شعبية تضم كل من تتوافر فيهم الشروط، وهي أنّ يكون مواطناً (لا مقيماً) أثينياً، من أبوين أثينيين، حراً، ذكراً، يبلغ العشرين من عمره، وهي شروط فصلها أرسطو في كتاب السياسة.
تتولى هذه الجمعية الشعبية أو الوطنية سلطات البرلمانات الحديثة، لا سيّما السلطة التشريعية، ومراقبة أعمال الحكومة، أمّا رجال الدولة أنفسهم وغيرهم ممن يشغلون الوظائف العامة، كالموظفين العموميين والقضاة وقادة الجيش والضباط ... إلخ، فيُختارون بالانتخاب حيث يتم انتخاب ضعف العدد المطلوب، ثم تُجرى القرعة بينهم لاختيار العدد المطلوب. ويعد دستور صولون الذي عطّله الطاغية بيزستراتوس نقطة البداية في مراحل التطور الديمقراطي في أثينا، إلى أنّ بلغت آخر وأكمل تطور لها بعد الإصلاحات والتجديدات التشريعية التي قام بها كلستين عام 507 قبل الميلاد.
إن هذه الديمقراطية المباشرة أخطأت في فهم المقولات السياسية للديمقراطية، فإذا كانت الديمقراطية تعني – حتى لغويا – حكم الشعب، فإن أثينا لم تقف على المدلول الحقيقي لمصطلح الشعب، واحتاج الأمر إلى قرون طويلة، لكي يتضح هذا المعنى ويستقر. وإذا كان جناحا الديمقراطية هما الحرية والمساواة، فإن الديمقراطية الأثينية أخطأت فهمهما معاً.
كما أن مفهوم الشعب لم يكن واضحاً أو محدداً تحديداً وافياً في أثينا، وذلك جليّ من الفئات التي استبعدت منه: الأجانب، الأفارقة، النساء. فاقتصرت الحقوق السياسية على المواطن الأثيني الذكر الحر! وهذا الفهم القاصر للشعب هو الذي ظلّ سائداً أيام الديمقراطية الرومانية أيضاً.
إن فقهاء القانون يفرّقون بين مصطلح "الشعب" بمدلوله الاجتماعي الذي ينصرف إلى جميع الأفراد الذين ينتمون إلى جنسية الدولة، والشعب بمدلوله السياسي الذي لا يمتد إلى كل هؤلاء الأفراد، وإنّما يقتصر على من لهم حقُّ مباشرة الحقوق السياسية، وإذا كانت الديمقراطية تعني أنّ الشّعب هو صاحب السلطة ومصدرها، فإنّ ذلك ينصرف إلى الشّعب بمدلوله السياسي، أو من لهم حق الانتخاب أو هيئة الناخبيّن؟ أو ما سُمّيَّ فيما بعد باسم "مبدأ الاقتراع العام"، وعلى ذلك فكلما اقترب مصطلح الشعب بمدلوله السياسي من مفهوم الشعب في حقيقته الاجتماعية كان أكثر تعبيراً عن المبدأ الديمقراطي.
لهذا كافحت البشرية طويلاً في سبيل الوصول إلى مبدأ الاقتراع العام، الذي يجعل حق التصويت والاشتراك في الانتخابات، حقا لكل مواطن راشد، بغض النظر عن مستواه العلمي، أو انتمائه الطبقي ...إلخ، بحيث لا يشترط في الناخب سوى بلوغ سن الرشد والأهلية فقط، ولا تكون قد صدرت ضده أحكام مخلّة بالشرف ... إلخ.
ومعنى ذلك أنّ البشرية جاهدت طويلاً في سبيل إلغاء الرّق وتحريمه، وكانت هناك مراحل طويلة، وصعوبات كبيرة في سبيل الوصول إلى هذه الغاية وتحقيق هذا المبدأ الإنساني الديمقراطي في الوقت نفسه.
ثم كافحت البشرية، ولا تزال، في سبيل تحرير المرأة وإعطائها حقوقها السياسية، و كما قيل بحق: " النساء آخر الرقيق في عالم البيض"، وتريد البشرية تحقيق شعار: "لا تمييّز: لا في اللون، ولا في الجنس". إذ لا يزال وضع المرأة في الكثير من دول العالم، على نحو ما كانت عليه عند اليونان.
لقد كانت الديمقراطية اليونانية والرومانية من بعدها ذات طابع خاص، يُبعدها عن الديمقراطية الحقيقية ويُدنيّها من النظام الأرستقراطي. وذلك لأنّ الذين كانوا يسهمون في الحياة السياسية وحكم المدينة هم أقلية ضئيلة من السكان لهم حقّ التّمتع بصفة "المواطن". أمّا الرقيق الذين يقومون بأعباء الحياة الاقتصادية، وكذلك الأجانب الذين يقيمون على أرض الوطن لفترات طويلة مهما بلغت سنوات إقامتهم، وكذلك النساء ...إلخ، فلم يكن لهم نصيبٌ في حُكم المدينة، بلّ كان مُحرماً عليهم الاشتراك في الحياة السياسية. ويتضح من ذلك أنّ هذه الديمقراطية لم تكن إلا شكلاً فقط، أو هي بداية بسيطة جداً للفكرة التي سوف تتطور وتترسّخ في أذهان الذين عانوا طويلاً من حكم الفرد، وذاقوا العذاب من الطغاة...
مُنيت الديمقراطية المباشرة التي حققها اليونان ومن بعدهم الرومان بانتكاسة طويلة، استمرت لقرون عديدة، على الرغم من ظهورها في حضاراتٍ أخرى بين الحين والآخر إلا أنّها لم تدم طويلاً ولم تستقر كنظام للحكم. فقد كانت قوة نظام الطغيان هي الغالبة والذي ظل سائداً حتى بدايات عصر التنوير والإصلاح البروتستانتي وانطلاق عصر الثورة الصناعية وعصر الثورات الاجتماعية الكبيرة في المجتمعات الغربية عامة والمجتمع الفرنسي والإنجليزي خاصةً.
تميّزت فترة العصر الوسيط بفكرة رئيسية وهي الخضوع للسلطة، وذلك انطلاقاً من اعتبارات دينية، وساهم رجال الدين وأعلام المسيحية كالقديسين بولس وبطرس، وفلاسفتها، في ترسيخ فكرة الخضوع والاستسلام "للسلاطين النابغين" الذين فرضتهم الإرادة الإلهية على الناس! فذلك هو ترتيب الله كما يدّعون. وازداد الأمر سوءاً مع ظهور نظام الإقطاع، فأصبح المواطن خاضعاً لأكثر من "سيد": السيد الإقطاعي – الحاكم – الملك أو الإمبراطور! وظهر الأقنان إلى جانب "العبيد". وبالتالي تضاءل مفهوم الشعب السياسي، حتى أنّه كاد ينعدم مع توقف مسيرة الديمقراطية.
في بدايات عهد النهضة أخذ النظام الإقطاعي بالترنح، تحت وقع الخطاب السياسي الذي قدمه فلاسفة العصر كمكيافيللي، الذي عالح السياسة بمعزل عن الأخلاق والدين، ليهتم بكيفية تحقيق الغاية فقط بغض النظر عن الوسيلة، وإنّ إنحازت نصائحه إلى جانب الأمير الحاكم.
وفي عصر النهضة أيضاً ظهرت الدولة القومية وقامت النظم الملكية في فرنسا وألمانيا وانجلترا وغيرها من الدول الأوربية على تأكيد سلطانها، وتركيز السلطة في يد الملك. وقد شجعها على ذلك ظهور الطبقة البرجوازية الجديدة، طبقة التجار والصنّاع... إلخ، وغدا سلطان الملوك مطلقاً فاستبدوا وأهدروا الحقوق والحريات.
لكن ومن قلب النظام الإقطاعي نفسه، راحت بذور الديمقراطية التي ظلت قروناً خبيئةً في نفس الإنسان وبين ثنايا ثقافة المجتمعات بالظهور مرة أخرى! ففي انجلترا كان نظام الحكم نظاماً ملكياً مطلقاً، إلا أن نظام الإقطاع أجبر الملك على الاجتماع بأمراء الإقطاع في المناسبات الهامة لطلب المشورة والنصيحة، بل والمشاركة في نفقات الحرب وغيرها. فاستقر نظام جديد مؤلفٌ من مجلسٍ يدعى إليه الأشراف والأساقفة، ثم ازدادت سلطات المجلس فانتقل من "المشورة" إلى "التشريع" إلى الإشراف على القضاء، إلى أن أصبحت له السلطة العليا في المحاكم حتى سُمّي باسم "المجلس الأعظم" وأصبح يجتمع سنوياً، وبصفة منتظمة، واتسعت دائرة اختصاصاته. إلى أنّ ثار النبلاء والأشراف والأساقفة في عهد الملك جون وصدر "العهد الأعظم أو الماجناكارتا" واستقر المجلس بعد هذا التطور. فبعد أنّ كان استشارياً أصبحت القاعدة أنّه لا يجوز للملك أنّ يُلغي قانوناً صدر عن هذا المجلس الذي سمّي باسم مجلس اللوردات، ثم أضيف إلى هذا المجلس فارسان عن كل مقاطعة، وممثلون عن المدن الهامة، حتى أصبح يتألف من خمس فئات. ثم تكتل نوّاب المقاطعات والمدن حتى انفصلوا في مجلس خاص هو مجلس العموم. لم تقدّر طبقة اللوردات في بداية الأمر أهميّة ذلك المجلس، فلمّا ثبُتت أهميته سارع أبناؤها إلى الدخول فيه فصار شأنه يزداد شيئاً فشيئاً حتى فاق شأن مجلس اللوردات.
لقد كافح الأشراف والأساقفة ودخلوا في صراعٍ مع الملك. حتى تجدد هذا الصراع في عهد الملكين جميس الأول وشارل الأول وتحول إلى صراعٍ على شكل حربٍ أهلية عام (1642-1645)، والتي تجددت مرّة أخرى (1647-1649) لتنتهي بإعدام الملك شارل الأول في العام (1649). وتولى أحد أعضاء البرلمان وهو أوليفر كرومويل زعامة البلاد.
إن هذا الصراع الدموي في إنجلترا أظهر اتجاهين متعارضين في النظرة إلى السلطة، الأول يؤيد السلطة المطلقة، ويُثني عليها مثلما فعل توماس هوبز في إنجلترا والأب جاك بوسويه في فرنسا. أمّا الاتجاه الآخر فهو ينادي بالثورة على الطغيان مثلما فعل جون لوك وجون ستيورات مل في إنجلترا، ومونتسكيو وروسو في فرنسا.
بدأ هؤلاء الفلاسفة في دراسة وتحليل المجتمعات الأوربية، والنظر في طبيعة الأنظمة السياسية التي حكمت طوال التاريخ إلى جانب رصد الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تميّز كل تجربة عن الأخرى. وخرج الفلاسفة بفكرة جوهرية هي فكرة العقد الاجتماعي التي تفسر نشأة الدولة على أساس التعاقد الذي يتم بين الأفراد كجماعة أو بينهم وبين الحكام. وهي فكرة كانت ملاذاً لجأ إليه المفكرون الذين يسعون للدفاع عن المذهب الفردي ضد المذهب المطلق، وذلك لأن الملوك كانوا يلجأون في تبرير سلطانهم إلى القول بأنهم يستمدونه من الله مباشرةً، فهم ظلُّ الله على الأرض، أو أنهم يحكمون على أقل تقدير باسمه، وبتفويضٍ منه، وبالتالي، فهم يُحاسبون أمامه فقط، لا أمام الناس! ومن هنا كان النظام الأبوي البطريركي، وهو النظام الطبيعي للمجتمع الذي يرتد في النهاية إلى العهد القديم من الكتاب المقدس.
فأصبحت نظرية العقد الاجتماعي هي الوسيلة الوحيدة المتاحة لرفض هذه المزاعم. ويمكننا القول أنها كانت حيلةٌ يلجأ إليها المفكرون لإنكار تلك الصيغة الدينية التي تضفي القداسة على الحاكم، والقول بأنّ الناس ولدوا أحراراً متساوين أمام الله، وأمام القانون الطبيعي، وأن اهتماماتهم واحدة، وليس المجتمع المدني نفسه سوى وسيلة لحماية هذه الاهتمامات وصيانتها. أمّا سلطة الملك أو الحاكم، بصفة عامة، فهي تنبع تماماً من الموافقة الشعبية ورضا الناس. وهذا المجتمع المدني صنعه الإنسان، وليس مجرد نمو طبيعي مثل الأسرة أو الشجرة أو خلية النحل، ومن ثم فإن الملوك كغيرهم من البشر يخضعون للقانون الطبيعي، ولأوامر الله ووصاياه، كما يخضعون لبنود العقد التي يفترضها مقدماً إنشاء السلطة؛ وكانت تلك طريقة أخرى للقول بأن سلطة الملوك مشروطة وليست مطلقة. وهكذا لمّا أعلن مجلس العموم البريطاني في يناير عام 1689 اتهامه للملك جيمس الثاني أنه "انتهك العقد الأصلي القائم بين الشعب والملك" فإنه فعل ذلك اعتقاداً منه أن هذا الانتهاك جريمةٌ تستوجب العقاب بصفة مستمرة، وهو عقاب يفرضه القانون الطبيعي. ومن هنا قيل إن تاريخ فكرة العقد الاجتماعي هو إلى حد كبير، تاريخ القانون الطبيعي نفسه.
كلّ هذه الحيوية التي شهدتها المجتمعات الأوربية إبان عصر التنوير والإصلاح البروتستانتي رافقه شدّ وجذّبٌ بين الفلاسفة أنفسهم، ونظرتهم إلى المجتمع وطبيعة النظام الحاكم وطبيعة العلاقات القائمة بين الشعب ومؤسسة السلطة. كما حدث بين فلمر وجوك لوك.
فالموقف الذي عبّر عنه روبرت فلمر المنظر السياسي الإنجليزي يعتبر نموذجاً لآخر محاولات أنصار الحكم المطلق القائم على أساس "الحق الإلهي" لاستعادة قوى هذا الحكم ومنعه من الانهيار. فتولّى جوك لوك الرد على فلمر في رسالتين، الأولى أخذت منحىً سلبياً والثانية عرض فيها نظريته السياسية، وهي أول محاولة لوضع أسس الليبرالية السياسية التي دعمها "مل" الأب والابن فيما بعد؛ وأقيمت عليها الديمقراطية في الولايات المتحدة، مما جعل الأمريكيين أنفسهم يصفونه بقولهم إنه "فيلسوف أمريكا" وواضع الأسس لفكرها السياسي.
ففي كتابه "الحكم الأبوي" أشار فلمر إلى أن البشر ليسوا أحراراً بالطبع، أو على حد تعبيره "ما من إنسان يولد حراً لأن العناية الإلهية قد أخضعتنا لإرادة الحاكم المطلقة"، بالتالي فالجميع يولدون عبيداً! ويستحيل أن يكون للعبيد حق التعاقد، فقد كان آدم حاكماً فرداً مطلقاً، وتلك حال جميع الحكام من بعده!. ولما كانت السلطة الملكية منبثقة من الشريعة الإلهية، وليس ثمّة شريعةٌ دنيويةٌ تحدُّ منها، فقد كان آدم سيد الجميع.
انتهى فلمر كما انتهى كل من أيدّ الحكم الثيوقراطي إلى أنه "ينبغي أن يكون الملك في نظام الحكم الملكي فوق القوانين، فالمملكة الكاملة هي التي يحكم الملك كل شيءٍ فيها بحسب إرادته المحضة". فكأن الرجل يريد للطغيان أن يسترد عرشه الذي راح يفقده مع تقدم العلم وتطور النظم الاجتماعية، وحجته الوحيدة: الكتاب المقدس؛ فقد كان آدم أباً وملكاً وسيداً على أسرته، وكان الابن، والمحكوم، والخادم، والعبد شيئاً واحداً. كما كان للأب حق التصرف في أولاده وخدمه وبيعهم... هكذا وهب الله الأب الحق أو الحرية في التنازل عن سلطته على أولاده لمن يشاء، فقد أراد الله أن تحل السلطة غير المحدودة في آدم، وأن تشمل جميع أفعاله الإرادية ... ثم ورث الملوك هذه السطلة عن آدم حتى يومنا الراهن.
فالحجة الغريبة التي يسوقها فلمر لاستعادة حكم الملوك المطلق هي: إن الله خلق آدم وحده، وصنع المرأة من أحد أضلاعه، وهكذا تناسل الجنس البشري منهما. كما أنّ الله خلع على آدم السلطة على المرأة وأولاده المنحدرين من صلبهما، كما أعطاه السلطة على الأرض لكي يسخّرها بإرادته، وعلى المخلوقات التي تدبُ عليها حتى لا يتاح لأيّ امرئ أن يطالب بشيء ما، أو يتمتع بشيء ما، ما دام آدم حيّاً إلا على سبيل الهبة أو بإذنٍ منه. وهكذا كان آدم ملكاً على العالم كلّه فلم يكن لأي عضو من سلالته حق امتلاك شيء إلا كمنحة منه أو بإذنه أو بالوراثة عنه.
ردّ جون لوك في رسالةٍ بعنوان "في بعض المبادئ الفاسدة في الحكم" ... جاء فيها:
- أن ما يقوله فلمر من أنّ كل فرد يصبح بحكم المولد، مُسخّراً بمحض ولادته لمن يلده... إلخ، فكرة بالغة الخطأ، وذلك لأن إنجاب الأب لأبنائه لا يجعلهم عبيداً له. ولقد ترتب على فكرة فلمر أن الناس يولدون عبيداً، وما دام قد تم تفنيدها فإنه يلزم عن ذلك أن البشر جميعاً يولدون أحراراً.
- إن من الخطأ القول بأن التسلط على الأولاد هو مصدر كل سلطة في الحكم، فهناك كثرة من الأحكام المتسلطة لا صلة لها بعلاقة الأب بأبنائه داخل الأسرة.
- إن سلطة الأب على أبنائه تستمر ما داموا لم يبلغوا سن الرشد. أمّا في مرحلة النضج فإنهم يصبحون مسؤولين عن أنفسهم، ومعنى ذلك أن سلطة الأب ليست مطلقة وإنما هي مؤقتة ومحدودة بفترة معينة هي التي يكون فيها الأبناء قصراً.
- العلاقة بين الملك ورعاياه ليست شبيهة بالعلاقة بين الأب وأبنائه، فالأولى علاقة سياسية في حين أن الثانية علاقة أخلاقية.
- إذا كانت السلطة المزعومة قد خلعت على آدم في الوصية الخامسة "أكرم أباك وأمك"، فمن الواضح أن هذه الوصية تعطي السلطة للمرأة أيضاً لأنها لم تتحدث عن الأب فقط بل عن الأم كذلك.
- حتى إذا افترضنا أنه كان لآدم حق إلهي أعطاه إياه الله، فلا يعني ذلك أن يورّث بل ينتهي بموته، ذلك لأن الحق المنبثق عن وصية إلهية صريحة لا يتجدد إلا بتجدد هذه الوصية.
- لو سلمنا جدلاً بمبدأ السلطة الملكية المطلقة المنحدرة عن آدم، فإن المشكلة السياسية الكبرى ستكون تعيين الوريث الشرعي لآدم، وصاحب الحق في هذه السلطة في دولة معينة، وفي فترة زمنية محددة، ولما كنّا جميعاً ورثةً لآدم بحكم كوننا من أولاده فلنا جميعاً حقٌ متساوٍ في هذه السلطة المطلقة.
إن نظرية لوك السياسية تسير في طريق مضاد تماماً لفكر فلمر، وهي تلخص في عبارة واحدة: "جميع أشكال الحكم محدودة في سلطتها، وهي لا توجد إلا برضا المحكومين" والأساس الذي يبني عليه لوك هذه القاعدة هو أن كلّ إنسان يولد حرّاً.
يبدأ جوك لوك في رسالته الثانية بسؤال هام هو: ما السلطة السياسية؟ فيقول: أعني بالسلطة السياسية: حق التشريع وإصدار القوانين، وتنفيذ عقوبة الإعدام، وما دون ذلك من عقوبات، للمحافظة على الملكية الخاصة وتنظيمها، واستخدام قوة الجماعة في تنفيذ مثل هذه القوانين، وفي الدفاع عن الدولة ضد العدوان الخارجي، ولا يكون ذلك إلا من أجل الصالح العام". ثم يُبيّن أنّه لكي نفهم هذا التعريف فهماً جيداً فلابدّ أن ندرس الوضع الطبيعي الذي كان البشر فيه وهو وضع "الحرية التامة" وهو أيضاً "وضع المساواة"؛ فالحرية الطبيعية مشتقة من المساواة الطبيعية، إذ ليس ثمّة ما هو أوضح من أن الكائنات من نفس النوع والرتبة تولد مستمتعةً بكل مميزات الطبيعة، وبكل قواها، ولهذا ينبغي أن تتساوى كل التساوي فيما بينها دون أن يسخّر أحدها الآخر أو أن يخضع له.
وهكذا، ولأول مرة، يظهر الأساسان الجوهريان للديمقراطية: الحرية والمساواة في دراسة فلسفية متأنية تمت ترجمتها عملياً، في "الإعلان الأمريكي للاستقلال" الذي صدر أثناء ثورة المستعمرات الأمريكية في سبيل الحكم الذاتي، والحياة الوطنية، وعبر أصدق تعبير عن روح العصر الجديدة، وجاء متفقاً مع ما طالب به جوك لوك.
أخذ جون لوك بالبحث عن الأساس الذي تعتمد عليه أفكاره البالغة الأهمية عن: حق الحياة – حق الملكية – حق الحرية – حق المساواة، فكان ما أسماه بحالة الطبيعة (والتسمية لهوبز وإن كانت الفكرة مختلفة) فهي الحالة التي كان فيها الإنسان حراً، لكنها مع ذلك لم تكن حالة من الإباحية. ذلك لأن حالة الطبيعة يحكمها قانون الطبيعة الملزم، فلا ينبغي أن نفهم حرية البشر على أنها تعني أن الناس لا يضبط سلوكهم أي قانون، فلا تكون هناك حرية ما لم يكن هناك قانون. فحرية الإنسان الطبيعية هي: ألا يكون هناك سوى قانون الطبيعة قاعدة له. وهذا عكس ما فهمه أفلاطون وأرسطو من الحرية في النظام الديمقراطي والتي تعني في رأيهما الميل مع الهوى.
إن جون لوك يرى أنّه حتى في حالة الطبيعة فإن العقل هو هذا القانون الطبيعي الذي يُعلّم جميع البشر إذا استشاروه، إنهم جميعاً متساوون أو مستقلون، ولا ينبغي لأحد أن يُلحق أذىً بحياة غيره أو صحته أو حريته أو ممتلكاته. ولمّا كان الجميع مزودين بملكات طبيعية واحدة مشتركة، فلا يمكن أن نفترض أن هناك إنساناً يخضع لغيره، أو أن يكون هناك من له الحقّ في تدمير غيره، كما لو كان قد خلق من أجل أن يستخدمه الآخر، في حين أن المراتب الدنيا من الكائنات الأخرى، قد خلقت من أجلنا.
تابع الفلاسفة والمفكرون مسيرة التطور التي شملت كافة الميدان الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتي ساعدت على صعود الديمقراطية، ومهدت الطريق لتغييرات جذرية حدثت في المجتمعات الغربية عموماً وفي مقدمتها الحرب الأهلية الإنجليزية والثورة الفرنسية وحرب المستعمرات الأمريكية ضد الاحتلال البريطاني والتي غيرت تاريخ المنطقة برمته، نتيجةً لتراكمات الفكر الفلسفي والجهود الكبيرة التي بذلها المفكرون في هذا الميدان، من أمثال دوركهايم وهيجل وستيوارت مل وآدم سميث وماركس وكانط وروسو ومونتسكيو ...إلخ.
فظهرت جملة من المبادئ الأساسية التي ساندت الديمقراطية في صعودها كنظام للحكم وملاذاً للوصول إلى تمجيد الإنسان كقيمة بدلاً من تمجيد الحاكم والسلطة:
- أن الناس جميعاً أحرار وهم سواء في حقهم في الحرية.
- الحقوق الطبيعية ليست منحةً من أحد، وإنّما هي خصائص للذات البشرية.
- أن الناس جميعاً متساوون ولا مراتب ولا درجات ولا فئات بين البشر.
- السلطة السياسية قامت على أساس التعاقد المبني على التراضي بين طرفي العقد، فلا يستطيع أحد أن ينتزع السلطة ليحكم رغماً عن إرادة المحكومين، وإلا أصبح مغتصباً "فالاغتصاب ليس إلا الاستيلاء على ما هو من حقّ امرئ آخر".
وإذا كان الاغتصاب عبارة عن ممارسة فرد لسلطة هي من حق شخص آخر كان ذلك طغياناً. فالطغيان هو ممارسة السلطة التي لا تستند إلى أي حق والتي يستحيل أن تكون حقّاً لشخص ما بحيث يجعل الحاكم – أيّا ما كان اسمه – من إرادته قاعدةً للسلوك عوضاً عن القانون.
أمّا الملوك أو الحكام الذين ليسوا طغاةٍ فإنهم يتقيدون عن رضا بالقيود التي تفرضها عليهم قوانين بلادهم. وباختصار يبدأ الطغيان عندما تنتهي سلطة القانون.
تميزت نهاية القرن السابع عشر في إنجلترا بنشر كتابات جون لوك السياسية، التي كان لها أثر واسع المدى في الفكر السياسي في أوربا وفي الولايات المتحدة في آنٍ معاً، وإن كانت إنجلترا نفسها قد أقبلت على فترة هدوء – ولعلها ركود – فأصبح الفكر الإنجليزي محافظاً، بل وراضياً. إذ على الرغم من نظام الحكم الذي يخدم مصالح طبقة واحدة ويشيع فيه الفساد، فإنّه كان ليبرالياً، بل وأفضل بكثير من نظم الحكم التي كانت سائدة في بقية الدول الأوربية. وبذلك انتقل مركز الثقل، في مجال النظرية السياسية، إلى فرنسا منذ أول القرن الثامن عشر وحتى قبيل الثورة الفرنسية. ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى حكم لويس الرابع عشر الملقب "بالملك الشمس" أو "الملك الأعظم"، الذي حكم فرنسا حكماً مطلقاً يقوم على "الحق الإلهي" عبّر عنه الأب جاك بوسويه بقوله: "ليس العرش الملكي عرش إنسان، ولكنه عرش الله ذاته". وأدى حكمه إلى تدهور البلاد وإشرافها على الإفلاس، ففي الخارج وقفت أوربا كلّها ضد طموحاته، وفي الداخل تمزّق المجتمع إلى أشراف يستأثرون بالمناصب الرفيعة في الدولة، وكنيسةٌ تمتلك ثورة طائلة تبلغ خُمس أراضي فرنسا، وكادحين لا يجدون قوت يومهم فضلاً عن الضرائب الباهظة الجائرة التي تفتقر إلى المساواة، وطبقة وسطى انتشرت في المدن ونظرت إلى النبلاء ورجال الكنيسة نظرة احتقار وازدراء. في هذه الظروف أمست هناك حاجة إلى نقد هذا النظام، بل وتقويض الدعائم التي يقوم عليها والتي ترتكز أساساً إلى الحكم المطلق، وعدم المساواة، وعدم التسامح الديني، وانعدام الحريات. غير أنّ النقد يحتاج إلى أساس نظري، فجاءت كتابات لوك السياسية لتزود الفكر الفرنسي بهذا الأساس، وكانت الدعامة التي قامت عليها حركة التنوير الفرنسية في القرن الثامن عشر. فبفضل إقامة فولتير في إنجلترا، وإقامة مونتسكيو فيها عشر سنوات، أصبحت فلسفة لوك أساس حركة التنوير الفرنسية، وأصبح الإعجاب بالحكم الإنجليزي الفكرة الأساسية لليبرالية الفرنسية. وأصبحت المبادئ الواردة في "رسالات في الحكم" بديهيات النقد السياسي والاجتماعي.
مونتسكيو
لم يشكّل الفلاسفة والمفكرون جماعة منظمة تأخذ على عاتقها دعم الديمقراطية، ومحاربة الطغيان، وتقديم سبل الفرار منه. بل على العكس يمكن القول بأن تأُثيرهم كان فردياً "شخصانياً"، وربما مبعثراً بطبعه. فمن الممكن أن تجد فكرةً هنا، وأخرى هناك، ولكنها تتجمع في النهاية لتصب في مسار الفكر البشري المتطور وفقاً لعملية تراكمية ممتدة عبر عصور وثقافات مختلفة. ولكل هذا يمكن للديمقراطية أن تستفيد من الذين نقدوها – حتى من نقدوها بطريقة عنيفة أحياناً – ومن هؤلاء المفكرين والفلاسفة "مونتسكيو". فرغم إيمانه بالحكم الديمقراطي البرلماني، أخذ في الوقت عينه بجملة من الأفكار المتناقضة مع الديمقراطية في جوهرها الدقيق، فمثلاً أكدّ على النظام الطبقي الذي يميّز الأفراد بسبب المولد أو الثروة، وأيّد وجود امتيازات لطبقة النبلاء. ورغم وثوقه بمبدأ الانتخابات العامة فقد منع أولئك الذين انحطوا إلى الدرك الأسفل من النذالة والدناءة، فانعدمت فيهم كل إرادة خاصة، من المشاركة بالإدلاء بأصواتهم لاختيار ممثليهم. وذهب مونتسكيو إلى أن هناك فئة من الناس المُميّزين من حيث الثروة أو الميلاد أو الجاه ينبغي المحافظة عليها، وعلى ما لديهم من امتيازات، ومن ثمّ فإذا لم يعطوا سوى صوت واحد مثلهم مثل أفراد عامة الشعب أصبحت حريتهم العامة في خطر. لهذا كان من الضروري حماية امتيازات هذه الفئة والحيلولة دون زوالها، وذلك بإعطاء النبلاء امتيازات على الصعيد التشريعي، بحيث يشكّلون هيئة تشريعية مستقلة تتمتع بحق نقض القرارات التي تتخذها هيئة التمثيل الشعبي، كما يفترض في هيئة النبلاء أن تكون وراثية، ومن الواجب منح هذه الهيئة سلطة قضائية: "لما كان النبلاء عرضة للحسد والغيرة، فمن الواجب أن يحاكموا من قبل أندادهم، تجنباً لصدور أحكام جائرة ضدهم. إذ لا يجوز مقاضاتهم أمام محاكم عادية، وإنّما أمام الهيئة المكونة من النبلاء".
مع كل ذلك فقد أثّر مونتسكيو في مسيرة الديمقراطية ومحاربة الطغيان تأثيراً قوياً على الأقل من ثلاث زوايا:
أولاً: محاربة الرق
من المعروف أنّ فقهاء القانون يميّزون بين مصطلح "الشعب" بمدلوله الاجتماعي الذي ينصرف إلى جميع الأفراد الذين ينتمون إلى دولة ما، والشعب بمدلوله السياسي الذي لا يمتد إلى كل هؤلاء الأفراد، وإنما يقتصر على من لهم حق مباشرة الحقوق السياسية، وأنّه كلما اقترب المدلولان وتوثّقت العلاقة بينهما كان أكثر تعبيراً عن المبدأ الديمقراطي. غير أن وجود الرق يجعل الهوة بين المفهومين أكثر اتساعاً، كما يجعل التطبيق الديمقراطي معيباً. ومن هنا كانت محاربة مونتسكيو للرق تدعيماً غير مباشر للديمقراطية.
فيقوم بتفنيد جميع المبررات التي ظهرت طوال التاريخ لتبرير وجود الرق، ويبدأ بما ذكره أرسطو من أن الرق مفيد للسيد والعبد معاً، فيقول: "غير مفيد للسيد ولا للعبد، غير مفيد للسيد لأنه لا يستطيع صنع شيء عن فضيلة، وغير مفيد للعبد لأنه يخلق في العبيد جميع أنواع العادات السيئة، إذ يتعود العبد دون أن يشعر فقدان جميع الفضائل الخلقية، لأنه يصبح عاتياً، متسرعاً، قاسياً، غضوباً شهوانياً جائراً". وهو يتفق مع جون لوك بأن الناس جميعاً ولدوا أحراراً، ومن ثم "فلا يجوز أنّ تُخمد الطبيعة البشرية أو تُذل، كما أنّ وجود العبيد مخالف لروح النظام في الديمقراطية".
وفنّد مونتسكيو مصادر الرق الثلاثة التي ذكرها "جوستنيان" في مدونته عندما يقول إنّ الرق يأتي من "أسرى الحرب – المدنيين – بيع الأب لأبنائه". كما ندّد بالمتعصبين الأوربيين الذين أباحوا استرقاق الزنوج لاعتقادهم أنّ الله، وهو ذو حكمة بالغة، لا يمكن أنّ يكون قد وضع روحاً طيبة في جسدٍ أسودٍ حالك السواد. وكأنّ اللون هو الجوهر الذي تقوم عليه الإنسانية.
ثانياً: كراهية الاستبداد
لم يخرج مونتسكيو في تقسيمه لأشكال الحكم عن التراث التقليدي في الفكر السياسي، فقد قسمها لثلاثة أنواع، كلُّ واحدٍ منها يتميّز بطبيعة وبمبدأ. ويقصد بالطبيعة الشخص أو الجماعة التي تملك السيادة في الدولة. بينما يقصد بالمبدأ الوجدان الذي يسري في القائمين على الحكم إذا كان لهذا الحكم أنّ يعمل على أفضل وجه. أمّا الأنواع فهي: الجمهورية، والملكية، والاستبداد. وهو يقوم بتقسيم النظام الجمهوري إلى نوعين: جمهورية ديمقراطية عندما تكون السلطة العليا بيد الشعب، وجمهورية أرستقراطية، عندما تكون السلطة العليا محصورة في يد من فئة قليلة من الشعب. أمّا الحكم الملكي فهو نظام تكون فيه السلطة العليا في يد شخصٍ واحد هو الملك، لكنه يحكم وفقاً لقوانين مقررة تُنشئ قنوات من خلالها تسري السلطة الملكية. أما الاستبداد فهو نظام حكم الفرد الواحد، وفقاً لأهوائه ورغباته دون التقييد بقواعد أو قوانين. فهو لا يسترشد ولا يتوجه إلا بإرادته الخاصة وأهوائه الشخصية.
وتختلف هذه الحكومات في مبادئها: فالفضيلة السياسية، أو حب الوطن وقوانينه، والاستعداد للتضحية بالذات، هي مبدأ الحكم الجمهوري. أمّا الشرف – بمعنى النخوة والطموح والقيام بالأعمال العظيمة التي تتناسب مع المرتبة الاجتماعية والعسكرية لصاحبها – فهو مبدأ الحكم الملكي. بينما مبدأ الحكم الاستبدادي يكمن في خوف الرعايا، ورعبهم، وخضوعهم أمام سلطة السيد المستبد.
ويرى مونتسكيو أنّ الملكية هي النظام العصري لحكم بلاد متوسطة المساحة، ومبدأ الملكية هو "الشرف"، وهو معنى لا يوجد إلا في مجتمع يقوم على أساس وجود امتيازات وتفضيلات لقلة من الناس، "فإن لم يكن هناك ملك، فلن تكون هناك طبقة نبلاء، وإن لم يكن هناك طبقة نبلاء، فلن يكون هناك ملك، وإنّما سيكون هناك طاغية مستبد".
ويرى مونتسكيو أنّ نظام الاستبداد، هو نظام يقوم على خوف المواطنين وإرهابهم من السيد الحاكم، ولا يحتمل أيّة سلطات وسطى. يُلقي الناس في هوة الذل والمهانة، ولا يحافظ على وجوده إلا بسفك الدماء، والطاعة التي يتطلبها من رعاياه هي الطاعة العمياء. والتربية والتعليم في النظام الاستبدادي لا تهدف إلا إلى تكوين أفراد يدينون بالولاء والإخلاص للحاكم ويتميزون بالطاعة العمياء في تنفيذ أوامره، ويعوزهم التفكير المستقل. والطاعة العمياء تفترض الجهل فيمن يطيع بلّ وفيمن يأمر، لأنّه لا يفكر ولا يتروى بل عليه فقط أن يريد. وتقتصر التربية على بث الخوف في قلوب الرعية وتلقين بعض مبادئ الدين البسيط، فيقول: "كل بيت في الدولة المستبدة إمبراطورية منفصلة، وتكون التربية القائمة هناك على عيش الإنسان مع الآخرين محدودة جداً، وهني تقتصر على إلقاء الخوف في قلوب الناس، وتلقين الروح بعض مبادئ الدين البسيطة جداً. ذلك أنّ المعرفة ستكون خطرة، والتنافس نحساً. ولم يستطع أرسطو الاعتراف بوجود فضائل خاصة للعبيد. فالتربية في الدولة المستبدة كأنّها عدمٌ، فلا بدّ من انتزاع كلّ شيء، ولا عطاء لشيءٍ ما، وجعل الفرد عضواً فاسداً، ابتغاء جعله عبداً مطيعاً، فرعايا الدولة الاستبدادية مجردون من كل فضيلة خاصة بهم، "وليس في الدول الاستبدادية عظمة نفس، لأن الحاكم فيها لن يعطي عظمة لا يملكها هو نفسه، إذ لا يوجد عنده مجد. وإنّما في النظام الملكي يشاهد حول الأمير الرعايا وهم يتلقون إشعاعاته"، وبالتالي يميل الاستبداد إلى هدم الدولة ذاتها بهدمه لروح المواطن الذي هو أساس هذه الدولة. وفي الدولة الاستبدادية تقل القوانين بل تنعدم، ولا بدّ أن يكون المحكومون جهالاً، جبناء، محطمي النفوس.
ثالثاً: فصل السلطات
الحرية السياسية التي نادى بها مونتسكيو لم تكن تعني حرية التصرف وفق الأهواء الشخصية، بل يعني أنّ لكل مواطن أن يعمل كلّ ما تسمح به القوانين. ذلك لأنّه لو أبيح للمواطن أن ينتهك القوانين ويتجاوزها لما بقيت هناك حرية، لأنّ الجميع سيبيحون لأنفسهم انتهاك القوانين بدورهم. لا تتوافر الحرية السياسية إلا حين لا تنقضها تجاوزات السلطة، ولكي لا تتجاوز السلطة حدودها لابدّ أن تكون هناك سلطة كابحة لها، ومن هنا جاء مبدأ مونتسكيو الشهير: "لابّد للسلطة أن تحدّ السلطة". والدولة تتضمن ثلاثة سلطات:
أ- السلطة التشريعية: تشريع القوانين المنظمة لعلاقات الأفراد في المجتمع.
ب- السلطة التنفيذية: وتشمل الشؤون الخارجية ومهمتها تنفيذ القوانين الصادرة عن السلطة السابقة. وحفظ الأمن بالداخل، وحماية البلاد من الاعتداءات الخارجية.
ت- السلطة القضائية: وهي التي تقوم بتطبيق القوانين على المنازعات التي تنشأ بين الأفراد والفصل في الخصومات وفرض العقوبات على كل من يخالف نصوص القوانين.
ولقد أكدّ مونتسكيو أنّ الفصل القاطع بين هذه السلطات الثلاث في الدولة هو الشرط لوجود الحرية، يقول: "إذا اتّحدت السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية فلن تكون هناك حرية، إذ يخشى أنّ يقوم الحاكم، أو يقوم مجلس الشيوخ بسن قوانين استبدادية من أجل أن ينفذها استبدادياً. ولن تكون هناك حرية أيضاً إذا كانت سلطة القضاء غير منفصلة عن السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، لأنّها إذا كانت مرتبطة، بالسلطة التشريعية، فإن السلطة على حياة المواطنين وحريتهم ستكون اعتباطية، إذ سيكون القاضي مشرّعاً. وإذا ارتبطت بالسلطة التنفيذية، فيمكن أنّ تكون للقاضي سلطة البطش، وسيضيع كل شيء لو أنّ نفس الشخص، أو نفس الهيئة من الرؤساء أو من النبلاء أو من الشعب مارست هذه السلطات الثلاث معاً: سلطة تشريع القوانين، وسلطة تنفيذ القوانين العامة، وسلطة الفصل في الجرائم والمنازعات بين الأفراد. وإذا أراد الحكام أنّ يكونوا مستبدين بدأوا بتجميع السلطات في شخصهم دائماً ..".
روسو
إن الفكرة الأساسية التي آمن بها جون لوك والتي تفيد بأن الناس يولدون أحراراً بالطبيعة – كانت مسلمة عند روسو – فهو يفتتح بها كتابه "العقد الاجتماعي" وكأنّها بديهية لا تحتاج إلى عناء البرهنة أو التدليل عليها: "يولد الإنسان حرّاً، لكننا نراه مكبلاً بالأغلال في كل مكان ...". وهو يرد هذا الوضع السيئ إلى الأنظمة السياسية والاجتماعية الفاسدة التي سلبت الناس حريتهم الطبيعية، بحجج وأعذار شتى، وجعلتهم مجرد قطيع من الماشية "ولكل قطيع راعيه الذي يحرسه ليفترسه".
لقد دعم "روسو" مسيرة الديمقراطية، وأمدّها بكثير من العناصر الهامة. صحيح أنّه كان يؤمن بنوع خاص منها هو "الديمقراطية المباشرة"، إلا أنّ هناك أفكاراً عامة ومشتركة وأساسية بين جميع أنواع الديمقراطية، منها: أن يكون الحكم للشعب برضى الناس وموافقتهم، وبالاتفاق بينهم من ناحية، وبين الحاكم من ناحية أخرى. وهو ما أسماه "روسو" بالعقد الاجتماعي، ومنها أنّ يكون مفهوم الشعب عاماً وشاملاً لا يقتصر على فئة أو طبقة أو هيئة معينة، ومنها أنّ تسود المساواة بين جميع أفراد الشعب، وأن تتوافر للجميع حرية إبداء الرأي والمناقشة، وحق الاقتراع العام، وأن تكون القوانين ممثلة للإرادة العامة لا لإرادة شخص أو مجموعة من الأشخاص.
والأساس الذي يرتكز عليه "روسو" في رفضه للنظم الاستبدادية التي تحيل البشر إلى عبيد للحاكم، هو أنّ تكوين الدولة لابّد أن يعتمد على الاتفاق الحر بين الناس، فما دام الإنسان ليس له سلطة طبيعية على إخوانه من البشر، وما دامت القوة لا تمنح الحاكم أيّ حق، ترتب على ذلك أنّ أيّ سلطة مشروعة بين الناس ينبغي أن تقوم على أساس الاتفاق". لكن ألا يجوز أن يكون الخضوع لقوة الحاكم هو نفسه ضرباً من ضروب الاتفاق؟. يجيب روسو بالنفي: "فالخضوع للقوة هو فعل من أفعال الضرورة، لا من أفعال الإرادة ...". وبالتالي لا يمكن أن يقوم الخضوع لقوة الحاكم على أساس الاتفاق. وهنا يفنّد "روسو" فكرة المفكر والمشرع الهولندي "جروتيوس" التي يقول فيها: "إذا كان في استطاعة الفرد أن يتنازل عن حريته، ويصبح عبداً لسيدٍ ما، فلم لا نقول إنّ شعباً بأسره يمكن أن يتنازل عن حريته ليصبح رعية لملك ما؟". ويرد "روسو" بأنّ التنازل عن شيء هو إعطاؤه أو بيعه، والإنسان الذي يصبح عبداً لآخر لا يعطي نفسه بل يبيعها، على الأقل، من أجل قوْته، لكن ما هو المقابل الذي يبيع الشعب نفسه من أجله؟، من المستبعد جداً أن يوفر الملك الطعام لشعبه، لأنّه، على العكس، يستمد طعامه منه، والملوك، كما يقول رابليه: "لا يرضون بالقليل من الطعام ولا يعيشون على الكفاف!" فهل يتنازل الناس عن حريتهم، ويبيعون أنفسهم للملك، لكي يأخذ ممتلكاتهم أيضاً؟!.
لكن قد يقال إن الحاكم المستبد، أو الطاغية، يضمن لرعاياه السكينة والسلام، لا القوت والطعام. غير أنّها حجة يردّ عليها روسو: "بأنّ الشعوب تخوض الحروب، في الخارج، لإشباع طموح حكامها ونهمهم الذي لا يرتوي، كما أنّ صفو السلام والهدوء في حياة المجتمع، تتسبب في تعاسة الناس وشقائهم وحتى لو افترضنا جدلاً، أنّ الحكم الاستبدادي يوفر الهدوء والسكينة للناس، ألا يكون هذا الهدوء، وتلك السكينة، أشبه بصمت السجون، أيكون ثمّة قيمة لسكينتك وأنت في زنزانة السجن؟! أيكفي ذلك لأن تكون سعيداً؟ أتكون الزنزانة في هذه الحالة، أمراً مرغوباً فيه؟ ألم يكن اليونانيون المسجونون في كهف السيكلوب، يعيشون هادئين في سلام، وهم ينتظرون دورهم ليلتهمهم هذا المارد؟!".
ويعتقد "روسو" أنّ الحكم التعسفي، لكي يصبح حكماً مشروعاً، لابّد أن يكون لكلّ جيل جديد الحرية في قبوله أو رفضه، إلا أنّ الحكم في هذه الحالة يكف عن أن يكون تعسفياً. إن تنازل الإنسان عن حياته يعني أنّه يتنازل عن إنسانيته، أيّ أن يتنازل عن حقوقه وواجباته كإنسان. ولا يمكن أن يكون هناك مقابل لمن يتنازل عن كل شيء. ففي الواقع أنّ مثل هذا التنازل مضاد لطبيعة الإنسان ذاته، فلو أنّك انتزعت منه حرية الإرادة كلها، فإنك تنتزع عنه كلّ مغزى أخلاقي في أفعاله. وأخيراً فإنّ الاتفاق الذي تكون فيه السلطة المطلقة في جانب، والطاعة المطلقة في جانب آخر هو اتفاق باطل وضد المنطق. وهكذا ينتهي روسو إلى أنّ حق الاستعباد، من أيّة زاوية نظرنا إليه، هو حقٌ باطل، لا لأنّه لا يمكن تبريره فحسب، وإنّما لأنّه لغوٌ لا معنى له. والواقع أنّ كلمة "حق" وكلمة "استعباد" كلمتان متناقضتان، إحداهما تلغي الأخرى. وسواء أكان الأمر بين إنسان وإنسان، أو بين إنسان وشعب بأسره، فمن المحال، دائماً، أن نقول: "إنني أعقد معك اتفاقاً بموجبه يكون كل شيء على حسابك وكل شيء في صالحي، وسوف احترمه ما دام يروق لي ذلك، وسوف تحترمه أنت ما دام يروق لي أيضاً".
فالعقد الاجتماعي أو – الاتفاق السليم – إنما يقوم على موافقة جميع الإرادات الحرة لجميع أفراد الشعب، بحيث يكون الالتزام الاجتماعي للفرد داخل الجماعة التزاماً حراً وذاتياً. إنّه نوع من الاتحاد يحمي شخصية كل فرد وممتلكاته، ويدافع عنها باستخدامه القوة العامة للمجتمع، ويطيع فيه الإنسان الفرد نفسه فقط، بالرغم من أنّه متحدٌ مع الباقيّن، وبالتالي فإنّه يبقى محتفظاً بأقصى درجاته حريته. ويقول روسو: إنّنا إذا استبعدنا من الميثاق الاجتماعي ما ليس من جوهره فسوف نجد أنّه يتقلص إلى العبارة التالية: "يسهم كلّ منّا في المجتمع بشخصه، وبكل قدرته تحت إرادة الإرادة العامة العليا، ونلتقي على شكل هيئة، كلّ عضو فيها جزءٌ لا يتجزأ من الكلّ". وهكذا تظهر "الجمهورية" أو الهيئة السياسية التي يطلق عليها أعضاؤها اسم "الدولة". أمّا المشاركون فإنّهم يتخذون بصورة جماعية اسم "الشعب"، ويسمون فرادى باسم "المواطنين" بمقدار ما يشاركون في قوة السيادة، وباسم "الرعايا" من حيث إنّهم يخضعون لقوانين الدولة.
العقد الاجتماعي: جان جاك روسو، ت: عادل زعيتر، مؤسسة الأبحاث العربية.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...