(القبيح ما ينبو عنه البصر من الأعيان ،وما تنبو عنه النفس من الأعمال والأحوال). الراغب الأصفهاني. لم يملك أحد حتى الآن القدرة النظرية على تعريف القبح تعريفاً جامعاً مانعاً ،ولن يملك أحد في المستقبل مثل هذه القدرة ، وآية ذلك أن القبح ينتمي إلى المفاهيم القيمية الجمالية التي يٌختلف حول تحديدها عادة ، لأن ارتباطها بالذوق ارتباطاً صميمياً. ولهذا كان الجهد منصباً على تعريف الجمال في محاولة لوضع معايير الجميل ،وكان السؤال حول الجميل بما إذا كان الجميل موجوداً في الذات التي تصدر الحكم أم في الواقع .ولهذا غالباً ما يعرف القبح بأنه نقيض الجمال و الحسن . و تعريف القبح بوصفه نقيض الحسن ليس تعريفاً بالصفات الجوهرية أو الماهوية التي تحدد القبح . بل إن تعريف الجمال نفسه كتناسب و تناسق و انسجام ليس تعريفاً مفيداً في تحديد نقيضه -القبيح.فالتناسق و التناسب والإنسجام صفات لا نستطيع تعريفها أبداً. إذا انطلقنا من أن الجميل ،في الأساس ،لا يقال على الأشياء التي لا يد للإنسان فيها،فإن القبيح بدوره لا يقال على الأشياء التي ليست تعبيراً عن شغلنا. إذاً فإن الأحكام المتعلقة بالجميل و القبيح لا تقال إلا على الأثر البشري ،فهي بالتالي أحكام قيمة. إن تصور الشيطان ككائن أسطوري في صورة إنسان مشوه جاحظ العينين الحمراوين ،كبير الفم و الأسنان ،كبير الأنف المعقوف ،كث الشعر،أظافر طويلة نافرة ،وظهر محدودب،وقرنين معقوفين على جانبي رأسه،وله أجنحة سوداء كل لذلك لجعل الشيطان قبيحاً في أعين الناس ،كل ذلك بسبب دلالته المرتبطة بالشر. لكن اللوحات التي رسمها الفنان الإسباني ريكاردو فاليرو للشيطان لإظها قبحه هي من الزاوية الفنية جميلة. فسلب السمات الخلقية البشرية المألوفة للإنسان واحدة من طرق التعبير الفني الجمالي عن القبح. فهل باستطاعتنا القول بأن الجميل هو ما يثير في النفس الفرح والبهجة والسرور واللذة والمتعة،وإن نقيضه أي القبيح، هو ما يثير في النفس الإشمئزاز و النفور والتقزز والغضب؟ إننا لا نستطيع أن نحكم على الأشياء دائماً من حيث قبحها وجمالها بناء على ما تثيره في النفس من أحاسيس، لا سيما بأن هذه الأحاسيس متغيرة لدى الفرد الواحد ،ومتنوعه بين الأفراد.فما يثيره شيء ما من الإشمئزاز لدى فرد ما ،قدلايثيره لدى آخر .فالثقافات وتنوعها تخلق الذوق والأحكام المتعلقة بالجميل و القبيح .فهل باستطاعتنا أن نطلق على الفار صفة القبيح أو الجميل مثلاً،لا طبعاً . لنترك تعريف ما لا يُعرف إلا بناء على على ما يثير فينا من ردود فعل نفسية ، لأننا لا نستطيع أن نجعل من ردود أفعالنا أساساً لأي تعريف ، وذلك لأن ردود أفعالنا تتغير من جهة ، و تختلف من كائن لآخر من جهة ثانية كما قلنا . فالقول بأن الحجر جسم صلب و إن الشجرة كائن حي نباتي وإن الساعة آلة لقياس الزمن قول يشير إلى تعريفات دقيقة موضوعية ثابتة ولا علاقة لها بشعوري بها . ولكن لو قلت بأن الحجر جميل أو قبيح فهذا ليس تعريفاً بل إنما نتحدث عن ردنا فعلنا على منظر الحجر وهكذا. فلنقل إذاً القبح ليس واقعة مادية طبيعية موضوعية. فليس في الطبيعة وجود جميل أو قبيح بل هناك إحساس ذاتي فقط بالجميل والقبيح في الطبيعة. وقائل يقول : القبيح هو الشاذ و الخارق للمألوف وللمعايير المعهودة . ولكن معايير العنصري الأبيض تجعل من الزنجي قبيحاً ،بسبب لونه وقسمات وجهه،وقد يرى الزنجي في شقرة الأوربي قبحاً ، هذا القول لا يصمد أمام التحليل السابق فهناك الجميل غير المألوف و الخارق للمعايير.فأغلب لوحات سلفادور دالي خارقة للمألوف.والبجعة السوداء ليست قبيحة أو جميلة وهي شاذة عن مألوف الطبيعة ، و الطير المتعدد الألوان جداً حالة غير عامة ، بل و شاذة . إذاً لننطلق من تعريفنا للقبيح الذي نعمل على جعله عاماً ،ضاربين الصفح عن الذوق الجمالي الذاتي . لنقل بأن مفهوم القبيح ينتمي إلا مبحث الأخلاق دون أن يفقد علاقته بمبحث الجمال. فيكون تعريف القبيح ،والأمر كذلك ،كل سلوك عملي أو معنوي ينال من حياة الإنسان الحرة الكريمة وحقه .سواء ولد هذا السلوك القبيح شعوراً بالنفور أو شعوراً بالقبول . تعريف كهذا يجعل القبيح منتمياً إلى مبحث القيم و الأخلاق من جهة،ويمنحه حظاً من الموضوعية متجاوزاً مفهوم النسبية التي يحلو لبعض الذين يأتون أمراً قبيحاً الإختفاء خلفها. ولما كانت القيم والأخلاق عموماً ذات ارتباط مطلق بقيمة الإنسان ومركزيته وبالتالي حريته ،فكل قول أوسلوك أو موقف نظري وعملي ينال من قيمة الإنسان ومركزيته وحريته هو قبح لا جدال فيه ،ولا تسري عليه صفة النسبية. لو جعلنا من مفهوم الطاغية دليلاً على صحة ما نقول لوجدنا مثالاً يؤكد على نحو مطلق علاقة الطاغية بالقبح. فالطاغية هو في الغالب شخص يقتل بدافع الحفاظ على سلطته.إنه يقتل آخر مختلف يدافع عن حقه بالحرية والتعبير عن ذاته .إذاً هذا السلوك العملي هو سلوك قبيح لا نسبية فيه أبداً.الأداة البشرية التي يستخدمها لتنفيذ مصلحته هي الأخرى قبيحة ،الكائنات التي تصفق له تصفق للقبح .الشاعر الذي يصمت عن جرائمه أو الذي يدبج له القصائد ذو سلوك قبيح .إذاً القبح هنا مفهوم أخلاقي قبل كل شيء،وهذا حكم لا لبس فيه.فالأحكام الجمالية في معظمها نسبية ،لكن القبح الأخلاقي بسبب ارتباطه بالنيل من مركزية الإنسان وقدسيته هو القبح الذي لا خلاف حوله. نتيجة لما سبق ،باستطاعتي القول بأن هناك ذاتاً قبيحة تنتج القبح ،أو هو،أي القبح ، صفة من صفات ذات ما تتعين بالسلوك العملي و المعنوي ،بوصفه سلوكاً معادياً للإنسان حقاً وكرامة وحرية . كيف تأتى أن يكون الموجود البشري قبيحاً؟لا أحد باستطاعته أن يملك جواباً كلياً شاملاً عن هذا السؤال. فإذا قلنا بأن حاجات الحياة قد حملت كائناً على أن يكون قبيحاً ،فإن الحاجة نفسها عند آخر لا تحمله على ذلك.إذاً الحاجة وحدها ليست علة ،إذ يجب أن تمتلك الذات على إمكانية القبح في ذاتها. فالذات هي ثمرة الطفولة والثقافة والإنحياز والمصلحة والبنية الجسدية والنفسية والوعي الذاتي بالذات وتاريخ تكون الضمير،وعالم القيم الذي ترعرعت في الذات،ومستوى الذكاء والغباء العاطفيين،والذكاء والغباء العقليين . فالعصبية الطائفية للجماعة الحاكمة في سوريا وتعصبها ضد الآخر المختلف،وسلوكها في حفاظها على السلطة المغتصبة بقوة السلاح ،والوعي الثأري من ماضٍ متخيل ،وماض معيش ،كل ذلك لا يمكن أن يثمر إلا سلوكاً قبيحاً بالضرورة ،من سلوك أشكال القتل المتعددة ،إلى الخطابات الكاذبة ،إلى الفجع للثروة،إلى التقية المقيتة المرتبطة بالخبث ،إلى غياب الحس بالإنتماء الوطني . وإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك ،فإنها تصدر عن مبدأ قبيح جداً ،ألا وهو ،كل شيء مباح للحفاظ على واقعها اللاعقلي.وبالتالي فإن كل ما هو مباح عندها ينتمي إلى القبح الأخلاقي. وكل تعصب ينفي الآخر لا يصدر عنه إلا القبح ،فحزب الله وداعش وما شابههما من الحركات المتعصبة دينياً تشرب من منبع القبح نفسه ،ويصدر عنهما القبح المتشابه.بل والتعصب الأيديولوجي حتى لو كان دنيوياً يصير مصدراً للسلوك القبيح. ولكن ماذا عن شاعر يمتدح القبح المتعين في حاكم ما ؟شاعر القبح هذا أكثر قبحاً من قبح الحاكم نفسه. فالجواهري مثلاً بوصفه، في أحد وجوهه الشعرية، شاعراً للقبح ، يحاول أن يبرأ نفسه من التملق والتزلف والخب والمذق.(الخب هو الخداع والغش)،(والمذق هو الكذب والغش أيضاً). فأنا لم أصادف قصيدة يعبر فيها شاعر عن حبه لمدينة ومطلعها تبرئة نفسه من القبح المتمثل في أربع كلمات قبيحة (شممت تربك لا زلفى ولا ملقا. وسرت قصدك لا خباً ولا مذقا) صحيح بأن الجواهري ليس شاعراً مبدعاً ،فهو مجرد مقلد ومتشبه وتتحكم به القافية كيفما اتفق،فتبدو القصيدة عنده أمشاج أبيات من هنا وهناك،وصوره ساذجة ،ولولا عادة تذوق موسيقى البحور و القوافي عند العوام لما كان له هذا الحضور الزائف.لكن مطلع القصيدة بوصفها تبرئة ذاته من مديح القبح،عبر نفي القبح عن نفسه ،تدل على وعيه بأنه يأتي قبحاً. وكذا فعل مع حاكم آخر حين خاطبه مبرئا نفسه من قبح المداهنة: أسعف فمي يطلعك حراً ناطفاً عسلاً وليس مداهناً معسولا.والقصيدة هذه هي قصيدة في المداهنة ،أي في القبح. ولو عاد القارئ العزيز إلى قصيدتين حول الشام الأولى لعمر أبو ريشة "عودة مغترب"والثانية لنزار قباني "من مفكرة عاشق دمشقي",لتبين له الجمال والحب وذم القبح بأعلى درجات الفن الشعري.والمقام هنا لا يسمح بتناول هاتين القصيدتين بالتحليل. إن القبح والقبيح في حقل القيم الأخلاقية أمراً قابل للحدوالتعريف ،بسبب ارتباطه كما قلنا بقيمة الإنسان ،لكن الحديث عن القبح بوصفه أحد مفاهيم مبحث الجمال أمر يحتاج إلى نظر.وسنفرد له قولاً خاصاً. ولكن حسبنا القول بأن رسم لوحة تعبر عن القبح ،وتكشف عن سماته ،هو عمل جميل ،ودافعه فني صرف.فيما رسم القبيح للإعلاء من شأنه هو عمل قبيح.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...