لم يكن يرد تحيتي الصباحية، وأنا في طريقي إلى المدرسة بمريولي الخاكي، بينما هو يقف أمام بيته ناظرًا بثبات إلى مكان بعيد، عاقدًا يديه أمام صدره باسترخاء، فيبدو بشاربيه المميزين المعقوفين إلى الأعلى، رجلًا مطمئنًا إلى سيطرته على كل ما يحيط به. لم أكف عن رميه بتحيات لا تصل. كانت تحيتي ضعيفة فلا تصل إلى سمعه، وكان نظره أعلى بكثير من قامتي الصغيرة فلا يراني، لكني كنت أطمئن لرؤيته من دون أن أدري السبب.
غفرت له دائمًا إهماله المستمر لي. كما غفرت له أنه ذات يوم سرق فيروز من بيتنا، وسمعت صوت غنائها يخرج من بيته. قبل ذلك، كانت فيروز تغني في بيتنا فقط، وكانت تبدأ الغناء بعد أن يلقي المذيع التحية على صباح (وكان أبي يحبها أيضًا) وليس على فيروز. ولكن في ذلك اليوم كانت فيروز تغني في بيت ذلك الرجل. تضاربت مشاعري، نظرت إليه على أنه سارق، ثم نظرت إلى فيروز على أنها خائنة، وكان عليّ أن أكره شخصين لا أستطيع كرههما، فغفرت لهما. ثم شعرت بالخسارة بعد ذلك لأن فيروز لم تعد لنا وحدنا.
مقتصد في الكلام، وسريع في اتخاذ القرار. حين بلغ سن الزواج اختار شابة وتزوجها، دون أن يكترث بكل ما كان يشاع عنها وعن علاقاتها العديدة مع رجال قبله. “الزواج قرار، نقطة انتهى”. في كل عام كانت زوجته على موعد مع ولادة جديدة، حتى غرقت في بحر من الأطفال. “لن تدخل حبوب منع الحمل إلى بيتي ما حييت، نقطة انتهى”. كان يسمي المولود الذكر على الفور بأول اسم يتبادر إلى ذهنه، وكان يترك لزوجته تسمية الإناث، ولذلك تجاورت في أسرته أسماء مثل قسورة وصخر، مع أسماء مثل جوى ورهف، غير أن الأسماء لم تكن تعنيه بشيء، ولم يكن بحاجة إليها لكي يخاطب أحد أبنائه، يكفي أن يقول “يا ولد” أو “يا بنت”.
عائلة واحدة على الأقل من العائلات المجاورة في الحي كان يجب أن تعلم ماذا طبخت زوجته اليوم، ذلك أنه اختط سنّة كريمة لعائلته تقول إنه يجب مشاركة عائلة واحدة على الأقل، بصحن واحد على الأقل، من طبخة الغداء. “يا ولد، خذ هذا الصحن إلى بيت خالتك أم فلان”. ولم تؤثر في هذه السنة حقيقة أن الصحن كان يعود فارغًا في كثير من الحالات، إنه لا يفعل ذلك كي يبادله الآخرون بالمثل. إنه يفعل ذلك لأنه يراه شيئًا جميلًا، “نقطة انتهى”.
شاء أن يطلق على كلبه اسم “موشي”، نكاية بموشي دايان الصهيوني الذي هزم الجيوش العربية ذات يوم. وذات يوم، لسبب مجهول، هاجم موشي أحد ضيوف البيت ونجح في بث الرعب في قلبه، وفي ترك أثر خفيف للناب في ربلة ساقه. لم يتأخر في إصدار الحكم على الكلب بالإعدام شنقًا، وعمل، بتصميم لا يشوبه التردد، على نصب المشنقة في المكان الذي اعتاد الكلب أن يقضي أوقات استراحته فيه، وتنفيذ الحكم بالكلب. ثم تركه معلقًا لبعض الوقت كتأكيد على قناعته التامة بقراره، وكازدراء غير مباشر لكل الاعتراضات أو الملاحظات المتوقعة أو الممكنة.
يعمل في الأرض بجد وصبر، فمن يريد أن يعيش ويربّي أسرة عليه أن يعمل، “نقطة انتهى”. لا يتأخر في المساعدة في أعياد وأفراح ووفيات القرية، لا ينتظر من يطلب منه المساعدة في هذه الأحداث، كما لا ينتظر الشكر: “سأكف عن هذا العمل حين أموت، حينها لن أطلب المساعدة من أحد، ولن ينتظر أهل الخير مني الشكر، نقطة انتهى”.
لم يتأخر كثيرًا في الوصول إلى هذه النهاية التي حملتها له رصاصة بعيدة المدى ولكنها قاتلة مع ذلك، كي تحمي القاتل من التأثر بملامح ضحيته. كان المزارع الوحيد الذي يتجرأ على الذهاب للعمل في أرضه في ذلك الزمن المضطرب. “لا أحد يطلق النار على رجل يعمل في أرضه، نقطة انتهى”.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...