جريمة باريس .. تطرّف في الدين أم في اليأس؟
راتب شعبو
2020-10-24
ضجت فرنسا بأصداء جريمة وقعت في 16 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، حيث أقدم مراهق شيشاني (18 سنة) على مهاجمة مدرس تاريخ في مدرسةٍ في إحدى ضواحي باريس، وقتله في الشارع وقطع رأسه، انتقاماً منه، لأنه عرض على تلاميذه في الإعدادية، رسوماً كاريكاتورية غير لائقة ومسيئة للنبي محمد. ومن شأن هذه الجريمة الشنيعة أن تطمس تفاصيل كثيرة سابقة عليها، تشير إلى احتجاجات من بعض الأهالي المسلمين، واجتماع أولياء الأمور مع المدرس، واعتذاره عن فعلته التي تورد أقوال أخرى أنها لم تكن معزولة، وأن المدرس دأب على تكرارها منذ العمل الإرهابي الكبير الذي تعرّضت له أسبوعية شارلي إيبدو الساخرة على يد الأخوين كواشي في ديسمبر/ كانون الأول 2015، وراح ضحيته 12 شخصا، منهم ثمانية من هيئة التحرير التي اضطرت أن تواصل عملها بعد ذلك من مكان سرّي.
كان المدرس الضحية، صامويل باتي (47 سنة) يجد في رسوم المجلة عن النبي محمد الوسيلة الأنسب لشرح حق حرية التعبير لتلاميذه، ويسبق عرضه للرسوم بالطلب من التلاميذ المسلمين مغادرة القاعة، كي لا يثير حفيظتهم. هذا ما رواه في فيديو ولي أمر إحدى التلميذات. يتطلب الأمر إذن أن يسأل المدرس عن ديانة التلميذ، وهذا أمرٌ مخالف لمبدأ العلمانية. المدرس، والحال كذلك، يرى إلى نفسه مدافعاً عن حرية التعبير، ويرى أن هناك من لا يستطيع تحمّل هذه الحرية، وأن الحل هو بخروجهم من غرفة الصف. ويلخص هذا المشهد المشكلة. إذا كان هذا الحل ممكناً في غرفة صف، فكيف هو الحل على اتساع بلد؟
ينتظر العالم، بعد كل "إهانة" لمقدسات المسلمين، حدوث جريمة مروّعة ما بحق "كارهي" الإسلام
ينتظر العالم، بعد كل "إهانة" لمقدسات المسلمين، حدوث جريمة مروّعة ما بحق "كارهي" الإسلام. الفظاعة "الداعشية" لهذه الجرائم، ومنها الجريمة التي ارتكبها المراهق الشيشاني، تُخرج الموضوع عن مجال المناقشة على المستوى الفكري السياسي الذي يستحقه، لتحشره في خانةٍ مضادّة للنقاش، هي خانة ثنائية، تمتص كل تعقيدات الأمر، لتختزله في قطبين ملتبسين، حرية التعبير مقابل القتل. وتجعل هذه الثنائية الحدّية من عمل فردي (وإنْ كان يدل على عقلية فئة من المسلمين)، إيذاناً ببدء عملية استقطاب حربية الطابع، تفرض على الناس التوزّع على ضفتين متقابلتين. من المفهوم، والحال هذه، أن يتجمّع عشرات أو مئات آلاف الفرنسيين في ساحة الجمهورية في باريس، وفي ساحات مدن فرنسية عديدة وشوارعها، فيما سمّوها "الوحدة المقدسة" ضد الإرهاب. حضور كلمة "مقدّسة"، على الرغم من عدم تلاؤمها مع المجال السياسي العلماني، يشير إلى حدّة الاستقطاب، وإلى امتناع النقاش العقلي.
التعارض بين مبدأي حرية التعبير واحترام المقدسات، كان، على نحو دائم، المنبع الثابت لهيجانات شعبية عديدة ولجرائم عديدة يثأر من خلالها أفراد عصابيون لما يبدو لهم انتهاكاً لمقدّساتهم. هؤلاء الأفراد هم في الواقع نتاج بيئة عصابية، وهم في الواقع اليد الضاربة لهذه البيئة التي تعمّم صورتها على الإسلام بفعل قوة تأثير الأعمال الجرمية الانتقامية هذه، وسيطرتها المشهدية والشعورية على جميع الأعمال العقلانية التي ينتجها بقية المسلمين.
لا تنبع جرائم الانتقام هذه من "غيرة على الدين"، بل من شعور عميق بالضعف
لا تنبع هذه الجرائم من تطرّف ديني كما يشيع القول، وغالباً ما يكون "أبطال" هذه الجرائم هم ممن لا يمارسون الطقوس الدينية، ولا يفقهون في دينهم إلا عموم الكلام. يمكن أن يقود التطرّف الديني بحصر المعنى، وعلى عكس ما هو شائع، إلى الزهد، أو إلى الاقتراب أكثر من العمق الروحي للدين المعني، ما قد يوصل "المتطرّف" إلى الأرض المشتركة للديانات جميعاً، فيجعله أكثر إدراكاً لوحدتها وأكثر تقبلاً لتنوعها. على هذا، يبدو التصوّف تطرّفاً دينياً وهو بعيد تماماً، كما هو معروف، عن أشكال العنف التي تنسب، على نحو خاطئ، إلى التطرّف الديني.
منبع هذه الجرائم بالأحرى هو التطرّف في اليأس. يأس يولّده التوتر بين مخيلة المسلمين المشبعة بتقدير ذاتي مفرط بوصفهم خير أمة أخرجت للناس، وأهل حضارة تفلتت من بين أيديهم، وأتباع آخر الرسل وسيدهم، وبين واقع المسلمين المتردّي الذي لا يملكون منه فكاكاً، واقع يجعلهم في ضعفٍ لا يستطيعون معه الدفاع عن أرضهم وحقوقهم التي تنهب أمام أعينهم على أيدي "الآخرين". التعويض عن العجز أمام واقع سياسي يسلب المسلمين ثرواتهم وأراضيهم، يكون بالتشنج المبالغ فيه في الدفاع عن "مقدّساتهم". ويتخذ هذا النوع من التعويض الشكل الجرمي الفظيع تعبيرا عن فظاعة ما يعتمل في نفوس المسلمين من يأس. هو نوع من الإحلال النفسي: إذا كنا لا نستطيع استعادة أرضنا المسلوبة وثروتنا المنهوبة، فإننا لم نصل إلى حد العجز عن قتل كل من يتجرأ على نبينا وعلى ديننا.
تلتقي حاجة السياسيين الغربيين لصناعة عدو، مع جاهزية فئةٍ من المسلمين لأن تكون المادة الأولية القابلة للتصنيع
لا تنبع جرائم الانتقام هذه من "غيرة على الدين"، بل من شعور عميق بالضعف، وليس تقبل أتباع الأديان الأخرى للسخرية من رموزهم الدينية دليلا على قلة غيرتهم على دينهم، بل على شعورهم بالقوة التي تسمح لهم بإيجاد مسافة كافية بينهم وبين رموزهم، تستوعب اللهو والسخرية.
تلتقي حاجة السياسيين الغربيين لصناعة عدو، مع جاهزية فئةٍ من المسلمين لأن تكون المادة الأولية القابلة للتصنيع. هكذا تتكامل الأدوار، سياسيون يريدون ناخبين والطريقة الأسهل اليوم هي تحريك عصب الهوية والخوف، وجماعة لديها عصاب الهوية، ولا تحتاج سوى إلى محرّض بسيط كي تنفجر بكل الأشكال اللامعقولة التي تحقق الغرض المراد. ليس من فراغ أن نجد بين المسلمين، إلى جانب المنتشين بالجريمة، والذين يعتبرون القاتل القتيل شهيداً، من يرى أن جريمة باريس مفبركة لتشويه الإسلام، ولإيجاد عدو يجري استثماره سياسياً في الصراعات الانتخابية. والخاسرون في هذا التكامل السيئ هم المسلمون أولاً حين يدخلون في التنميط. وشعب البلد ثانياً حين تصبح برامج الأحزاب صيانة الهوية ومعالجة مخاوف الناس، بدلاً من البرامج الاقتصادية والاجتماعية التي تحسّن من مستوى المعيشة وأنماط الحياة.