التناص بين التوراة والقرآن دراسة مقارنة 7
فراس الســواح
خاص ألف
2019-08-17
7- الملك داود
تختصر الرواية القرآنية قصة انتقال المُلك من شاؤل إلى داود عندما تقول: «....وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ....» (2 البقرة: 251). ولكن انتقال المُلك إلى داود في الرواية التوراتية بعد أن قتل الفارس الفلسطيني جوليات في المعركة الشهيرة التي وصفناها سابقاً له قصة طويلة تمتد عبر 14 إصحاحاً من سفر صموئيل الأول، لا نستطيع هنا إلا أن نأتي على أهم مفاصلها.
فبعد أن اتخذ الرب قراره بنزع الملك من شاؤل، وأبلغه هذا القرار على لسان صموئيل الذي قال له: "لأنك رفضت كلام الرب فإن الرب يرفضك من المُلك". ناح صموئيل على شاؤل أياماً كثيرة. فقال الرب لصموئيل:
"حتى متى تنوح على شاؤل وأنا قد رفضته؟ املأ قرنك دهناً([1]) وتعال أرسلك إلى بيت يسِّي البيتلحمي لأني قد رأيت في بيته ملكاً... ففعل صموئيل كما تكلم الرب وجاء إلى بيت لحم. فارتعد شيوخ المدينة عند استقالبه وقالوا: أسلام مجيئك؟ قال: سلام. وقد جئت لأذبح للرب. تقدسوا وتعالوا معي إلى الذبيحة. وقدّس يسّي وبنيه ودعاهم إلى الذبيحة... وعَبَرَ يسّي بنيه السبعة أمام صموئيل. فقال صموئيل ليسي: الرب لم يختر هؤلاء. وقال صموئيل ليسي: هل كملوا الغلمان؟ فقال: بقي الصغير، وهو ذا يرعى الغنم. فقال صموئيل: أرسل وائت به. فأرسل وأتى به. وكان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر. فقال الرب: قم امسحه لأنه هو. فأخذ صموئيل قرن الدهن ومسحه في وسط أخوته. وحل روح الرب على داود منذ ذلك اليوم فصاعداً". (صموئيل الأول 16: 1-13).
بعد ذلك جاء رسل شاؤل وأخذوا إليه داود ليعزف له على العود، على ما رأينا في قصة شاؤل سابقاً. فأحبه داود وجعله حامل سلاح له. وبعد قتله لجوليات أعطاه شاؤل قيادة إحدى كتائبه وزوجه من ابنته. فارتفع شأن داود في الجيش وبين الناس، فقد انبرى لتوه يشن غزوات خاطفة على الفلسطينيين ويقتل منهم المئات. ولكن قلب شاؤل تغير نحوه، وخاف من تزايد محبة الناس له فكرهه. وعندما كانت تأتيه نوبات الاكتئاب كان يسعى لقتله. فهرب داود من وجه شاؤل واختبأ.
وفي هذه الأثناء تجمع حول داود جماعة من الأفاقين والمغامرين ومن أعداء شاؤل، وصاروا يرتحلون معه حيثما ذهب. وعندما يئس من وجود ملاذ آمن له في مناطق حكم شاؤل، لجأ وجماعته إلى ملك الفلسطينيين في مدينة جت، ووضع نفسه وجماعته في خدمته متحولاً إلى زعيم مرتزقه تعيث فساداً في أراضي خصوم ملك جت. ولكن الفلسطينيين لم يكونوا يسمحون له بالذهاب معهم لقتال بني إسرائيل، وذلك خوفاً من انقلابه عليهم وعودته إلى صفوف بني جلدته (صموئيل الأول: 7-30).
في آخر معركة له مع الفلسطينيين هُزم شاؤل هزيمة منكرة وأصيب بجرح بليغ. وعلى حدّ وصف النص التوراتي: "اشتدت الحرب على شاؤل فأصابه الرماة رجال القِسّي فانجرح جداً. فقال لحامل سلاحه: استل سيفك واطعنّي به لئلا يأتي هؤلاء الغلف ويقبحوني. فلم يشأ حامل سلاحه لأنه خاف جداً، فأخذ شاؤل السيف وسقط عليه. ولما رأى حامل سلاحه أنه مات شاؤل، سقط هو على سيفه ومات معه". (صموئيل الأول 31: 1-13). ومن المفترض لدى المؤرخين أن شاؤل قد حكم من عام 1020 إلى عام 1000ق.م.
عندما سمع داود بمقتل شاؤل رثاه بقصيدة طويلة وحزن عليه، ولكن شعوره بالأمان دفعه إلى العودة إلى موطنه، فقام وذهب إلى مدينة حبرون وأقام فيها. فجاء رجال سبط يهوذا ومسحوا هناك داود ملكاً عليهم. ولكن أبينير رئيس جيش شاؤل لم يعترف بداود وإنما بايع بالملك ابن شاؤل المدعو إشبوشت، وتبعه في ذلك جميع القبائل الإسرائيلية الشمالية. وكانت حرب طويلة بين بيت داود وبيت شاؤل. وكان بيت داود يتقوى وبيت شاؤل يضعف. وبعد سنتين دخل اثنان بيت اشبوشت على غفلة وقتلوه وهو نائم في سريره وقطعوا رأسه وجاؤوا به إلى داود. ولكن داود أمر الغلمان فقتلوهما، وأما رأس اشبوشت فأخذوه ودفنوه. فجاء جميع أسباط إسرائيل إلى حبرون ومسحوا داود ملكاً عليهم (صموئيل الثاني: 1-5).
كان داود ابن ثلاثين سنة حين مَلَكَ، ومَلَكَ أربعين سنة. ومن المفترض أن مدة حكمه قد امتدت من عام 1000 إلى عام 961ق.م([2]). كان أول عمل لداود بعد أن صار رأساً للمملكة هو الاستيلاء على مدينة أورشليم التي كانت حتى ذلك الوقت بيد الكنعانيين، وجعلها عاصمة له بعد حبرون. ومن أورشليم أخذ يشن حملاته العسكرية التوسعية حتى سيطر على كامل مناطق شرقي الأردن والجنوب السوري وضمها إلى مملكته([3]). وعندما أراحه الله من أعدائه، أرسل إليه حيرام، ملك مدينة صور الفينيقية على الساحل السوري، خشب أرز وبنائين فينيقيين، فبنوا قصراً لداود. وهكذا بدأ داود يعيش حياة الملوك المترفة، وتسرى بنساء من أورشليم ولدن له بنين وبنات. وهذه الأخبار تغطيها الإصحاحات العشرة الأولى من سفر صموئيل الثاني.
في إحدى الليالي كان داود يتمشى على سطح بيته، فرأى من على السطح امرأة تستحم في بيتها، فاسترق النظر إليها دون أن تشعر به. كانت المرأة جميلة المنظر جداً، فأرسل داود وسأل عنها. فقيل له بأنها بتشبع زوجة أوريَّا الحثي الجندي المخلص في جيش داود. ولما كان أوريا غائباً في إحدى حملات الجيش، فقد أرسل داود رسلاً وأخذها فدخلت إليه واضطجعت معه ثم رجعت إلى بيتها. وبعد مدة أرسلت المرأة إلى داود لتخبره بأنها حبلى. فأرسل داود إلى قائد جيشه يوآب يقول: أرسل إلي أوريا الحثي. وكان الجيش يحاصر مدينة ربة عمون في شرقي الأردن. فأتى أوريا إلى داود، فسأله داود عن سلامة قائده يوآب وسلامة الجيش، ثم قال له أن يذهب إلى بيته ويغتسل ويرتاح. فخرج أوريا من عند الملك. وبدلاً من أن يذهب إلى بيته نام على باب بيت الملك مع الحرس. وفي الصباح سأله داود عن السبب في عدم ذهابه إلى البيت، فقال له: إن إسرائيل ويهوذا والتابوت معهم ساكنون في الخيام حول مدينة الأعداء، فكيف آتي إلى بيتي وآكل وأشرب وأضطجع مع زوجتي؟ فأطلقه داود وأرسل بيده كتاباً إلى قائد الجيش يوآب يقول فيه: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيُضرب ويموت. ففعل يوآب ذلك ومات أوريا. فلما سمعت بتشبع امرأة أوريا أنه مات رجلها ندبته. وعندما انتهت أيام حزنها أرسل داود وضمها إلى بيته وصارت له امرأة.
فأرسل الرب النبي ناثان إلى داود، فجاء إليه وقال:
"كان رجلان في مدينة واحدة منهما غني والآخر فقير. وكان للغني غنم وبقر كثيرة جداً، وأما الفقير فلم يكن له إلا نعجة واحدة صغيرة قد اقتناها وكبرت معه ومع بنيه جميعاً، تأكل من لقمته وتشرب من كأسه وتنام في حضنه، وكانت له كابنة. فجاء ضيف إلى الرجل الغني، فعفا أن يأخذ من غنمه ومن بقره ويهيئ للضيف الذي جاء إليه؛ فأخذ نعجة الرجل الفقير وهيأ للرجل الذي جاء إليه. فحمي غضب داود على الرجل جداً وقال لناثان: حي هو الرب، إنه يُقتل الفاعل ذلك، ويرد النعجة أربعة أضعاف لأنه فعل هذا الأمر ولم يشفق. فقال ناثان لداود: أنت هو الرجل. هكذا قال الرب إله إسرائيل: أنا مسحتك ملكاً على إسرائيل وأنقذتك من يد شاؤل... وأعطيتك بيت إسرائيل ويهوذا. وإن كان ذلك قليل كنت أزيد لك كذا وكذا. لماذا احتقرت كلام الرب لتعمل الشر في عينيه؟ قد قتلت أوريا الحثي بالسيف وأخذت امرأته لك امرأة، وإياه قتلت بسيف بني عمون... فقال داود لناثان: قد أخطأتُ إلى الرب. فقال ناثان لداود: الرب أيضاً قد نقل عنك خطيئتك. لا تموت، غير أنه من أجل أنك قد جعلت بهذا الأمر أعداء الرب يشمتون، فالابن المولود لك يموت". (صموئيل الثاني 12: 1-15).
الرواية القرآنية: لم يذكر القرآن من أخبار داود إلا النذر اليسير، ولكنه توقف عند قصة داود وزوجة أوريا الحثي، وقدمها بطريقة شديدة الإيجاز والاختصار، وذلك من خلال قضية بسطها أمامه رجلان احتكما إليه فيها:
"واصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد([4]) إنه أواب([5]). إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق، والطير محشورة له كلٌ أواب([6])، وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب([7]).
"وهل آتاك نبأ الخصم([8]) إذ تسوروا المحراب([9]). إذ دخلوا على داود ففزع منهم([10])، قالوا: لا تخف. خصمان([11]) بغى بعضنا على بعض، فاحكم بيننا بالحق ولا تشتط([12])، واهدنا سواء الصراط. إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة. فقال: أكفلنيها([13]) وعَزَّني في الخطاب([14]). قال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، وإن كثيراً من الخُلطاء([15]) ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا، وقليل ما هُم([16]). وظن([17]) داود إنما فتنَّاه([18]) فاستغفر لربه وخر راكعاً وأناب([19]). فغفرنا له ذلك، وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب. يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله. إن الذي يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب". (38 ص: 17-26).
إن الرجلين اللذين دخلا على داود متجاوزين الحرس والأسوار هما ملاكان أرسلهما الله لتنبيه داود إلى خطيئته من خلال روايتهما للقضية التي فيها يختلفان، وهي القضية التي رواها النبي ناثان للغرض نفسه. وعندما حكم داود للفريق المظلوم أدرك هوية الرجلين وانتبه إلى أنه عمل الشيء نفسه عندما أخذ زوجة رجل لا يملك إلا زوجة واحدة، في الوقت الذي يمتلك هو أكثر من زوجة وعدداً من السراري. وعرف أن الله قد امتحنه بمحبة تلك المرأة، فاستغفر لربه وخرّ راكعاً معلناً توبته وندمه.
ونلاحظ أن الرواية القرآنية لا تتعرض لمعاقبة داود في موت ابنه البريء، لأن الله عز وجل قال في كتابه العزيز: «....وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى....» (6 الأنعام: 164). أي إن النفوس تجازى بأعمالها ولا يحمل أحد خطيئة آخر. بينما يضع المحرر التوراتي على لسان إله إسرائيل قوله: "أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع". (الخروج 20: 5).
ولدينا في القرآن خبر ثالث عن داود في سورة الأنبياء:
«وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ([20]) إِذْ نَفَشَتْ([21]) فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ# فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ([22]) وَكُلاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً....#» (21 الأنبياء: 78-79). وهذا الخبر غير وارد في التوراة، وليس هناك من اتفاق بين المفسرين بخصوصه.
فيما عدا هذه الأخبار الثلاثة، لا يوجد في القرآن سوى إشارات عابرة إلى كونه نبياً، وإلى الكتاب الذي أُنزل عليه وهو الزبور:
«لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ....» (5 المائدة: 78).
«....وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً.» (4 النساء: 163).
«....لَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً» (17 الإسراء: 55).
«وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ» (21 الأنبياء: 105).
والزبور الوارد ذكره في هذه الآيات هو كتاب المزامير في التوراة. وهو عبارة عن أناشيد وصلوات دينية كانت ترتل في الهيكل بمصاحبة الآلات الموسيقية. وبلغ عددها في سفر المزامير مئة وخمسين مزموراً، ومعظمها يعزى إنشاده إلى داود. وهذا نموذج منها:
"لإمام المغنين. مزمور لداود عندما جاء إليه ناثان النبي بعدما دخل إلى بتشبع.
ارحمني يا الله حسب رحمتك، حسب كثرة رأفتك اِمحِ معاصيَّ. اغسلني كثيراً من إثمي ومن خطيتي طهرني، لأني عارف بمعاصيَّ وخطيتي أمامي دوماً. إليك وحدك أخطأت، والشر قدام عينيك صنعت، لكي تتبرر في أقوالك وتزكو في قضائك. هأنذا بالإثم صُوّرت وبالخطيئة حملتْ بي أمي. ها قد سُررتَ بالحق في الباطن ففي السريرة تُعرّفني حكمة. طهرني بالزوفا فأطهر، اغسلني فأبيضُّ أكثر من الثلج. أسمِعني سروراً وفرحاً فتبتهج عظام سحقْتَها. استر وجهك عن خطاياي وامح كل آثامي. قلباً نقياً أُخلق فيَّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدد في داخلي..". (المزمور 51).
8-
[1]- الدهن: هو زيت المسحة المقدس.
[2]- هذه السنوات لحكم ملوك إسرائيل الأوائل يفترضها المؤرخون من خلال تقصيهم للرواية التوراتية. ولكن لا يوجد لدينا أي شاهد تاريخي أو آثاري على وجودهم.
[3]- لا يوجد أي برهان تاريخي على قيام هذه المملكة الواسعة في القرن العاشر قبل الميلاد، كما إن الدلائل الأركيولوجية لا تثبت قيامها، والمُلك داود غير مُوَّثق خارج النصوص المقدسة.
[4]- أي ذو القوة.
[5]- كثير الإنابة إلى الله.
[6]- تسبح لله الجبال معه، فتردد الطير رجع ذلك التسبيح.
[7]- الكلام المبين.
[8]- أي الخصوم، والمقصود هنا اثنان.
[9]- ارتقوا سور المحراب.
[10]- لأنه لا يعرفهم ولأنهم دخلوا دون استئذان.
[11]- أي نحن خصمان.
[12]- لا تظلم.
[13]- اجعلها تحت كفالتي أو مَلّكْنيها.
[14]- أي غلبني في الجدال.
[15]- أي الشركاء.
[16]- أي وهؤلاء قليلون.
[17]- أي علم وأيقن.
[18]- أي امتحناه وجربناه.
[19]- رجع بالتوبة إلى الله.
[20]- الحرث هو الزرع. والمقصود هنا كرماً مزروعاً.
[21]- أي رعته ليلاً بلا راع.
[22]- أفهمناه الحكم في القضية.