مدخل إلى نصوص الشرق القديم (ملحمة كِرت الأوغاريتية)
2006-04-09
وصلتنا ملحمة كرت على ثلاثة رُقُم فخارية من الحجم الكبير نسبياً، وقد تمَّ اكتشاف هذه الرُقُم في سياق الحملتين التنقيبيتين في رأس شمرة لعامي 1930 و 1931؛ وكانت ضمن أرشيف مكتبة الكاهن الأعلى التي اكتُشفت قرب المعبدين القائمين في القسم الشمالي من المدينة. وهي الآن محفوظة في المتحف الوطني بمدينة حلب.
إن الحالة السيئة التي وصلتنا بها ألواح هذه الملحمة تطرح نموذجاً عن الصعوبات التي تواجه أي مترجم أو مفسر لنصوص أوغاريت. فالرقيم الأول عُثر عليه مكسوراً وتم جمع أجزائه إلى بعضها فصار في حالة حسنة نسبياً، بحيث أن 75% من محتوياته صارت واضحة للقراءة. أما الرقيم الثاني فحالته أسوأ إذ عُثر عليه مكسوراً إلى ثلاثة أقسام، أحدهما مفقود والآخران غير واضحين تماماً للقراءة.وكذلك الرقيم الثالث الذي جُمعت أجزاؤه إلى بعضها بصورة غير كاملة، الأمر الذي لم يترك سوى نصف محتوياته واضحاً للقراءة. يضاف إلى ذلك أن نهايته بقيت مفقودة، الأمر الذي يجعل قصة كرت غير معروفة لنا بشكلها الأصلي الكامل. وبما أن الكسر في اللوح الثالث يحصل قبل نهايته بقليل، ومعه تنقطع القصة فجأة، فإن بعض الباحثين يرجح وجود رقيم رابع مفقود. وعلى الرغم من ذلك كله، فإن ما تبقى لنا من أجزاء هذه الملحمة كافٍ لإعطاء فكرة عن خطوطها العامة.
تدور الأحداث حول ملك يدعى كِرت (ويلفظها بعض المترجمين كيرتا وبعضهم كارِت) كان في زمن تدوين هذه الملحمة معتبراً بين الشخصيات التي عاشت في سالف الأزمان. تبدأ القصة بوصف الوضع المأساوي الذي وجد كرت نفسه فيه. فقد عصفت كوارث مختلفة بجميع أفراد أسرته، وزوجاته السبع فُقِدْن تباعاً دون أن يرزق منهن بولد يرثه على العرش، فبقي وحيداً مقهوراً يسأل الآلهة أن ترزقه ابناً. وفي إحدى الليالي، وبينما هو يبكي في مخدعه، غلبه النوم وعرضت له رؤيا تجلى فيها له الإله إيل:
«بيت الملك أُبيد.
الملك الذي كان له سبعة أخوة،
وثمانيةٌ أبناءُ أم واحدة،
إخوة الملك قضوا نحبهم.
زوجته الأولى هربت،
والثانية ماتت في المخاض،
والثالثة ماتت بعد أن بلغت العمر الطويل،
والرابعة ماتت ذبولاً،
والخامسة قبضها الإله رشف،
والسادسة غيبها البحر،
والسابعة وقعت ضحية سلاح.
وبموتهن أُبيدت ذريتي،
وبهلاكهن جميعاً أبيد ميراثي».
فدخل عرفته باكياً متمتماً بكلمات،
ودموعه تتساقط كمثاقيل فضة على الأرض.
وبينما هو يبكي غلبه النوم،
بينما دموعه تسيل أخذه السبات؛
غلب عليه النوم بينما كان مضطجعاً،
أخذه السبات بينما كان مستلقياً.
عندما، في حلمه رأى إيل ينزل،
رأى أبا البشر يقترب.
وفيما هو يقترب سأل كرت:
لماذا يبكي كرت؟
ولماذا تدمع عينا الطيب ابن إيل؟
هل يرغب في مُلْك كمُلْك أبيه الثور؟
أم يبغي سلطاناً كسلطان أبي البشر؟
هل يطمع في الذهب والفضة؟
أم في العبيد والإماء والجياد؟
فأجابه كرت أجاب أبا البشر:
«مالي أنا وللفضة،
ما لي أنا وللذهب الأصفر،
الذهب عندي منه ما يكفي،
وعبيدي دائمون لدي،
والجياد الأصيلة وافرة في اصطبلاتي؛
أريد أن أرزق ولداً،
أريد الخَلَفَ الكثير».
أجابه الثور إيل أبوه:
«كُف عن البكاء يا كرت
وعن ذرف الدمع أيها الطيب ابن إيل.
اغتسل وتطيب وتعطر،
اغسل يديك حتى المرفق،
وأصابعك حتى الكتف،
ثم ادخل إلى ظل خيمتك،
وخذ حملاً بيدك، حمل ذبيحة بيمينك،
وخذ جدياً بكلتا اليدين.
اسكب في قدح فضي خمراً،
وفي قدح ذهبي عسلاً،
اصعد إلى سطح البرج وارفع يدك إلى السماء،
واذبح للثور إيل أبيك،
ثم ادع بعل لينزل إلى ذبحك،
ادع ابن داجون لينزل إلى صيدك،
وبعدها انزل يا كرت عن السطح،
وجهز خبزاً للجيش طعاماً لستة أشهر».
أما هدف هذه الحملة العسكرية التي يتوجب على كرت تجهيزها فهو التوجه إلى مملكة أدوم الواقعة إلى الجنوب من البحر الميت للحصول على العذراء حورية ابنة فابل ملك أدوم التي وعده بها إيل زوجة، ووعده منها بذرية ووريث على العرش. فعل كرت وفق توجيهات إيل فأقام الطقوس التي أمره بها وجهز جيشاً عرمرماً من كل قادر على القتال في مملكته وتوجه نحو أدوم:
كالجراد المنتشر في العراء،
كالجندب عند أطراف الصحراء،
ساروا يوماً ويوماً آخر.
وعند شروق شمس اليوم الثالث،
وصلوا إلى حرم الإلهة عشيرة،
عشيرة إلهة الصورانيين وربة الصيدونيين.
وهناك نذر كرت النبيل نذراً:
أُقسم بحياة عشيرة الصورانيين وربة الصيدونيين:
«إن أنا أخذتُ حورية إلى بيتي،
إن أنا أدخلت الصبية إلى قصري،
فإني أقدم ضعفي مهرها فضة،
وأقدم ثلاثة أضعاف مهرها ذهباً،
نذراً للإلهة عشيرة».
ثم إنه سار يوماً وثانياً
وثالثاً، وفي اليوم الرابع وبعد شروق الشمس،
وصل إلى أدوم الكبرى.
حاصر كرت أدوم ستة أيام، وفي اليوم السابع أرسل له فابل ملكها رسولاً يقول له:
إن رسالة الملك فابل هي:
«خذ فضة مني، خذ ذهباً أصفر،
خذ عبيداً لا يُعتقون،
خذ جياداً أصيلة وعربات،
خذها يا كرت تقدمات سلام،
ولا تخاصم أدوم الكبرى،
فإن أدوم عطية إيل،
وهبة من لدن أبي البشر.
ابتعد أيها الملك عن بيتي،
واستبقِ يا كرت لي قصري».
أجابه كرت النبيل:
«ما لي أنا وللفضة،
ما لي أنا وللذهب الأصفر.
الذهب عندي منه ما يكفي،
وعبيدي دائمون لدي،
والجياد الأصيلة وافرة في اصطبلاتي.
أعطني فقط ما ليس في بيتي،
أعطني الصبية حورية زوجة،
أعطني ابنتك البكر،
التي جمالها شبيه بجمال عناة،
وحُسنها مثل حسن إستارت؛
التي حاجباها من اللازورد،
وعيناها كرتان من الجوهر،
فلقد وهبها لي إيل في حلم،
وفي رؤيا أعطانيها أبو البشر.
وسيكون لكرت منها ذرية،
سيكون منها غلام لابن إيل».
بعد ممانعة وأخذ ورد بين الطرفين يوافق الملك فابل وهو آسف على مطلب كرت وتعطى إليه حورية التي سيفتقدها أهلها مثلما سيفتقدها كل أهالي المملكة. فقد كانت تطعم الجائع وتسقي العطشان وتأخذ بيد الضعفاء:
مثل بقرة تخور على عجلها،
ومثلما يشتاق الجنود إلى أمهاتهم،
كذلك سيحن إليها أهل أدوم.
يعود كرت إلى دياره، حيث ينعقد مجلس الآلهة وبينهم إيل الثور، وبعل الظافر، والأمير القمر، والأمير رشف، وكوثر- حاسيس، وعناة التي تدعى هنا رحمايا، أي إلهة الرحمة والمحبة. ثم يعلن إيل مباركته لزواج كرت:
«لقد اتخذتَ زوجة يا كرت،
لقد جئتَ بزوجة إلى بيتك،
لقد أدخلت صبية إلى قصرك.
سوف تلد لك سبعة أبناء،
سوف تنجب لك ثمانية.
سوف تلد لك الفتى يصب،
الذي سوف يرضع حليب عشيرة،
ويمتص من ثدي عناة العذراء
مرضعتي الآلهة».
مرت سبع سنوات أثبتت خلالها بركة إيل فعاليتها ورُزق كرت بعدد من البنين والبنات. ولكن عشيرة لم تنسَ نذر كرت الذي لم يفِ به، وأرسلت عليه مرضاً عضالاً أقعده على فراش الموت. وهنا يطلب كرت من زوجته أن تُعد وليمة تدعو إليها أعيان الدولة ووجهائها ليحضروا إلى القصر فيأكلوا ويشربوا ويبكوا على كرت. وفي هذه الأثناء يدخل أحد أولاده ويأخذ يندبه:
إلى حضرة أبيه دخل باكياً،
ثنّى القول ورفع صوته باكياً:
يا أبانا بحياتك نبتهج وبخلودك نفرح.
لقد صرنا ككلب قطيعٍ مهمل في بيتك،
وصرنا مثل هرّ في ديارك.
هل تموت يا أبي مثلما يموت الناس؟
وهل يُعطى ملكك لآخر،
ويترك بين أيدي النساء؟
أبي كنزي،
كيف يقولون إن كرت ابن الآلهة،
وإن كرت من ذرية إله الرحمة،
وإنه من أبناء القدوس؟
أوَ هل تموت الآلهة يا أبي؟
وذرية إله الرحمة ألن تعيش إلى الأبد؟
ثم تدخل أخته تيمانيت (أي الثامنة) وتشارك في ندب أبيها بمثل ما تقدم به أخاها ثم تضيف:
«يبكيك يا أبي جبل صافون جبل بعل.
تبكيك الرايات العظيمة المقدسة،
الرايات الرحبة المجنحة.
أليس كرت من أبناء إيل؟
أليس كرت من ذرية إله الرحمة،
ومن سلالة القدوس؟»
وبينما تيمانيت تشرف على تجهيز قبر لأبيها تجف المزروعات وتذبل النباتات لمرض الملك، وتنفذ المؤن تدريجياً من عنابر الناس:
رفع الفلاحون رؤوسهم،
وانتصبت ظهور من يبذرون الحبوب.
لقد نفذ الخبز من معاجنهم،
ونضبت الخمرة من دنانهم،
ونفذ السمن من قُرَبِهم.
يحاول كبير الآلهة إيل تفادي الكارثة الوشيكة فيجمع الآلهة ويسألهم:
«مَنْ من الآلهة يداوي المريض ويطرد الشر؟
ولكن أحداً من الآلهة لم يجبه
فثنَّى وثلث قائلاً:
مَنْ مِنَ الآلهة يداوي المريض ويطرد الشر».
ولكن أحداً من الآلهة لم يجبهُ.
فربَّع وخمَّس،
فسدَّس وسبَّع،
ولكن أحداً من الآلهة لم يجبه.
فقال اللطيف إيل إله الرحمة:
«عودوا يا أبنائي إلى مساكنكم،
سأكون الذي يداوي المريض ويطرد الشر».
ولهذه الغاية يقوم بممارسة طقس سحري فيقبض قبضة من روث ناعم ثم يحرقه وهو يتمتم بالتعازيم السحرية، فتخرج من الدخان على ما يبدو (والنص هنا مليء بالفجوات) إلهة اسمها شعتقة شافية المرض، فيبعث بها إلى كرت. تطير شعتقة في المدن والقرى والحقول فتجمع أعشاباً شافية تحملها إلى كرت وتداويه بها، ثم تجعله يتعرق حتى يغتسل بعرقه، فتفارقه الحمى، ويندحر الموت على حد النص، وتنفتح شهية كرت للطعام:
فُتحت شهيته للطعام،
وفُتح بلعومه للثريد.
الآن اندحر الموت وشعتقة انتصرت.
عندها أصدر الملك أوامره،
«رفع صوته وصاح:
أنصتي إلى ما أقوله أيتها الأميرة حورية،
اذبحي حملاً لطعامي، وفطيماً لغذائي».
بعد الطعام يتقوى كرت ويعود ثانيةً لممارسة مهماته الملكية. ولكن ابنه الأكبر «يَصَبْ» يخرج عن طاعته ويدخل عليه متهماً إياه بالعجز عن إدارة شؤون المملكة والتغاضي عن مهمات الملوكية، ويطلب منه التنازل عن العرش. تثور ثائرة كرت ويستنزل اللعنات على ابنه داعياً إلى الإله حورن وهو من آلهة العالم الأسفل، وإلى الإلهة إستارت، أن ينتقما من ابنه:
فذهب الفتى يَصَبْ ودخل على أبيه،
دخل رافعاً صوته منادياً:
«استمع إلي يا كرت النبيل، ولتصغ أذنك لما أقول:
عندما يغزو العدو تدير ظهرك وتلجأ إلى الجبال.
إن يدك مغلولة إلى عنقك.
لم تعد تقضي للأرملة ولا تنصف اليتيم.
لقد لازمت فراش المرض وأنِسْتَ السرير.
فتنازل عن العرش لأملك مكانك،
وعلى عرشك اجلس».
أجاب كرت النبيل:
«حارن، فليكسرن حارُن يا بني رأسك,
ولتحطمن إستارت، سَمِيةُ البعل، هامتك
فتنحدر من علياء كبريائك.
عند هذه النقطة ينكسر اللوح وتضيع بقية القصة التي يبدو أننا لن نعرف نهايتها قط.
إن مغزى هذه الملحمة مازال موضع جدل بين الباحثين. ويبدو أننا لن نتوصل إلى تفسير شامل لها يُعنى بكل تفاصيلها، وذلك بسبب الفجوات الكثيرة في النص وضياع نهايته. ومع ذلك فمن الممكن تقديم بعض الأفكار العامة التي ترتكز على أبرز عناصرها الباقية لنا.
إن ما يلفت نظرها بالدرجة الأولى هو قدسية مؤسسة الملوكية الكنعانية والتداخل الواضح بين العالم الذي يعيش فيه أفرادها وعالم الآلهة. فالملك كرت يدعى في أكثر من موضع بابن أو غلام إيل، وبهذه الصيغة يناديه الإله إيل نفسه. ولكن تنقصنا الشواهد على أن أبوة إيل لملوك أوغاريت كانت أبوة بيولوجية كما هو الحال في أبوة الإله رَعْ لفرعون مصر عندما كان يتجلى للملكة في هيئة زوجها وينام معها في الفراش. وعلى الأرجح فإن أبوة إيل للملك الأوغاريتي هي نوع من التبني الذي يستتبع الرعاية والعناية بالملك المتبنى منذ ولادته، والذي تبدأ صلته بعالم الألوهة عندما ترضعه الإلهة عشيرة زوجة كبير الآلهة إيل، على ما رأينا من سياق النص بخصوص ولي العهد «يَصَبْ» الذي: «سوف يرضع حليب عشيرة ويمتص من ثدي عناة، مرضعتي الآلهة»، على حد تعبير الكاتب. فالملك والحالة هذه ابن بالرضاع لإيل وعشيرة. وهذه البنوة راسخة في معتقدات الناس حتى لدى أبناء الملك نفسه الذين نراهم يتعجبون لقرب منيته ويتساءلون: «أوَ هل تموت الآلهة يا أبي؟ وذرية إله الرحمة ألن تعيش إلى الأبد؟».
وتتجلى رعاية إيل لابنه المتبنى في أكثر من موقف. فهو المسؤول عن استمرار ذريته، وهو الذي يعده بولادة وريث له، ويفي بهذا الوعد. وعندما يأتي كرت بالصبية حورية إلى بيته ويتزوجها يدعو إيل مجمع الآلهة إلى الانعقاد، ويعلن في هذا الاجتماع مباركته لإيل ونسله. وعندما يمرض كرت يتدخل إيل شخصياً من أجل شفائه واستعادته عافيته. هذه المكانة شبه الإلهية للملك الكنعاني تجعله في نقطة الوسط بين العالم الإلهي وعالم الطبيعة والإنسان، وعن طريقه تنزل بركة السماء لتزرع في الأرض، فإذا مرض أو مات دون أن يترك وراءه وريثاً اختل نظام الطبيعة وجفت المزروعات وهددت المجاعة رعاياه. لقد شُفي كرت من مرضه فعلاً وعاد إلى ممارسة مهماته، ولكن الوضع لن يعود إلى سابق عهده قط، والملك قد شاخ وهو مهدد بالمرض مرة أخرى. ولهذا فقد خرج ابنه عن طاعته وطالبه بالتنازل عن الملك لفتى شاب يستطيع ممارسة مهمات المُلك بكفاءة أفضل، وتعكس فتوته وخصوبته ظلالها على الطبيعة التي ستكون في وضع أفضل بوجود مليك شاب على العرش. وإني هنا أغامر بالافتراض بأن خروج يصب عن طاعة أبيه لم يكن بدافع الطمع والجحود، وإنما بدافع حرصه على المصلحة العامة، وأرجح أن يكون إقصاء الملك العجوز عن العرش، أو تنازله الطوعي، عادة متبعة في كنعان وجزءاً من الإيديولوجيا الملوكية الكنعانية، وذلك اعتماداً على شيوع مثل هذه العادة لدى ثقافات متنوعة ومتباعدة في العالم القديم والحديث على حد سواء، حيث كان استبعاد الملك القديم لا يقتصر على التنحية عن العرش، وإنما يتعدى ذلك إلى قتله واستبداله بملك شاب. ثم تطورت عادة قتل الملوك هذه لدى بعض الثقافات إلى التضحية ببديل عنهم. ولسوف أسرد فيما يلي نماذج من طقوس قتل الملوك لدى بعض الثقافات.
إلى عهدٍ قريب، كان من عادة قبائل الشايلوك التي تسكن ضفاف النيل الأزرق في أفريقيا أن يقتلوا ملوكهم بعد فترة زمنية مقدارها سبع سنوات. وقد يُقتل الملك قبل أوانه إذا أجدبت الأرض وساءت المواسم. وفي العادة، كان قتل الملك يتم في إحدى الليالي المظلمة الواقعة بين غياب القمر القديم وظهور القمر الجديد، خلال فترة الجفاف السابقة لموسم الأمطار، وقبل أن تُزرع البذور في الحقول. وفي مناطق أخرى من أفريقيا نعثر على معتقدات وطقوس مشابهة. ففي موزامبيق وأنغولا وروديسيا، كان الملك يُعتبر تجسيداً للإله الأكبر، وكان يدعى بالقمر، وتدعى زوجته بالزهرة. وكان الاثنان يقتلان في نهاية فترة محددة من حكم الملك على يد الكهنة، ويدفنان في قبر واحد. وفي مملكة كوردوفان بجنوب السودان كانت مدة حكم الملك وحياته تتحكم بها دورة فلكية لا يعرف أسرارها إلا الكهنة الذين كانوا يتابعون تحركات نجوم السماء لمعرفة الوقت الذي يتوجب فيه قتل الملك. فإذا حل الموعد أجبر الكهنة الملك على الموت ومعه عدد من أفراد عائلته وبعض المقربين ممن يختارهم شخصياً لهذا الشرف. وفي مقاطعة ملابر بجنوب الهند كان على الملك أن يضحي بنفسه في نهاية دورة فلكية مقدارها اثنا عشر عاماً، وهي الفترة اللازمة لدوران كوكب جوبيتر حول الشمس وعودته مرة ثانية إلى برج السرطان. فإذا حل الموعد المضروب نصب الكهنة للملك منصة يقف عليها أمام الحشود، ويُعطى سكيناً قاطعاً يستعملها في تقطيع أجزاء جسده منتهياً بالحنجرة.
من هذه الممارسات الحديثة نسبياً نعود القهقرى إلى ممارسات الحضارات القديمة. فالمصادر الرومانية الموغلة في القِدَم تروي أن ريمولوس أول ملوك روما قد قتل على يد أعيان المدينة وأن أجزاء جسده قد دُفنت في أماكن متفرقة من الأرض. كما تنقل الروايات اليونانية أن بعض ملوك طيبة وتراقيا قد قُتلوا ومزقوا إرباً ودفنت أجزاؤهم في الأرض. وفي الثقافة الإسكندنافية القديمة كانت فترة حكم الملك تستمر تسعة أعوام يتوجب بعدها قتله. ويحكى أن أحد ملوك السويد قد سمحت له الآلهة بالعيش لفترة حكم أخرى إذا ضحى بأحد أبنائه بدلاً عنه. وقد ضحى الملك بتسعة من أبنائه وعاش حتى بلغ الشيخوخة، ولكن الناس قاموا عليه وقتلوه. وهنالك من الدلائل ما يشير إلى أن بعض ملوك اليونان في التاريخ السحيق كانوا يقتلون عقب انتهاء دورة فلكية مقدارها ثماني سنوات عندما يصادف وقوع ليلة البدر الكامل في أطول أيام السنة أو أقصرها ويلتقي التقويمان الشمسي والقمري.
وفي أحد الأعياد البابلية، نجد أثراً باقياً من عادة قتل الملوك الموغلة في القدم. ففي هذا العيد المليء بالمرح وغرائب العادات يتبادل السادة والعبيد أدوارهم، فيقوم السادة بخدمة عبيدهم ويلعب العبيد دور السادة. وفي اليوم الأول من العيد يؤتى بأحد السجناء المحكومين بالإعدام فيكسى بملابس الملك ويوضع على العرش ويُسمح له بإصدار الأوامر، ويترك على سجيته فيأكل ويشرب ويمتع نفسه بكل وسيلة ممكنة حتى أنه ينام مع محظيات الملك، وذلك إلى اليوم الخامس وهو آخر أيام العيد، حيث تنزع عنه الثياب الملوكية ثم يُقتل. كل هذا يعني أننا أمام قربان البدل الذي حل تدريجياً محل التضحية بالملك نفسه.
أخيراً، هنالك ملمح من ملامح الإيديولوجيا الملوكية الكنعانية تؤكد عليه هذه الملحمة يتعلق بواجبات الملك. فالملك باعتباره صلة وصل بين العالم الإلهي والعالم الإنساني والطبيعاني مسؤول أمام الآلهة عن حكم المجتمع الإنساني نيابة عنها، وعن إحقاق الحق وإقامة العدل بين الناس، وحماية اليتامى والأرامل والمستضعفين. من هنا، فإن انقلاب يَصَبْ على أبيه كرت يجد مبرراته في اعتقاد يصب بأن أبيه قد تخلى عن أهم واجبات الملك تجاه شعبه وهي المتعلقة بإحقاق الحق ونصرة المظلومين.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
01-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
13-شباط-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |