"كلمات" بريفير: قصة أكثر الكتب الشعرية شعبية بأوروبا
ميشرافي عبد الودود
2019-08-24
بدت قصائد جاك بريفير التي جمعها في "كلمات" عام 1945 كما لو أنها أعيدت إلى الشارع، حيث وُلدت، ولعدة سنوات سيتم تداولها وتلاوتها بين الأصدقاء والمطلعين. وعكَس الغلاف الأصلي لهذه المجموعة الأولى مصدرها أكثر من وجهتها، صورة غرافيتيّ حضري التقطها براساي، مغطاة بالحروف القرمزية الكبيرة المرسومة على عجل. هكذا تم اختيار الإشارة القوية: هامشياً في الحياة والفن، وبريفير خطط أن يظل كذلك من خلال كتبه. لأن هذه النصوص ليست سوى صور رمزية فرعية نوعا ما لشعرية معاشة في الحياة اليومية، دون أية قيود في العلاقات والانفصالات، في الصداقة الحميمة والحب، وفي روح الانتفاضة والتمرد. من هنا سنوات ما بين الحربين؛ حيث بريفير المتحدث المستفيض، الفنان الحر والعصي على التصنيف، رجل مسرح الشارع (مع مجموعة أكتوبر)، السينمائي (رفقة رونوار، كارني وشقيقه بيير بريفير بشكل خاص)، وكاتب الكلمات (تعاونه مع كوسما في عام 1935)؛ لن يتوقف عن الكتابة دون اهتمام بحفظ أو جمع نصوصه.
هل هو إهمال أم لامبالاة أم انعدام ثقة أم "النفور التام"؟ هذا التأخر في ولادة العمل الشعري المطبوع يثير دهشتنا اليوم. لأن ذكرى بريفير، إذا كان مدينا بها للشاشة والمسرح وبعض الألحان الخالدة، فإنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بعالم من الكتب الجميلة والمصورة وكتب
"هذه النصوص ليست سوى صور رمزية فرعية نوعا ما لشعرية معاشة في الحياة اليومية، دون أية قيود في العلاقات والانفصالات، في الصداقة الحميمة والحب، وفي روح الانتفاضة والتمرد" الملصقات. ذاكرتنا تحتفظ بهذه الأعمال الفنية التي وقّعها بعد الحرب، بعناية أصدقائه الفنانين (شاغال، بيكاسو، براك، ميرو، إرنست).
كيف كان ينظر بريفير إلى مجموعاته الخاصة؟ في الواقع لم يعارض أبدا نشر قصائده، حتى قبل الحرب. بدأ اسمه ينتشر منذ عام 1929 في العديد من مجلات الطليعة والرأي. نصوصه المنشورة كانت محط نقاش، ولم تكن موهبته تحظى بالإجماع.
بريفير "المثير للاشمئزاز"؟ بسبب نفس الادعاء الفج رفضنا رامبو وبودلير ورواية "سفر في آخر الليل" (كتب هنري ميشو إلى جان بولان، 1938). هكذا بقي جاك بريفير على هامش الأوساط الأدبية بالرغم من طليعية نصوصه. ولقد كان مجددا تماما في عيون البعض، صانعا، مبالغا، و... خارجا عن الأدب بالنسبة للآخرين.
في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، فكر بريفير في إصدار نصوصه في مجموعة، لكن المهمة كانت جد معقدة بسبب تشتت قصائده، وعدم وجود حماس كاف لجمعها، رغم وجود مقربين على استعداد لمساعدته. في 26 تموز/ يوليو 1945 تلقى بريفير نسخة مطبوعة لبعض نصوصه بمبادرة من قسم الفلسفة بريمس الذي طبع 200 نسخة، وكانت فرحته كبيرة. أما بالنسبة لهنري ميشو فقد حث بريفير على الاستمرار دائما بالكتابة، وعلى اطلاعه بشكل منتظم على نتاجه الشعري. في الواقع، لعب مؤلِّف كتاب "بربري في آسيا" دورا في ولادة مجموعة "كلمات"، حيث كان الشاعران يتشاركان نفس الناشر؛ ذلك الوافد الجديد إلى عالم يعج بدور النشر: رينيه بيرتيلي.
هكذا كان لا بد من انتظار بداية عام 1946 لتظهر هذه المجموعة التي طال انتظارها في سلسلة "كاليغراف". وشكل خروج "كلمات" إلى النور فاتحة المجد الشعري لجاك بريفير. لم يوافق الشاعر على جمع بعض نصوصه إلا لأنه كان واثقا ومطمئنا إلى ضمان حقه في التدقيق والمراجعة والتدخل في كل ما يؤثر على نشر أعماله. لقد تغلب أخيرا على "نفوره" من عالم النشر بفضل صديقه رينيه؛ ناشره الأول الذي سيظل مخلصا له (أمامك، لم تتمزق قصائدي هاته).
كيف تم اللقاء بين الاثنين؟ عرف بريفير هذا الأستاذ الشاب، الذي أصبح ناشر ورئيس تحرير مجلة "كونفليونس"، منذ الثلاثينيات. لقد رآه مرة أخرى في نيس خلال الحرب، في خضم المقاومة الفكرية. تقول القصة إن مهندس الديكور روبرت كلافيل، مساعد ألكساندر تراونر، سعى للجمع بين الرجلين؛ كما أن الشاعر هنري ميشو، كما رأينا، تمكن من التقريب بينهما؛ جاك لاكان أيضاً لعب دورا... ومهما يكن، فقد تم إطلاق المشروع، بموافقة المؤلف: "وأنا الذي رفض العديد من الناشرين، لا أعرف لماذا اتصلت برينيه بيرتيلي؟ إنه رجل يعرف تماما ماذا يعني إعداد كتاب، وهذا شيء نادر. كان هو الذي أراد أن ينشرني. لكنني لم أكن أفكر في ذلك. ولا أعرف حتى الآن لماذا وافقت".
لم يكن بريفير مخطئاً. لقد كانت "كلماته" حدثا في سوق النشر: بِيعت 5000 نسخة منذ الأسبوع الأول، 25000 نسخة في السنة الأولى، وفي عام 1948 تم سحب 60000 نسخة مما شكل ضربة قوية. لم يعد ممكنا مع هذا النجاح لرينيه بيرتيلي وشركائه الإبقاء على دار النشر الصغيرة. والعقود المبرمة مع كل من جاك بريفير، هنري ميشو، روبير ديسنوس، جوليان كراك، وجان جوني، ومشروع السلسلة الأنطولوجية الرائعة "بانوراما"، خولت الدار أن تنضم إلى دار النشر العريقة "غاليمار" لمواصلة نشاطها في عام 1949. وواصل رينيه بيرتيلي نشر مجوعات بريفير الشعرية الكبيرة حتى آخر حياته. وكان كل كتاب من كتبه - الذي انتزعه بيرتيلي من مؤلفه - ثمرة حوار بين صديقين وصانعي كتب من طراز خاص.
بلا شك، شكّل بريفير، رفقة ميشو، الضربة السحرية في مسيرة رينيه بيرتيلي.
هنا ترجمة لبعض قصائد المجموعة:
هذا الحب
هذا الحب
الجارف جدا
الهش جدا
الرقيق جدا
اليائس جدا
هذا الحب
الجميل كالنهار
السيء كالطقس
عندما يكون الطقس سيئا
هذا الحب الحقيقي جدا
هذا الحب الجميل جدا
السعيد جدا
البهيج جدا
والمثير للشفقة جدا
المرتعش خوفا كطفل في الظلام
والواثق جدا من نفسه
كرجل هادئ في منتصف الليل
هذا الحب الذي يخيف الآخرين
الذي يُرغمهم على الكلام
الذي يُذبل وجوهم
هذا الحب المترصَّد
طالما ترصدناه
طريدا/جريحا/ مُداسا/مستنفَدا/منكَرا/ منسيا
طالما طاردناه/جرحناه/دسناه/استنفدناه/ نسيناه
هذا الحب كله
لا يزال حيا جدا
ومشرقا كليا
إنه حبك أنت
إنه حبي أنا
ذلك الذي كان
هذا الشيء المتجدد أبدا
والذي لم يتغير
الحقيقي كنبتة
الخفّاق كعصفور
الدافئ والعارم كالصيف
نستطيع نحن الاثنين
الرواح والرجوع
نستطيع أن ننسى
ثم نعود للنوم لاحقا
نصحو/ نتألم/ نشيخ
نغط في النوم مجددا
نحلم بالموت
نصحو/ نبتسم/ نضحك
نستعيد شبابنا
حبنا يبقى هنا
جامحا كحصان
حيا كالرغبة
قاسيا كالذاكرة
غبيا كالندم
باردا كالرخام
رقيقا كالذكرى
هشا كطفل يرنو إلينا مبتسما
يحدثنا دون أن يقول شيئا
فيما أصغي إليه مرتعشا
وأصرخ من أجلك
أصرخ من أجلي
أتوسل إليك
إليك/ إليّ/ إلى كل من يقعون في الحب
إلى كل من وقعوا في الحب
نعم أنا أصرخ عليه
من أجلك/ من أجل جميع البشر
الذين لا أعرفهم
ابق هنا
حيثما كنت فيما مضى
لا تبرح مكانك
لا تذهب بعيدا
نحن الذين أحببنا
نسيناك
فلا تنسنا
ليس لنا سواك على الأرض
لا تدعنا نشعر بالبرد
مهما كنت بعيدا
حيثما أنت
فقط أعطنا لاحقا جدا شارة الحياة
في ركن من الغابة
غابة الذاكرة
تجلّ فجأة
مدّ لنا يدك
وأنقذنا.
باربرا
كانت تمطر بلا انقطاع على بريست ذلك اليوم
فيما كنت تمشين
منشرحة/ فرحَة/ جامحة
تحت المطر
تذكري باربرا
كانت تمطر من دون توقف
والتقيتك في شارع سيام
كنت تبتسمين
وكنت أبتسم مثلك
تذكري باربرا
أنت التي لم أكن أعرفها
أنت التي لم تكن تعرفني
تذكري
تذكري مهما يكن ذلك اليوم
لا تنسي
رجلا كان يختبئ تحت الشرفة
ويصيح باسمك
باربرا
وركضت إليه تحت المطر
جامحة/ فرحَة/ منشرحة
ثم ارتميت بين ذراعيه
تذكري ذلك باربرا
لا تغتاظي إذا رفعت الكلفة بيننا
لطالما أفردت كل أحبائي
حتى لو لم نلتق سوى مرة واحدة
لطالما أفردت كل العشاق
حتى لو لم أكن أعرفهم
لا تنسي باربرا
تلك المطرة المتئدة والسعيدة
على وجهك السعيد
تلك المطرة على البحر
على مستودع الأسلحة
على متن باخرة أوسنت
آآهٍ باربرا
يا لها من حرب قذرة
ماذا حل بك الآن
تحت هذا الوابل من الحديد/
النيران/الرصاص/الدم؟
والذي احتضنك بين ذراعيه
بشغف
هل قضى أم لا يزال حيا؟
آه باربرا
إنها تمطر باستمرار على بريست
كما كانت تمطر من قبل
لكن ليست المطرة ذاتها فيما الدمار في كل مكان
إنها مطرة حِداد فظيعة وموجعة
إنها لم تعد بعد الآن عاصفة
من الحديد/ الفولاذ/ الدم
فقط مجرد غيوم
تنفق ككلاب
كلاب تجرفها
مجاري المياه في بريست
سرعان ما ستتعفن بعيدا
هنالك بعيدا جدا عن بريست
التي لم يتبق منها شيء.
كيف ترسم عصفورا
ارسم أولا قفصا
بباب مفتوح
ارسم ثانيا
شيئا جميلا
شيئا بسيطا
شيئا لطيفا
شيئا مفيدا
للعصفور
ثم ضع القماشة على الشجرة
في حديقة
أو في غابة
اختبئ خلف الشجرة
دون كلمة
دون حركة...
أحيانا يصل العصفور سريعا
كما يمكن استغراق سنوات طويلة
قبل اتخاذ القرار
لا تفكر في التراجع
انتظر
انتظر عند اللزوم ولو لسنوات
سرعة أو بطء وصول العصفور
لا يقرر
نجاح اللوحة
عندما يأتي العصفور
إذا أتى
التزم الصمت كليا
مترقبا دخول العصفور إلى القفص
وعندما يصير بالداخل
برفق أغلق الباب بالفرشاة
عندئذ
امسح جميع القضبان واحدا تلو الآخر
كن حريصا ألا تلمس أية ريشة من العصفور
ثم ارسم الشجرة
باختيار أجمل الغصون
من أجل العصفور
ارسم أيضا خضرة الورق وطراوة النسيم
ذرات الشمس
ودبيب الوحوش العاشبة في حرارة الصيف
ثم انتظر أن يقرر العصفور الغناء
إذا لم يغرد العصفور
تلك إشارة سيئة
للإشارة إلى إخفاق اللوحة
لكن تغريده إشارة جيدة
للإشارة إلى نجاح اللوحة
فلتنتزع إذاً برفق
ريشة من العصفور
ولتكتب اسمك في زاوية من اللوحة.