تميزت نهاية القرن السابع عشر في إنجلترا بنشر كتابات جون لوك السياسية، التي كان لها أثر واسع المدى في الفكر السياسي في أوربا وفي الولايات المتحدة في آنٍ معاً، وإن كانت إنجلترا نفسها قد أقبلت على فترة هدوء – ولعلها ركود – فأصبح الفكر الإنجليزي محافظاً، بل وراضياً. إذ على الرغم من نظام الحكم الذي يخدم مصالح طبقة واحدة ويشيع فيه الفساد، فإنّه كان ليبرالياً، بل وأفضل بكثير من نظم الحكم التي كانت سائدة في بقية الدول الأوربية. وبذلك انتقل مركز الثقل، في مجال النظرية السياسية، إلى فرنسا منذ أول القرن الثامن عشر وحتى قبيل الثورة الفرنسية. ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى حكم لويس الرابع عشر الملقب "بالملك الشمس" أو "الملك الأعظم"، الذي حكم فرنسا حكماً مطلقاً يقوم على "الحق الإلهي" عبّر عنه الأب جاك بوسويه بقوله: "ليس العرش الملكي عرش إنسان، ولكنه عرش الله ذاته". وأدى حكمه إلى تدهور البلاد وإشرافها على الإفلاس، ففي الخارج وقفت أوربا كلّها ضد طموحاته، وفي الداخل تمزّق المجتمع إلى أشراف يستأثرون بالمناصب الرفيعة في الدولة، وكنيسةٌ تمتلك ثورة طائلة تبلغ خُمس أراضي فرنسا، وكادحين لا يجدون قوت يومهم فضلاً عن الضرائب الباهظة الجائرة التي تفتقر إلى المساواة، وطبقة وسطى انتشرت في المدن ونظرت إلى النبلاء ورجال الكنيسة نظرة احتقار وازدراء. في هذه الظروف أمست هناك حاجة إلى نقد هذا النظام، بل وتقويض الدعائم التي يقوم عليها والتي ترتكز أساساً إلى الحكم المطلق، وعدم المساواة، وعدم التسامح الديني، وانعدام الحريات. غير أنّ النقد يحتاج إلى أساس نظري، فجاءت كتابات لوك السياسية لتزود الفكر الفرنسي بهذا الأساس، وكانت الدعامة التي قامت عليها حركة التنوير الفرنسية في القرن الثامن عشر. فبفضل إقامة فولتير في إنجلترا، وإقامة مونتسكيو فيها عشر سنوات، أصبحت فلسفة لوك أساس حركة التنوير الفرنسية، وأصبح الإعجاب بالحكم الإنجليزي الفكرة الأساسية لليبرالية الفرنسية. وأصبحت المبادئ الواردة في "رسالات في الحكم" بديهيات النقد السياسي والاجتماعي.
مونتسكيو
لم يشكّل الفلاسفة والمفكرون جماعة منظمة تأخذ على عاتقها دعم الديمقراطية، ومحاربة الطغيان، وتقديم سبل الفرار منه. بل على العكس يمكن القول بأن تأُثيرهم كان فردياً "شخصانياً"، وربما مبعثراً بطبعه. فمن الممكن أن تجد فكرةً هنا، وأخرى هناك، ولكنها تتجمع في النهاية لتصب في مسار الفكر البشري المتطور وفقاً لعملية تراكمية ممتدة عبر عصور وثقافات مختلفة. ولكل هذا يمكن للديمقراطية أن تستفيد من الذين نقدوها – حتى من نقدوها بطريقة عنيفة أحياناً – ومن هؤلاء المفكرين والفلاسفة "مونتسكيو". فرغم إيمانه بالحكم الديمقراطي البرلماني، أخذ في الوقت عينه بجملة من الأفكار المتناقضة مع الديمقراطية في جوهرها الدقيق، فمثلاً أكدّ على النظام الطبقي الذي يميّز الأفراد بسبب المولد أو الثروة، وأيّد وجود امتيازات لطبقة النبلاء. ورغم وثوقه بمبدأ الانتخابات العامة فقد منع أولئك الذين انحطوا إلى الدرك الأسفل من النذالة والدناءة، فانعدمت فيهم كل إرادة خاصة، من المشاركة بالإدلاء بأصواتهم لاختيار ممثليهم. وذهب مونتسكيو إلى أن هناك فئة من الناس المُميّزين من حيث الثروة أو الميلاد أو الجاه ينبغي المحافظة عليها، وعلى ما لديهم من امتيازات، ومن ثمّ فإذا لم يعطوا سوى صوت واحد مثلهم مثل أفراد عامة الشعب أصبحت حريتهم العامة في خطر. لهذا كان من الضروري حماية امتيازات هذه الفئة والحيلولة دون زوالها، وذلك بإعطاء النبلاء امتيازات على الصعيد التشريعي، بحيث يشكّلون هيئة تشريعية مستقلة تتمتع بحق نقض القرارات التي تتخذها هيئة التمثيل الشعبي، كما يفترض في هيئة النبلاء أن تكون وراثية، ومن الواجب منح هذه الهيئة سلطة قضائية: "لما كان النبلاء عرضة للحسد والغيرة، فمن الواجب أن يحاكموا من قبل أندادهم، تجنباً لصدور أحكام جائرة ضدهم. إذ لا يجوز مقاضاتهم أمام محاكم عادية، وإنّما أمام الهيئة المكونة من النبلاء".
مع كل ذلك فقد أثّر مونتسكيو في مسيرة الديمقراطية ومحاربة الطغيان تأثيراً قوياً على الأقل من ثلاث زوايا:
أولاً: محاربة الرق
من المعروف أنّ فقهاء القانون يميّزون بين مصطلح "الشعب" بمدلوله الاجتماعي الذي ينصرف إلى جميع الأفراد الذين ينتمون إلى دولة ما، والشعب بمدلوله السياسي الذي لا يمتد إلى كل هؤلاء الأفراد، وإنما يقتصر على من لهم حق مباشرة الحقوق السياسية، وأنّه كلما اقترب المدلولان وتوثّقت العلاقة بينهما كان أكثر تعبيراً عن المبدأ الديمقراطي. غير أن وجود الرق يجعل الهوة بين المفهومين أكثر اتساعاً، كما يجعل التطبيق الديمقراطي معيباً. ومن هنا كانت محاربة مونتسكيو للرق تدعيماً غير مباشر للديمقراطية.
فيقوم بتفنيد جميع المبررات التي ظهرت طوال التاريخ لتبرير وجود الرق، ويبدأ بما ذكره أرسطو من أن الرق مفيد للسيد والعبد معاً، فيقول: "غير مفيد للسيد ولا للعبد، غير مفيد للسيد لأنه لا يستطيع صنع شيء عن فضيلة، وغير مفيد للعبد لأنه يخلق في العبيد جميع أنواع العادات السيئة، إذ يتعود العبد دون أن يشعر فقدان جميع الفضائل الخلقية، لأنه يصبح عاتياً، متسرعاً، قاسياً، غضوباً شهوانياً جائراً". وهو يتفق مع جون لوك بأن الناس جميعاً ولدوا أحراراً، ومن ثم "فلا يجوز أنّ تُخمد الطبيعة البشرية أو تُذل، كما أنّ وجود العبيد مخالف لروح النظام في الديمقراطية".
وفنّد مونتسكيو مصادر الرق الثلاثة التي ذكرها "جوستنيان" في مدونته عندما يقول إنّ الرق يأتي من "أسرى الحرب – المدنيين – بيع الأب لأبنائه". كما ندّد بالمتعصبين الأوربيين الذين أباحوا استرقاق الزنوج لاعتقادهم أنّ الله، وهو ذو حكمة بالغة، لا يمكن أنّ يكون قد وضع روحاً طيبة في جسدٍ أسودٍ حالك السواد. وكأنّ اللون هو الجوهر الذي تقوم عليه الإنسانية.
ثانياً: كراهية الاستبداد
لم يخرج مونتسكيو في تقسيمه لأشكال الحكم عن التراث التقليدي في الفكر السياسي، فقد قسمها لثلاثة أنواع، كلُّ واحدٍ منها يتميّز بطبيعة وبمبدأ. ويقصد بالطبيعة الشخص أو الجماعة التي تملك السيادة في الدولة. بينما يقصد بالمبدأ الوجدان الذي يسري في القائمين على الحكم إذا كان لهذا الحكم أنّ يعمل على أفضل وجه. أمّا الأنواع فهي: الجمهورية، والملكية، والاستبداد. وهو يقوم بتقسيم النظام الجمهوري إلى نوعين: جمهورية ديمقراطية عندما تكون السلطة العليا بيد الشعب، وجمهورية أرستقراطية، عندما تكون السلطة العليا محصورة في يد من فئة قليلة من الشعب. أمّا الحكم الملكي فهو نظام تكون فيه السلطة العليا في يد شخصٍ واحد هو الملك، لكنه يحكم وفقاً لقوانين مقررة تُنشئ قنوات من خلالها تسري السلطة الملكية. أما الاستبداد فهو نظام حكم الفرد الواحد، وفقاً لأهوائه ورغباته دون التقييد بقواعد أو قوانين. فهو لا يسترشد ولا يتوجه إلا بإرادته الخاصة وأهوائه الشخصية.
وتختلف هذه الحكومات في مبادئها: فالفضيلة السياسية، أو حب الوطن وقوانينه، والاستعداد للتضحية بالذات، هي مبدأ الحكم الجمهوري. أمّا الشرف – بمعنى النخوة والطموح والقيام بالأعمال العظيمة التي تتناسب مع المرتبة الاجتماعية والعسكرية لصاحبها – فهو مبدأ الحكم الملكي. بينما مبدأ الحكم الاستبدادي يكمن في خوف الرعايا، ورعبهم، وخضوعهم أمام سلطة السيد المستبد.
ويرى مونتسكيو أنّ الملكية هي النظام العصري لحكم بلاد متوسطة المساحة، ومبدأ الملكية هو "الشرف"، وهو معنى لا يوجد إلا في مجتمع يقوم على أساس وجود امتيازات وتفضيلات لقلة من الناس، "فإن لم يكن هناك ملك، فلن تكون هناك طبقة نبلاء، وإن لم يكن هناك طبقة نبلاء، فلن يكون هناك ملك، وإنّما سيكون هناك طاغية مستبد".
ويرى مونتسكيو أنّ نظام الاستبداد، هو نظام يقوم على خوف المواطنين وإرهابهم من السيد الحاكم، ولا يحتمل أيّة سلطات وسطى. يُلقي الناس في هوة الذل والمهانة، ولا يحافظ على وجوده إلا بسفك الدماء، والطاعة التي يتطلبها من رعاياه هي الطاعة العمياء. والتربية والتعليم في النظام الاستبدادي لا تهدف إلا إلى تكوين أفراد يدينون بالولاء والإخلاص للحاكم ويتميزون بالطاعة العمياء في تنفيذ أوامره، ويعوزهم التفكير المستقل. والطاعة العمياء تفترض الجهل فيمن يطيع بلّ وفيمن يأمر، لأنّه لا يفكر ولا يتروى بل عليه فقط أن يريد. وتقتصر التربية على بث الخوف في قلوب الرعية وتلقين بعض مبادئ الدين البسيط، فيقول: "كل بيت في الدولة المستبدة إمبراطورية منفصلة، وتكون التربية القائمة هناك على عيش الإنسان مع الآخرين محدودة جداً، وهني تقتصر على إلقاء الخوف في قلوب الناس، وتلقين الروح بعض مبادئ الدين البسيطة جداً. ذلك أنّ المعرفة ستكون خطرة، والتنافس نحساً. ولم يستطع أرسطو الاعتراف بوجود فضائل خاصة للعبيد. فالتربية في الدولة المستبدة كأنّها عدمٌ، فلا بدّ من انتزاع كلّ شيء، ولا عطاء لشيءٍ ما، وجعل الفرد عضواً فاسداً، ابتغاء جعله عبداً مطيعاً، فرعايا الدولة الاستبدادية مجردون من كل فضيلة خاصة بهم، "وليس في الدول الاستبدادية عظمة نفس، لأن الحاكم فيها لن يعطي عظمة لا يملكها هو نفسه، إذ لا يوجد عنده مجد. وإنّما في النظام الملكي يشاهد حول الأمير الرعايا وهم يتلقون إشعاعاته"، وبالتالي يميل الاستبداد إلى هدم الدولة ذاتها بهدمه لروح المواطن الذي هو أساس هذه الدولة. وفي الدولة الاستبدادية تقل القوانين بل تنعدم، ولا بدّ أن يكون المحكومون جهالاً، جبناء، محطمي النفوس.
ثالثاً: فصل السلطات
الحرية السياسية التي نادى بها مونتسكيو لم تكن تعني حرية التصرف وفق الأهواء الشخصية، بل يعني أنّ لكل مواطن أن يعمل كلّ ما تسمح به القوانين. ذلك لأنّه لو أبيح للمواطن أن ينتهك القوانين ويتجاوزها لما بقيت هناك حرية، لأنّ الجميع سيبيحون لأنفسهم انتهاك القوانين بدورهم. لا تتوافر الحرية السياسية إلا حين لا تنقضها تجاوزات السلطة، ولكي لا تتجاوز السلطة حدودها لابدّ أن تكون هناك سلطة كابحة لها، ومن هنا جاء مبدأ مونتسكيو الشهير: "لابّد للسلطة أن تحدّ السلطة". والدولة تتضمن ثلاثة سلطات:
أ- السلطة التشريعية: تشريع القوانين المنظمة لعلاقات الأفراد في المجتمع.
ب- السلطة التنفيذية: وتشمل الشؤون الخارجية ومهمتها تنفيذ القوانين الصادرة عن السلطة السابقة. وحفظ الأمن بالداخل، وحماية البلاد من الاعتداءات الخارجية.
ت- السلطة القضائية: وهي التي تقوم بتطبيق القوانين على المنازعات التي تنشأ بين الأفراد والفصل في الخصومات وفرض العقوبات على كل من يخالف نصوص القوانين.
ولقد أكدّ مونتسكيو أنّ الفصل القاطع بين هذه السلطات الثلاث في الدولة هو الشرط لوجود الحرية، يقول: "إذا اتّحدت السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية فلن تكون هناك حرية، إذ يخشى أنّ يقوم الحاكم، أو يقوم مجلس الشيوخ بسن قوانين استبدادية من أجل أن ينفذها استبدادياً. ولن تكون هناك حرية أيضاً إذا كانت سلطة القضاء غير منفصلة عن السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، لأنّها إذا كانت مرتبطة، بالسلطة التشريعية، فإن السلطة على حياة المواطنين وحريتهم ستكون اعتباطية، إذ سيكون القاضي مشرّعاً. وإذا ارتبطت بالسلطة التنفيذية، فيمكن أنّ تكون للقاضي سلطة البطش، وسيضيع كل شيء لو أنّ نفس الشخص، أو نفس الهيئة من الرؤساء أو من النبلاء أو من الشعب مارست هذه السلطات الثلاث معاً: سلطة تشريع القوانين، وسلطة تنفيذ القوانين العامة، وسلطة الفصل في الجرائم والمنازعات بين الأفراد. وإذا أراد الحكام أنّ يكونوا مستبدين بدأوا بتجميع السلطات في شخصهم دائماً ..".
روسو
إن الفكرة الأساسية التي آمن بها جون لوك والتي تفيد بأن الناس يولدون أحراراً بالطبيعة – كانت مسلمة عند روسو – فهو يفتتح بها كتابه "العقد الاجتماعي" وكأنّها بديهية لا تحتاج إلى عناء البرهنة أو التدليل عليها: "يولد الإنسان حرّاً، لكننا نراه مكبلاً بالأغلال في كل مكان ...". وهو يرد هذا الوضع السيئ إلى الأنظمة السياسية والاجتماعية الفاسدة التي سلبت الناس حريتهم الطبيعية، بحجج وأعذار شتى، وجعلتهم مجرد قطيع من الماشية "ولكل قطيع راعيه الذي يحرسه ليفترسه".
لقد دعم "روسو" مسيرة الديمقراطية، وأمدّها بكثير من العناصر الهامة. صحيح أنّه كان يؤمن بنوع خاص منها هو "الديمقراطية المباشرة"، إلا أنّ هناك أفكاراً عامة ومشتركة وأساسية بين جميع أنواع الديمقراطية، منها: أن يكون الحكم للشعب برضى الناس وموافقتهم، وبالاتفاق بينهم من ناحية، وبين الحاكم من ناحية أخرى. وهو ما أسماه "روسو" بالعقد الاجتماعي، ومنها أنّ يكون مفهوم الشعب عاماً وشاملاً لا يقتصر على فئة أو طبقة أو هيئة معينة، ومنها أنّ تسود المساواة بين جميع أفراد الشعب، وأن تتوافر للجميع حرية إبداء الرأي والمناقشة، وحق الاقتراع العام، وأن تكون القوانين ممثلة للإرادة العامة لا لإرادة شخص أو مجموعة من الأشخاص.
والأساس الذي يرتكز عليه "روسو" في رفضه للنظم الاستبدادية التي تحيل البشر إلى عبيد للحاكم، هو أنّ تكوين الدولة لابّد أن يعتمد على الاتفاق الحر بين الناس، فما دام الإنسان ليس له سلطة طبيعية على إخوانه من البشر، وما دامت القوة لا تمنح الحاكم أيّ حق، ترتب على ذلك أنّ أيّ سلطة مشروعة بين الناس ينبغي أن تقوم على أساس الاتفاق". لكن ألا يجوز أن يكون الخضوع لقوة الحاكم هو نفسه ضرباً من ضروب الاتفاق؟. يجيب روسو بالنفي: "فالخضوع للقوة هو فعل من أفعال الضرورة، لا من أفعال الإرادة ...". وبالتالي لا يمكن أن يقوم الخضوع لقوة الحاكم على أساس الاتفاق. وهنا يفنّد "روسو" فكرة المفكر والمشرع الهولندي "جروتيوس" التي يقول فيها: "إذا كان في استطاعة الفرد أن يتنازل عن حريته، ويصبح عبداً لسيدٍ ما، فلم لا نقول إنّ شعباً بأسره يمكن أن يتنازل عن حريته ليصبح رعية لملك ما؟". ويرد "روسو" بأنّ التنازل عن شيء هو إعطاؤه أو بيعه، والإنسان الذي يصبح عبداً لآخر لا يعطي نفسه بل يبيعها، على الأقل، من أجل قوْته، لكن ما هو المقابل الذي يبيع الشعب نفسه من أجله؟، من المستبعد جداً أن يوفر الملك الطعام لشعبه، لأنّه، على العكس، يستمد طعامه منه، والملوك، كما يقول رابليه: "لا يرضون بالقليل من الطعام ولا يعيشون على الكفاف!" فهل يتنازل الناس عن حريتهم، ويبيعون أنفسهم للملك، لكي يأخذ ممتلكاتهم أيضاً؟!.
لكن قد يقال إن الحاكم المستبد، أو الطاغية، يضمن لرعاياه السكينة والسلام، لا القوت والطعام. غير أنّها حجة يردّ عليها روسو: "بأنّ الشعوب تخوض الحروب، في الخارج، لإشباع طموح حكامها ونهمهم الذي لا يرتوي، كما أنّ صفو السلام والهدوء في حياة المجتمع، تتسبب في تعاسة الناس وشقائهم وحتى لو افترضنا جدلاً، أنّ الحكم الاستبدادي يوفر الهدوء والسكينة للناس، ألا يكون هذا الهدوء، وتلك السكينة، أشبه بصمت السجون، أيكون ثمّة قيمة لسكينتك وأنت في زنزانة السجن؟! أيكفي ذلك لأن تكون سعيداً؟ أتكون الزنزانة في هذه الحالة، أمراً مرغوباً فيه؟ ألم يكن اليونانيون المسجونون في كهف السيكلوب، يعيشون هادئين في سلام، وهم ينتظرون دورهم ليلتهمهم هذا المارد؟!".
ويعتقد "روسو" أنّ الحكم التعسفي، لكي يصبح حكماً مشروعاً، لابّد أن يكون لكلّ جيل جديد الحرية في قبوله أو رفضه، إلا أنّ الحكم في هذه الحالة يكف عن أن يكون تعسفياً. إن تنازل الإنسان عن حياته يعني أنّه يتنازل عن إنسانيته، أيّ أن يتنازل عن حقوقه وواجباته كإنسان. ولا يمكن أن يكون هناك مقابل لمن يتنازل عن كل شيء. ففي الواقع أنّ مثل هذا التنازل مضاد لطبيعة الإنسان ذاته، فلو أنّك انتزعت منه حرية الإرادة كلها، فإنك تنتزع عنه كلّ مغزى أخلاقي في أفعاله. وأخيراً فإنّ الاتفاق الذي تكون فيه السلطة المطلقة في جانب، والطاعة المطلقة في جانب آخر هو اتفاق باطل وضد المنطق. وهكذا ينتهي روسو إلى أنّ حق الاستعباد، من أيّة زاوية نظرنا إليه، هو حقٌ باطل، لا لأنّه لا يمكن تبريره فحسب، وإنّما لأنّه لغوٌ لا معنى له. والواقع أنّ كلمة "حق" وكلمة "استعباد" كلمتان متناقضتان، إحداهما تلغي الأخرى. وسواء أكان الأمر بين إنسان وإنسان، أو بين إنسان وشعب بأسره، فمن المحال، دائماً، أن نقول: "إنني أعقد معك اتفاقاً بموجبه يكون كل شيء على حسابك وكل شيء في صالحي، وسوف احترمه ما دام يروق لي ذلك، وسوف تحترمه أنت ما دام يروق لي أيضاً".
فالعقد الاجتماعي أو – الاتفاق السليم – إنما يقوم على موافقة جميع الإرادات الحرة لجميع أفراد الشعب، بحيث يكون الالتزام الاجتماعي للفرد داخل الجماعة التزاماً حراً وذاتياً. إنّه نوع من الاتحاد يحمي شخصية كل فرد وممتلكاته، ويدافع عنها باستخدامه القوة العامة للمجتمع، ويطيع فيه الإنسان الفرد نفسه فقط، بالرغم من أنّه متحدٌ مع الباقيّن، وبالتالي فإنّه يبقى محتفظاً بأقصى درجاته حريته. ويقول روسو: إنّنا إذا استبعدنا من الميثاق الاجتماعي ما ليس من جوهره فسوف نجد أنّه يتقلص إلى العبارة التالية: "يسهم كلّ منّا في المجتمع بشخصه، وبكل قدرته تحت إرادة الإرادة العامة العليا، ونلتقي على شكل هيئة، كلّ عضو فيها جزءٌ لا يتجزأ من الكلّ". وهكذا تظهر "الجمهورية" أو الهيئة السياسية التي يطلق عليها أعضاؤها اسم "الدولة". أمّا المشاركون فإنّهم يتخذون بصورة جماعية اسم "الشعب"، ويسمون فرادى باسم "المواطنين" بمقدار ما يشاركون في قوة السيادة، وباسم "الرعايا" من حيث إنّهم يخضعون لقوانين الدولة.
خاص ألف
مجيد محمد
مراجع
العقد الاجتماعي: جان جاك روسو، ت: عادل زعيتر، مؤسسة الأبحاث العربية.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...