في النظرية النقدية الافتراضية والناقد الإلكتروني
إبراهيم اليوسف
2019-09-28
هل هناك نقد إلكتروني؟
قد يبدو الاستهلال بهكذا تساؤل، في هذا المقام، فيه الكثير مما هو استفزازي، مدهش، لا سيما وأن "النص الإلكتروني" وفق تنظيراته التي شاعت حتى الآن، لم يتم استحسانه إلا في إطار جد ضيق، بل إنه لم ينتشر أوسع من حدوده الأولى، ضمن شروط نصيته الإلكترونية، التفاعلية، ذلك النص الذي يساهم الناص الأول بوضع أسه الأول، ليرسي بذلك لما لانهاية لهم من ناصين، ضمن فضاء الزمكان، إمكان تقديم سلسلة مشاركاتهم، التي ينظر إليها، داخلة في جسد النص، ومسهمة في تنامي بنيانه إلى ما لا نهاية لذلك، وإن كانت فكرة زمن كتابة النص يشوبها الكثير من الغموض، أو اللبس، لدى منظري هذا النص.
"النص الذي يكتب للفيسبوك نفسه لم يتحرر من أدوات النص ما قبل الفيسبوكي"
ولعله من الخطأ الحديث عن النص الفيسبوكي، ما دامت فكرته لما تدخل في إطار التطبيق، ما خلا محاولات قليلة على أيدي بعض الناصين، بل إن ما يجعل إلكترونية هذا النص غير مكتملة هو شكل الكتابة، حيث تفاعلية من نوع آخر، تفاعلية محددة بالإطار الذي يضيفه الناص اللاحق على السابق، بل إن فكرة الشعرية قد تظل أسيرة في ذهن الناص الأول، من دون أن تغادره إلى من يليه من الناصين، الذين قد يتركون إضافاتهم، بعفوية، وبمعزل عن تعمد الشعرية، ما داموا كما هو تصنيفهم الإلكتروني مجرد معلقين، أو مقومين، في توصيفهم الدقيق.
ومن أول المآخذ التي قد تسجل على النص الفيسبوكي أنه لما يتأسس بعد، وفي هذا ما ينسف أسَّ افتراضنا الأول الذي انطلقنا منه، ونحن نجد فيه مساحة جديدة لاحتضان الشعرية، بيد أن هذه المساحة باتت تستقطب النص الشعري، كما غيره من نصوص السرد، بل كما الصورة، أو الموسيقى، ناهيك عن أن النص الذي يكتب للفيسبوك نفسه لم يتحرر من أدوات النص ما قبل الفيسبوكي، في الوقت الذي نجد أن هناك من يأتي بنصه المدون ورقياً، ويطلقه في الأثير المفسبك، بمرجعياته السابقة على ولادة هذه الأداة التي هي- في حقيقتها- وسيلة نشر، قبل أي اعتبار آخر.
ثمة ناص قد ينشر قصيدته المكتوبة على البحر الشعري، مرتدياً من خلالها عباءات أعمدة هذا الشعر قبل قرون كثيرة، حتى وإن راحت مضامينها تتعالق مع اللحظة الحالية، إضافة إلى ناص يكتب قصيدة التفعيلة، أو قصيدة النثر، بما يمكن نشر نصوص هؤلاء جميعاً على صفحات جريدة، أو مجلة، أو بين طيات مجموعة شعرية، وفي هذا ما يؤثر على هوية هذا النص، ويجعله محط تهمة عدم الإنجاز المسبق التي قد تلاحقه.
أمام تكاثف النصوص التي تنشر عبر فضاء الإلكترون عامة، والفيسبوك خاصة، نلاحظ غياب الناقد المعني أيضاً، وفي هذا ما قد يثير إشكالية خطيرة، وهي أن هذا النص لم يتأسس، في الأصل، وهو ما لا يعني عدم إمكان ولادته، وتشكيل ملمحه، عبر قاعدة العلاقة ما بين الكمي والنوعي، في ما إذا كانت هناك حاجة إلى ذلك، وهو متروك لدورة الزمن التي من شأنها إنتاج بذرة ما يحتاج إليه المرء جمالياً، إن كانت في هذا النص مقومات ولادته، ونموه، ورعايته.
وأياً كان تقويم هذا النص، فإننا نجد عزوفاً من لدن الناقدين التقليدي والحداثي، وحتى الناقد ما بعد الحداثي، عن سبره، وتقويمه، سلباً أو إيجاباً، وهو ليس إلا موقفاً من قبل هؤلاء، إزاء هذا النص، وإن كانت الندرة التي تناولته استطاعت تحقيق مقاربات فعلية، مثيرة، من عوالم هذا النص، لن تبقى الشعرية، ولا النقد في حدودها، إن كان جديراً بالحياة، وهو ما ستكشفه دورة هذه الحياة، وهي تواصل مسيرها، وفق قاعدة إيقاعاتها المتدفقة، كنص شعري أكبر، ندخل وما حولنا كمفردات نابضة في عمارته العظيمة.
في النظرية النقدية الافتراضية
"لا شك أن الوقت لما يزل مبكراً للحديث عن تأصيل النقد الافتراضي"
إذا كان لكل نص إبداعي شيفرته، وبؤرته الفنية، اللتان تشكلان علامته الجمالية الفارقة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: ترى أين مكمن الثِّيمات الإبداعية في النص الافتراضي، وما مكوناتها، وما خصوصية هذه الثيمات في كل من النصين الواقعي والافتراضي؟، بل وما هي نقاط الالتقاء والاختلاف في ما بينها؟؛ وهي في حقيقتها أسئلة محقة، لا سيما إذا علمنا أن مجرد حديثنا عن نص إبداعي افتراضي يعني أن له معادله النقدي، وكما أن للنص الواقعي معاييره الخاصة نقدياً، فإنه من اللزام أن تكون للنص الافتراضي معاييره النقدية المواكبة له.
قبل الخوض في تشكيل مقاربة من هذه الأسئلة الحساسة، لا بد من الاعتراف- مرة أخرى- أن ولادة النص ما بعد الواقعي لما تزل هي الأخرى افتراضية، أو أن ولادتها لما تكتمل بعد، وإن كانت إرهاصات هذا النص المنشود باتت تظهر جلياً للمتابع، نتيجة النقلة الكبرى التي طرأت على علاقة الناص بأدواته النصية، بل ونتيجة التحولات الهائلة التي طرأت على أوعية النشر، بيد أن النقد المرجو لا يزال أسير أحد احتمالين، فهو إما عبارة عن تنظيرات وتصورات ذهنية أولى لا تستند على التطبيقات الكتابية المطلوبة، أو أنه غير قادر على التفاعل مع المنتج النصي، نظراً لعدم استكمال هذا المنتج، ناهيك عن عدم بلورة الرؤية النقدية المتوخاة. وفي كلتا الحالتين، فإننا أمام وجود هوة سحيقة بين ما هو نظري وما هو تطبيقي، ما يجعل أية دراسة تنظيرية في المجال النقدي محفوفة بالمخاطرة، ومهددة بعدم استكمال الاشتراطات المطلوبة، وهو ما يجعل أية رؤيا في هذا المجال عرضة للخلل، وعدم النضوج.
لا شك أن الوقت لما يزل مبكراً للحديث عن تأصيل النقد الافتراضي، وسبب ذلك هو أن النص الذي يفترض أن ينطلق منه هذا النقد لا يزال غير متوافر بين أيدينا، وأن أغلب النصوص التي تكتب إلكترونياً، وفي مقدمها الأكثر انتشاراً وحضوراً يومياً: النص الفيسبوكي، لما يزل يكتب بوحي من اللحظة الواقعية، سواء أتم ذلك على يدي الناص ذي الحضور المسبق شعرياً، أو تم على يدي الناص الذي تنفس نصه بـ"رئة افتراضية"، لا سيما إذا علمنا أن التداخل قائم بين هذين النصين، وأن النص الواقعي هو نفسه، سواء أقدم عبر وعاء ورقي، أو إلكتروني، بل إن النص النقدي الموازي لما يكتب بعد، وهو في الأغلب مؤسس على رؤية نقدية واقعية، ما يجعل هذا النص معلقاً بين بين، غير قادر على الارتقاء إلى مستوى فك أسرار النص الإبداعي.
لقد كتبت محاولات تنظيرية أولى لمقاربة النص الإلكتروني، وهي وخاصة غير المستنسخة وغير المكررة عن نماذج سابقة بشكل آلي، سجلت- في الحقيقة- سبقاً لا بد من الإقرار به، عبر مجازفته، وهذا الأنموذج من النصوص النقدية المكتوبة بروح الحرص على فهم النص ما بعد الحداثي، أو ما بعد الواقعي، سجل- أيضاً- فتوحاته، بهذا القدر، أو ذاك من الأهمية. وهناك بعض هذه المقاربات ما لن يتجاوزه النقد الذي سيحقق التوازن بينها والنصوص مستكملا الشرط الإبداعي، لا سيما ذلك الذي راح يتناول الإلكترون كأداة مؤثرة في النص، بالإضافة إلى تمكنه من فهم طبيعة الأسئلة الجديدة التي ينطلق منها النص الإلكتروني.