التناص بين التوراة والقرآن دراسة مقارنة / 14
فراس الســواح
خاص ألف
2019-10-19
14ـ خراب أورشليم
في سورة الإسراء لدينا خبر حملتين شنّهما الأعداء على مدينة أورشليم؛ الحملة الأولى كانت حملة تأديبية لم تؤدِّ إلى دمار المدينة وإنما إلى نهبها وتحذيرها، أما في الحملة الثانية التي جرت بعد مدة، فقد قام العدو نفسه بتخريب المدينة وتهديم معبدها. وكان ذلك عقاباً لبني إسرائيل على ذنوبهم وخطاياهم:
«وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً# فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا([1]) بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ([2]) وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً# ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ([3]) وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً([4]) # إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ([5]) لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ([6]) وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ([7]) مَا عَلَوْاْ([8]) تَتْبِيراً# عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً#» (17 الإسراء: 4-8).
الرواية التوراتية وخلفيتها التاريخية:
في عام 605ق.م. ارتقى نبوخذنصر عرش بابل التي دانت لها بلاد الشام بعد آشور. وكانت مصر تبذل محاولة لفرض نفوذها على بلاد الشام، ووصل الفرعون نخو بقواته إلى نهر الفرات، ولكن نبوخذنصر هزمه في موقع كركميش على الفرات، ثم طارده إلى ما وراء سيناء. وفي طريقه دخل نبوخذنصر مدينة أورشليم التي وقفت إلى جانب مصر في النزاع، وخلع ملكها المتمرد يهوياقيم وعين بدلاً عنه ابنه يهوياكين ملكاً بدلاً منه وساقه أسيراً إلى بابل. (أخبار الأيام الثاني 36: 5-8). ولكن الملك الجديد خلع طاعة بابل بعد أن غادر نبوخذنصر المنطقة، ومال إلى مصر التي كانت تَعِدُ الممالك السورية بالعون ضد بابل. ولكن نبوخذنصر عاد بعد مدة إلى المنطقة من أجل اجتثاث نفوذ مصر بشكل نهائي، واتخذ من موقع ربلة على العاصي مقراً لقيادته، ومن هناك كانت قواته تنطلق لتأديب الممالك المتمرة على النفوذ البابلي. وفي هذا السياق حملته على أورشليم التي جاء خبرها في سفر الملوك الثاني، حيث نقرأ:
"جاء نبوخذنصر ملك بابل على المدينة، وكان عبيده يحاصرونها. فخرج الملك يهوياكين إلى ملك بابل هو وأمه وعبيده ورؤساء خصيانه، وأخذه ملك بابل في السنة الثامنة لمُلكه. وأخرج من هناك جميع خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك... وسبى كل الرؤساء وجميع جبابرة البأس، عشرة آلاف سبي، وجميع الصناع والأقيان... وسبى يهوياكين إلى بابل وأم الملك ونساء الملك وخصيانه وأقوياء الأرض سباهم إلى بابل، وعيّن بدلاً منه متنيا عمّهُ ملكاً عوضاً عنه، وغيَّر اسمه إلى صدقيا". (الملوك الثاني 24: 10-17).
وقد جرت هذه الحملة في العام السابع لحكم نبوخذنصر، على ما يفيدنا نص لهذا الملك كشفت عنه الحفريات الأثرية. وهو نص شديد الاختصار نقرأ فيه ما يلي: "في السنة السابعة، قاد ملك أكاد جيوشه نحو بلاد حاتي (= سورية) فحاصر مدينة يهوذا وفتحها في اليوم الثاني من شهر آذار، فقبض على الملك وعيّن بدلاً عنه ملكاً جديداً اختاره، وأخذ منها جزية كبيرة"([9]).
وهذه هي الحملة الأولى على أورشليم الوارد ذكرها في الرواية القرآنية حيث قرأنا:
«فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً» (17 الأسراء 5)
لم توجه هذه الحملة الضربة الأخيرة لأورشليم، وإنما أبقت عليها بعد سبي خيرة رجالها، فأخذت تسترد أنفاسها وتستعيد قوتها. ثم إن الملك الجديد صدقيا حاول خلق حلف عسكري لمواجهة بابل، وراح يبعث الرسل إلى ملوك فينيقية وشرقي الأردن لتأليبهم على الحاكم البابلي. ويبدو أن ملوك آدوم ومؤاب وعمون في شرقي الأردن، وملكي صيدون وصور، أو مندوبين عنهم قد اجتمعوا في أورشليم بدعوة من ملكها صدقيا، على ما نفهم من سفر إرميا 27: 3. وهذه التحركات والاتصالات كانت تجري بتشجيع من مصر، لأننا نعرف من بردية مصرية أن الفرعون بسامتيك قد قام في هذه الأثناء بجولة دبلوماسية زار خلالها عدداً من الممالك الفلسطينية والفينيقية. ويبدو أن الهدف الرئيس من وراء ذلك كان تأليب ملوك المنطقة على بابل([10]).
انقسم شيوخ أورشليم في الرأي إلى فريقين: فريق يدعو إلى مقاومة بابل بالسيف، وآخر يدعو إلى قبول العبودية لبابل دفعاً للكارثة المتوقعة في حال اللجوء إلى المقاومة. وكان على رأس الفريق الثاني النبي إرميا الذي اعتبر نبوخذنصر منفذاً لمشيئة الرب. نقرأ في سفر إرميا: "هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل: إني أنا صنعت الأرض والإنسان والحيوان الذي على وجه الأرض، وأعطيتها لمن حسُن في عيني. والآن قد دفعتُ كل هذه الأراضي ليد نبوخذنصر ملك بابل عبدي([11])، فتخدمه كل الشعوب، وكذلك ابنه وابن ابنه حتى يأتي وقت أُسقطه فيه... أَدخلوا أعناقكم تحت نير ملك بابل واخدموه وشعبه واحيوا... لماذا تصبر هذه المدينة خرِبة؟" (إرميا 27: 4-17). ولكن كلمات إرميا لم تلق آذاناً صاغية من الملك حزقيا والداعين إلى الحرب.
قرر نبوخذنصر التخلص نهائياً من شغب ملوك يهوذا، فشنّ حملة جديدة على مناطق سورية الجنوبية طالت عدداً من الممالك الفلسطينية بينها مملكة يهوذا، فحاصر عاصمتها أورشليم للمرة الثانية بعد عشر سنوات مضت على الحصار الأول. استمر الحصار قرابة السنتين على ما يروي لنا محرر سفر الملوك الثاني، وعندما نفذت المؤؤنة واشتد الجوع، حاول الملك صدقيا الهرب مع عائلته بمعونة كتيبة من خيرة جنوده، وذلك من خلال فتحة سرية جرى إحداثها في السور، ولكن الجنود البابليين قبضوا عليه وساقوه إلى مقر قيادة نبوخذنصر في ربلة، فأمر بقتل أفراد عائلة صدقيا أمام ناظريه، ثم سمل عينيه وأرسله أسيراً إلى بابل. وبعد ذلك اقتحم نبوز ردان قائد الجيش البابلي أورشليم فأحرقها وهدم أسوارها وهدم هيكلها وسبى معظم أهلها إلى بابل. وبذلك تم حذف مملكة يهوذا من الخارطة السياسية للمنطقة، فتحولت إلى ولاية بابلية هامشية ثم إلى ولاية فارسية بعد ذلك. أما من تبقى من سكان يهوذا، فقد أقام بنوخذنصر عليهم حاكماً من بينهم يدعى جدليا (سفر الملوك الثاني 25). وقد جرت هذه الأحداث نحو عام 578ق.م.
وهذه هي الحملة الثانية على أورشليم المذكورة في الرواية القرآنية، حيث قرأنا: «....فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً» (17 الإسراء 7).
وعلى الرغم من عدم توافر نص بابلي يصف الحملة الأخيرة على أورشليم وتخريبها وهدم هيكلها، إلا أن الحملة التنقيبية البريطانية التي نقبت في موقع أورشليم بين عامي 1960 و 1967، قد كشفت عن آثار دمار وحرائق هائلة في الموقع ترجع إلى بدايات القرن السادس قبل الميلاد، كما كشفت عن آثار انقطاع في السكن دام قرابة قرن من الزمان([12]).
الرجل الذي أماته الله مئة عام:
تتصل بقصة دمار أورشليم قصة أخرى عن الرجل الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه من الموت. نقرأ في سورة البقرة: «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ([13]) وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ....» (2 البقرة: 259).
كما هو الحال في القصص القرآني الذي تجري أحداثه في فضاء تاريخي وجغرافي، فإن هوية هذه المدينة وهوية بطل القصة مغفلان هنا. ولكن لدينا قصة شبيهة بها أوردها محرر سفر باروخ الرابع، وهو من الأسفار غير القانونية. وأبطال هذه القصة النبي إرميا، وكاتبه باروخ، وغلامه أبيمالك الذي أماته الله ستة وستين عاماً ثم أحياه. وتبتدئ أحداث القصة عشية دمار أورشليم، وتنتهي بالتبشير بإحياء المدينة وعودة المسبيين إليها. وهذا ملخصها:
عشية دمار مدينة أورشليم المحاصرة، كشف الرب للنبي إرميا عن قراره بتدمير المدينة على يد نبوخذنصر وسبي أهلها عقاباً على ذنوبهم، وأمره بمغادرتها مع بقية المسبيين، وأن يترك وراءه كاتبه باروخ. فقال إرميا للرب أنه يريد تقديم معروف لغلامه أبيمالك لقاء خدمته المخلصة له، فلا يشهد دمار المدينة. فقال له الرب أن يرسله في مهمة شكلية تبعده عن المكان ريثما تنتهي الأحداث، وطمأنه بأنه سوف يبسط حمايته عليه. في الصباح أرسل إرميا أبيمالك إلى مكان بعيد ليجمع له بعض التين لاستخدامه في علاج المرضى، وأثناء غيابه اقتحم البابليون أورشليم ودمروها وسبوا أهلها وبينهم إرميا. أما باروخ كاتبه فقد لجأ إلى قبر فارغ وعاش فيه وكانت الملائكة تزوره هناك.
جمع أبيمالك التين في سلة وقفل عائداً. وفي الطريق جلس تحت شجرة ليحتمي بظلها من حر النهار وأسند رأسه إلى السلة. فجلب عليه الرب سباتاً دام ستة وستين سنة. وعندما أفاق شعر بثقل في رأسه عزاه إلى عدم أخذه كفايته من النوم. ثم تفقد التين في سلته فوجده ما زال طازجاً ويقطر حليباً (قارن مع قوله تعالى: «....فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ....»؛ أي لم يفسد ويتغير. وعندما وصل إلى أورشليم الخاوية والمهدمة لم يجد تفسيراً لما حدث. ثم راح يجول في المكان إلى أن التقى برجل عجوز فسأله عن سكان المدينة أين ذهبوا، وعن إرميا وباروخ؛ فقص عليه العجوز كل ما جرى، وتعجب من أنه ما زال يتذكر إرميا الذي ذهب مع المسبيين إلى بابل منذ ستة وستين سنة. ثم إن ملاكاً جاء وقاد أبيمالك إلى حيث كان باروخ ما زال يقيم في القبر الفارغ. ففسر له باروخ حقيقة ما جرى له، وأن موته وبعثه دليل على قدرة الله على إحياء الموتى وقدرته على إحياء المدينة وبعثها من جديد. ثم إن باروخ كتب بوحي من الرب رسالة إلى إرميا حملها له صقر مكلف بهذه المهمة، وفيها يقول له أن يهيئ نفسه هو وبقية المسبيين للعودة إلى أورشليم التي سوف تصحو من غفوتها على أيديهم([14]).
15- يأجوج و
[1]- أي أولى المرتين في الإفساد.
[2]- أي سلكوا وسط البيوت.
[3]- أي أعنَّاكم عليهم.
[4]- أي أكثر عدداً.
[5]- أي وعد المرة الثانية من إفسادكم.
[6]- أي ليحزنوكم ويهينوكم.
[7]- أي ليخرّبوا ويهدموا.
[8]- أي ما استولوا عليه.
[9]- Leo Oppenheim, Assyrian and Babylonian Historical Texts. in: J. Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, Princeton, 1969, P. 564.
[10]- Hershel Shanks, edt, Ancient Israel, Prentice Hall, New Jersy, 1988, P. 147.
[11]- قارن مع ما ورد في الرواية القرآنية: بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد.
[12]- Kathleen Kenyon, Digging Up Jerusalem, London, 1974, PP. 166–172.
[13]- أي يتغير.
[14]- L. H. Charlesworth, The Old Testament Pseudepigrapha, Doublday, New york, 1995, vol. 2, PP. 413–425.