في صيف2015، وكان قد مضى حوالي أربعة أشهر على فراقي لسوريا بتاريخ12أيار2015؛ بينما كنتُ في مركزٍ اسمه "النساء الآن" في بلدة شتورة بلبنان، أقدّم طلباً لغرضِ تدريس الأطفال السوريين في مخيمات اللجوء في البقاع؛ جاء إلى المركز وفدٌ نسائيّ يرافقه صحافيون وإعلاميون أجانب. كان من بين أعضاء الوفد نساء من "هيئة التنسيق" التي تلقّب نفسها عادة بـ"الوطنية". قام الوفد بجمع نساء سوريات نازحات من مدينة داريا في الغوطة الغربية، كنّ يومئذ في المركز يقمن بأنشطة من قبيل التطريز وغير ذلك من الأشغال اليدوية. جلست نساء داريا إلى جانب بعضهن البعض على كراسٍ في جهة، وجلست نساء الوفد على كراسٍ في جهة مقابلة لهنّ. نادتني إحدى العضوات في "هيئة التنسيق" لكي أجلس إلى جانبها، أي في الجهة التي يجلس فيها الوفد. لم تمر ثوانٍ حتى استشعرتُ الخطر، وشعرتُ بضرورة أن أكون في الجهة التي تجلس فيها نساء داريا البسيطات. وهكذا، راحت عضوات الوفد يلقين بفحوى "رسالتهن" التي كنَّ يحملنها آنئذ، على نساء داريا. كانت الرسالة خطابية ومتعالية، توجّهت إلى مخاطبة نساء داريا بوصفهنّ قاصرات ينبغي تعليمهنّ قيم السلام، وبوصف رجالهن الثوار أسّ المشكلة في الصراع السوري، وبالتالي يجب على نسوة داريا أن يمارسن الضغط على رجالهن في داريا من أجل إعلان السلام، ووقف القتال.
كان واضحاً بالنسبة إليّ أن نساء الوفد كنّ يحملن رسالة سلام إنسانية وحيادية في العلن، إلا أنها رسالة سياسية وغير محايدة على الإطلاق في الباطن، فيها انحياز مبطَّن للقاتل الأكبر، وإلقاء للّوم على الضحايا في الصراع السوري، وتحميلهم مسؤولية الخراب والدمار الذي لحق بالبلاد. حين جاء دوري في الكلام، قلتُ رأيي صراحة على جري العادة، سائلة نساء الوفد: "لماذا لا تذهبن إلى زوجة بشار الأسد وتنقلن لها رسالة سلامكم هذه، وتوصينها بأن تمارس الضغط على زوجها لكي يكف عن قتل الشعب السوري، وعن قصف المدن والبلدات السورية بالبراميل المتفجرة و..و...، بدلاً من أن تلقين برسالتكن هذه على نساء هن ضحايا ونازحات هنا. ما أن سمعت نساء داريا كلامي، وكن في غمرة الاستكانة قبل قليل، والإنصات المسكين لنساء الوفد، حتى بدأت أصواتهن تعلو، وبعضهن أيّدن كلامي، ثم انفجر ما كنَّ يكتمْنَه في صدورهنّ، وصارت الجلسة السياسية "القوّادة" الهادئة قبل قليل، المراوِغة والمخادِعة والمنافِقة، صارت حقيقية وصادقة وعفوية وإنسانية، يعتورها الغضب الإنساني الطبيعي حيال صراع مأسوي.
حينئذ، انتقلت إحدى نساء الوفد إلى جهتي وجهة نساء داريا، وجلست على الكرسي بجانبي. كانت عضوة في "هيئة التنسيق"، راحت تدعوني إلى الهدوء، ملقيةً عليّ دروساً قالت لي إنها تعلّمتها في أميريكا حين أجرت هناك وهي وزملاء لها في "الهيئة" دورة في الدبلوماسية، قالت لي إنهم علّموها هناك "إدارة الانفعال"، وذلك رداً على ما رأته فيّ من انفعال وغضب حيال تحميل الضحية مسؤولية ما يجري، وإبعاد القاتل الحقيقي والمجرم الأكبر وهو المسؤول الحقيقي عن خراب البلد ودماره، عن ساحة المسؤولية، تحت ذريعة "الدبلوماسية" و"الهدوء" و"الحكنة السياسية" و "رسالة السلام" و"إدارة الانفعال". ما أخافَها تحديداً وقتئذ هو أن رأيي قد نبّه نساءً كنّ ساكتات منصتات للتو، لا حول لهنّ ولا قوة حيال خُبث ما يجري. "فوَّعتيهنْ" قالت لي، ما استلزم بعدئذ موعظة "إدارة الانفعال"، ثم استطردَتْ:"معك حق. بشار هوي قاتل ومسؤول عن الخراب. بس ما فينا نحكي هيك وبشكل مباشر بالإعلام".( هاي هيي إدارة الانفعال). بعد ذلك، جاءت إليّ سيدة أخرى من سيدات الوفد، طارحةً عليّ السؤال الآتي:" "أتختارين الحياة؟ أتختارين السلام؟". قلتُ والسخط يملأني، ومن دون "إدارة انفعال": "أنا على هذه الحال أصلاً وجذراً، فلماذا أختار؟".
****
اليوم، كنتُ أقرأ مقالاً في إحدى الصحف، مرّ أمام ناظريّ الاسم الذي ألقى عليّ موعظة "إدارة الانفعال" في الوفد المذكور أعلاه، هو اليوم على "منصّة القاهرة" ربما يدير انفعالاً آخراً. ضحكتُ ضحكة ساخرة ومريرة دفعة واحدة، ثم أغلقتُ صفحة المقال.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...