التناص بين التوراة والقرآن دراسة مقارنة 16
فراس الســواح
خاص ألف
2019-11-02
- قصة الخليقة
1- الخلفية الميثولوجية:
تتحدث أقدم الأساطير المدونة في ثقافات الشرق القديم، وهي الأساطير السومرية (النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد)، عن خلق العالم ابتداءً من الهيولى المائية الأولى. ونستطيع اعتماداً على عدد من النصوص السومرية التي لم تصلنا كاملة، إعادة بناء أسطورة التكوين السومرية على الشكل التالي([1]):
1- في البدء كانت الإلهة نمو، وهي المياه البدئية التي انبثق عنها كل شيء فيما بعد.
2- ثم إن هذه المياه الأولى أنجبت توأمين هما السماء آن، وهو مذكر، والأرض كي، وهي مؤنث، وكانا ملتصقين ببعضهما في كتلة مادية غير متمايزة، تدعوها النصوص السومرية بجبل السماء والأرض.
3- من تلاقح السماء والأرض ولد الهواء إنليل، وبدأ يشعر بالضيق من عدم وجود متسع له للحركة بين أبويه، فعمد بقوته الخارقة إلى فصل السماء عن الأرض، فسمت السماءُ وانبسطت الأرض، وراح الهواء إنليل يرتع بينهما.
إن عناصر قصة الميلاد المائي هذه تعود إلى الظهور في الميثولوجيا المصرية. ففي البدء لم يكن سوى الأوقيانوس المائي العظيم المدعو نون. في أعماق هذه الهيولى المائية البدئية، كانت تحوم روح بلا هوية تركزت في داخلها تدريجياً كل الممكنات، وصار اسمها آتوم (والكلمة تعني الاكتمال، وفي الوقت نفسه العدم). ثم إن آتوم هذا تجلى عند بدء الزمن تحت اسم آتوم - رع، وأنجب الآلهة والبشر. وفي رواية أخرى لقصة الخليقة المصرية نجد أن إله الشمس رع كان كامناً في حضن المياه الأولى نون تحت اسم آتوم. ولخوفه على نوره من الانطفاء انطوى داخل برعم لوتس ظل يهيم على غير هدى في الأعماق المائية. ثم جاء وقت سئم فيه من حالته الشبيهة بالعدم، فانبثق بإرادته الخاصة وتجلى تحت اسم "رع". وبعد ذلك أنجب الهواء شو، وهو مذكر، والرطوبة تفنوت، وهي مؤنث. وهذان أنجبا بدورهما الأرض جيب، وهو مذكر، والسماء نوت، وهي مؤنث. وكانت السماء والأرض في حالة التصاق وعناق شبقي دائم، ولكن الهواء شو الذي يؤدي هنا دور إنليل السومري، تسلل بينهما فرفع السماء على ذراعيه نحو الأعلى ووطئ الأرض بقدميه. ومنذ ذلك الحين وجيب ينوح ويبكي على فراق زوجته نوت([2]).
على أن أكمل وأطول نص في التكوين قد قدمه لنا البابليون ورثة الحضارة السومرية، وهو يعود بتاريخه إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، وقد وُجدت منه نسخة شبه تامة في مكتبة الملك آشور بانيبال بمدينة نينوى تعود بتاريخها إلى القرن السابع قبل الميلاد. في هذه الأسطورة يحل الإله البابلي مردوخ محل الإله القديم إنليل كبطل للتكوين، وهو الذي يفصل الكتلة المائية البدئية المدعوة تعامة، أو الأم هابور أصل كل الأشياء، والتي تصورها البابليون على هيئة تنين مائي هائل، ليصنع منها السماء والأرض وبقية مظاهر الوجود. فبعد معركة فاصلها مع هذه الإلهة وجُنْدِها، قطع مردوخ رأسها ثم شقها إلى قسمين، فانفتحت كما الصدفة، فرفع نصفها الأول إلى الأعلى فصار سماء وضع تحتها العوارض حتى لا يتسرب ماؤها، وبسط الثاني فصار أرضاً. ثم التفت بعد ذلك إلى تنظيم شؤون السماء والأرض، فعمد إلى السماء وزينها بالنجوم وأظهر كويكبات أبراج السنة، وصنع القمر وأوكله بالليل، وصنع الشمس وأوكلها بالنهار، وفصل بين تخوم النهار وتخوم الليل، ثم التفت إلى الأرض فأبرز معالمها وصنع التلال والجبال، وفجر من باطنها ينابيع وأسال أنهاراً، وخلق الغيوم وحمّلها بالمطر الغزير، مهيئاً بذلك لظهور الحياة النباتية والحيوانية. وأخيراً خلق الإنسان.
وقد وصلتنا هذه الأسطورة منقوشة على سبعة ألواح فخارية: الستة الألواح الأولى منها مخصصة لوصف فعاليات الإله الخلاقة، أما اللوح الأخير فمخصص لوصف جلوس الإله مردوخ على العرش في القصر الجديد الذي بناه له رفاقه الآلهة، واحتفالهم بنصره على تنين الماء وخلق العالم، وترنُّمهم بأسمائه الخمسين التي يعبر كل واحد منها عن صفة من صفاته أو خصيصة من خصائصه([3]). ولعل هذا ما أوحى إلى المحررين التوراتيين، الذين استلهموا هذه الأسطورة في فترة السبي البابلي، بفكرة أيام الخلق الستة واستراحة الخالق في اليوم السابع، ودبَّجوا قصتهم التي تقوم على العناصر ذاتها التي قامت عليها أسطورة التكوين البابلية وبقية أساطير التكوين في الثقافات المشرقية.
2- قصة الخليقة التوراتية:
على الرغم من أن قصة الخليقة قد تصدرت الإصحاحات الأولى من سفر التكوين، وهو أول أسفار التوراة العبرانية، إلا أن إشارات متفرقة إلى فعاليات إله التوراة يهوه في التكوين قد وردت في عدد من الأسفار الأخرى، حيث نجد يهوه منهمكاً قبل الخلق، على طريقة الإله مردوخ، في السيطرة على المياه الأولى وإخضاعها، أو في الصراع مع تنين بحري يمثل تلك المياه، يدعى لواياتان أو رهب. نقرأ في سفر المزامير: "أنت شققت البحر بقوتك، كسرت رؤوس التنانين على المياه. أنت رضضت رؤوس لواياتان... لك النهار ولك الليل أيضاً. أنت هيأت النور والشمس، أنت نصبت كل تخوم الأرض. الصيف والشتاء أنت خلقتهما". (المزمور 74: 13-17). وأيضاً: "أنت متسلط على كبرياء البحر، عند ارتفاع لججه أنت تُسكتها. أنت سحقت رهب مثل القتيل، بذراع قوتك بددت أعداءك. لك السماوات ولك الأرض أيضاً. المسكونة وملؤها أنت أسستهما، الشمال والجنوب أنت خلقتهما". (المزمور 89: 9-12). وأيضاً: "المؤسسُ الأرض على قواعدها فلا تتزعزع إلى الدهر وإلى الأبد. كسوتَها الغمرَ كثوب. فوق الجبال تقف المياه، من انتهارك تهرب، من صوت رعدك تفر تصعد إلى الجبال، تنزل إلى البقاع إلى الموضع الذي أسسته لها. وضعتَ تخماً لها لا تتعداه، لا ترجع لتغطي الأرض". (المزمور 104: 5-9). ونقرأ في سفر إشعيا: "استيقظي، استيقظي، اِلبسي قوة يا ذراع الرب. ألستِ أنتِ القاطعةُ رهب، الطاعنة التنين؟" (إشعيا 51: 9).
وفي الحقيقة فإن فكرة إخضاع المياه البدئية وقتل تنينها، لم ترد إلى الميثولوجيا التوراتية من ميثولوجيا بلاد الرافدين فقط، وإنما من الميثولوجيا السورية الكنعانية أيضاً. ففي نصوص بعل وعناة التي وردتنا من ثقافة مدينة أوغاريت الساحلية، نجد الإله بعل أقوى وأفتى الأرباب يخضع المياه البدئية المتمثلة في الإله "يم" قبل أن يباشر مهامه في تنظيم العالم، وترتيب دورة الفصول التي تأتي بالمطر والثلج لخصب الأرض وحياة الزرع. كما إنه يصرع التنين البحري "لوتان"، الذي يظهر في النصوص التوراتية تحت اسم "لواياتان". نقرأ في نصوص بعل الفقرة التالية وما يقابلها في سفر إشعيا التوراتي، حيث يبدو وكأن المحرر التوراتي ينسخ حرفياً عن النص الأوغاريتي:
1- النص الأوغاريتي:
والآن تريد أن تسحق لوتان
الحية الهاربة
الآن تريد أن تُجهز على الحية المتحوية
ذات الرؤوس السبعة
2- سفر إشعيا 27: 1
في ذلك اليوم يعاقب الرب
بسيفه القاسي الشديد
لواياتان الحية الهاربة
لواياتان الحية المتحوية
ويقتل التنين الذي في البحر
نأتي الآن إلى النص الأساسي لقصة الخليقة التوراتية، مع لفت النظر إلى أن لفظ الجلالة "الله" أينما ورد في التوراة هو ترجمة للاسم العبري "إيلوهيم"، وهو أحد الأسماء التي استخدمها المحررون التوراتيون في الإشارة إلى إلههم، إلى جانب الاسم إيل والاسم يهوه:
"في البدء خلق الله السماوات والأرض. وكانت الأرض خَربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف فوق وجه المياه. وقال الله ليكن نور، فكان نور. ورأى الله أنه حسن. وفصل الله بين النور والظلمة، ودعا الله النور نهاراً والظلمة دعاها ليلاً. وكان مساء وكان صباح يوماً واحداً.
وقال الله: ليكن جَلَدٌ في وسط المياه، وليكن فاصلاً بين مياه ومياه. فعمل الله الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد. وكان كذلك ودعا الله الجلد سماءً. وكان مساء وكان صباح يوماً واحداً.
وقال الله: لتجتمع المياه التي تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة. وكان كذلك. ودعا الله اليابسة أرضاً، ومجمع المياه دعاه بحاراً. ورأى الله ذلك أنه حسن. وقال الله: لتنبت الأرض عشباً وبقلاً يبرز بزراً، وشجراً ذا ثمر يعمل ثمراً كجنسه بزره فيه على الأرض. وكان كذلك. فأخرجت الأرض عشباً وبقلاً يبزر بزراً كجنسه، وشجراً يعمل ثمراً بزره فيه كجنسه. ورأى الله ذلك أنه حسن. وكان مساء وكان صباح يوماً ثالثاً.
وقال الله: لتكن أنوار في جلد السماء لتفصل بين النهار والليل، وتكن لآيات وأوقات وسنين، وتكون أنوار في جلد السماء لتنير على الأرض. وكان كذلك. فعمل الله النورين العظيمين، النور الأكبر لحكم النهار، والنور الأصغر لحكم الليل، والنجوم، وجعلها الله في جلد السماء لتنير على الأرض، ولتحكم على النهار والليل، ولتفصل بين النور والظلمة. ورأى الله ذلك أنه حسن. وكان مساء وكان صباح يوماً رابعاً.
وقال الله: لتُفِضْ المياه زحافات ذات نفس حية، وليطر طير فوق الأرض وعلى وجه السماء. فخلق الله التنانين وكل ذوات الأنفس الحية الدبابة التي فاضت بها المياه كأجناسها، وكل طائر ذي جناح كجنسه. ورأى الله ذلك أنه حسن. وباركها الله قائلاً: أثمري واكثري واملئي المياه في البحار، وليكثر الطير على الأرض. وكان مساء وكان صباح يوماً خامساً.
وقال الله لتُخرج الأرض ذوات نفس حية كجنسها، بهائم ودبابات ووحوش أرض كأجناسها، والبهائم كأجناسها، وجميع دبابات الأرض كأجناسها. ورأى الله ذلك أنه حسن. وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم، وعلى كل الأرض، وعلى كل الدبابات التي تدب على الأرض، فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم، وباركهم وقال لهم أثمروا واكثروا واملؤوا الأرض واخضعوها، وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء على كل حيوان يدب على الأرض... ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جداً. وكان مساء وكان صباح يوماً سادساً.
فأُكملت السماوات والأرض وكل جندها، وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك الله اليوم السابع وقدَّسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل خالقاً" (سفر التكوين 1 و 2: 1-3).
تتفق قصة الخليقة التوراتية في جميع عناصرها تقريباً مع قصة الخليقة البابلية. فالخلق يتم انطلاقاً من المياه البدئية التي يفصلها الخالق ويصنع منها السماء والأرض. وبعد ذلك تتتابع مراحل خلق بقية مظاهر الكون وفق الترتيب نفسه، ويأتي خلق الإنسان بمثابة الخاتمة، ثم يستريح إله التوراة في اليوم السابع مثلما استراح مردوخ في قصره واستوى على عرشه أمام بقية الآلهة التي احتفلت به.
3- قصة الخليقة القرآنية:
كما هو الحال في سفر التكوين التوراتي، فإن القرآن الكريم يخبرنا بأنه في البدء لم يكن سوى الله والماء. ثم خلق الله كل شيء في ستة أيام: «وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء....» (سورة هود: 7) ويروي ابن كثير في تفسيره لهذه الآية الحديث التالي عن الرسول الكريم رواه البخاري ومسلم: "كان الله قبل كل شيء، وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح المحفوظ ذِكْرَ كل شيء". وفي حديث آخر أن أبي هريرة قال لرسول الله: "إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني. فاخبرني عن كل شيء. قال رسول الله: كل شيء خُلق من ماء". (ابن كثير، ج 11 مجلد 2، ص 575. و ج 17 مجلد 3، ص 239).
وعندما أراد الله خلق العالم، عمد إلى هذه الكتلة المائية البدئية فشقها إلى نصفين، وصنع منها السماء والأرض: «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ....» (21الأنبياء: 30). ويقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً»، أي كان الجمع متصلاً بعضه ببعض، متلاصق متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر. ففتق هذه من هذه، فجعل السماوات سبعاً والأرض سبعاً، وفصل بين السماء الدنيا والأرض بالهواء". (الجزء 17، المجلد 3، ص 238). وفي موضع آخر يروي ابن كثير عن الربيع بن أنس: "وكان عرشه على الماء. فلما خلق السماوات والأرض قسَّم ذلك الماء قسمين، فجعل نصفاً تحت العرش، وهو البحر المسجور". (الجزء 11، المجلد 2. ص 75).
بعد ذلك تتتابع عمليات الخلق وفق ترتيبها في القصة التوراتية تقريباً، إلا أننا لا نستطيع أن نُرجع كل عملية إلى يوم بعينه من أيام التكوين. فقد رفع الله السماء وتركها في حالة سديمية غير منظمة، ثم التفت إلى تنظيم الأرض فرسم معالمها وخلق نباتاتها وحيواناتها: «خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» (31 لقمان: 10). «أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا# رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا# وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا# وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا# أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا#» (36 النازعات: 27-31). «وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ# وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً....#» (21 الأنبياء: 31-32).
وقد استغرق خلق الأرض وتنظيمها أربعة أيام من أيام الخلق الستة. بعد ذلك التفت الله إلى السماء وهي في حالتها السديمية، فنظم أمورها وزينها بالأجرام المضيئة والكواكب التي تسير في أفلاكها: «قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ# وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ# ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ# فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ#» (41 فُصّلت: 9-12).
وهنالك آيات أخرى تشير باختصار إلى فعاليات التكوين دون أن توحي بترتيب معين، منها: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ....» (21 الأنبياء: 33). «....وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً....» (6 الأنعام: 96). «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ....» (10 يونس: 5). «تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً» (25 الفرقان: 61). «وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ# وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ#» (36 يس: 33-34). «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ....» (42 الشورى: 29).
بعد ذلك يأتي خلق الإنسان كآخر عمل من أعمال التكوين: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ# وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء.... إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ#» (2 البقرة: 29-30).
وكما رأينا الرب في الرواية التوراتية يستريح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل، فإن الله يستوي على العرش في اليوم السابع: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ....» (57 الحديد: 4). ولكن الاستواء على العرش هنا لا يتضمن معنى الراحة: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ([4])» (50 ق: 38).
وهنالك عنصر في الرواية القرآنية لم يرد في سفر التكوين التوراتي، وهو خلق سبع سماوات وسبع أرضين: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ....» (65 الطلاق: 12). «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً....» (67 المُلك: 3). ولكن مثل هذا التصور للسماء والأرض قد ورد في الأدبيات الدينية اليهودية، ومنها ما جاء في كتاب الهاجاده (وهو نوع من الشروح على التوراة يستخدم أسلوب القص). فعندما خلق الله السماء جعلها سبع طبقات تتدرج من السماء الدنيا التي تستند قبتها إلى الأرض عند الجهات الأربع، وحتى السماء السابعة التي تتصل بيدي الخالق. كما جعل الأرض أيضاً سبع طبقات. ثم جعل الجحيم في الجهة الشمالية من الأرض وقسمه إلى سبع درجات، وجعل الفردوس في الجهة الشرقية وقسمه إلى سبع درجات أيضاً([5]).
وقد غدا هذا التصور لطبقات السماء والأرض جزءاً من العقائد اليهودية الراسخة، والتي تتفق مع التصورات الكوزمولوجية لثقافات الشرق القديم، التي رأت أيضاً أن السماء تتألف من سبع طبقات، وفوق السماء السابعة هناك مسكن إله السماء المدعو آنو في بلاد الرافدين، وإيل في بلاد الشام. والتي رأت أيضاً أن الأرض تندرج هبوطاً في سبع طبقات نحو العالم الأسفل (أو الجحيم)، وفي كل بوابة من بوابات الجحيم.
[1]- S. N. Kramer, Sumerian Mythology, Harper and Row, New york, 1961, ch. 2.
- S. N. Kramer, The Sumerian, The University of Chicago Press, 1963, ch. 4.
[2]- J. Viaud, Egyptian Mythology. In: Larousse Encyclopedia of Mythology, Hamlyn, London, 1977, PP. 11-16..
[3]- من أجل النص الكامل لأسطورة التكوين البابلية، ومراجعه، انظر كتابي (مغامرة العقل الأولى)، فصل التكوين البابلي.
[4]- (= تعب).
[5]- Willis Barnston, The Other Bible, Harper, Newyork, 1980, PP. 16-19.