عام الجليد (مقطع من رواية)
رائد وحش
2019-11-02
لا يراجع سبارتكوس دروسه على الإطلاق، وكل ما يفعله هو قراءة كتب الجغرافيا التي احتفظ بها من كل صفوفه السابقة. لطالما راوغ في الماضي لئلا يسلّم كتاب الجغرافيا، إذ إن المدارس في المرحلتين الابتدائية والإعدادية تعطي التلاميذ كتبهم بالمجان، على أن يسلّموها نهايةَ العام. وقتها يحتفظ لنفسه بكتاب الجغرافيا غير مبالٍ بإلحاح معلميه على ضرورة تسليمه أو دفع غرامة. وحين وصل إلى الثانوية وصار عليه شراء الكتب من ماله الخاص بات الاحتفاظ بها أمراً سهلاً.
من بين ما جمعه من صفوفه كلها أربعة كتب هي: "جغرافيا سورية"، و"جغرافيا بلاد الشام"، "جغرافيا الوطن العربي"، و"جغرافيا العالم".
يظلّ يتأمل الخرائط لساعات، مُركّزاً بشكل كبير على الخرائط التخصصية، التي ترسم التوزع الجغرافي للحيوانات، أو للثروات الباطنية، أو الأنهار. أما الخرائط السياسية فكثيراً ما أثارت حنقه.
نبّهتْهُ إحدى الخرائط مبكّراً إلى كون الجغرافيا صاحبة القرار الوحيد في مكان الحياة وشكلها. بسبب سطوتها التي لا تستطيع أشرسُ القنابل أن تهزمها تُوجد الفيلة في أمكنةٍ محدّدةٍ وتغيب عن الأخرى، وبسبب حكمتها التي لا يُمكن فهمُها حتى من أكبر العلماء ماءُ البحار مالحٌ وماءُ الأنهار حلوٌ. وبسبب عدالتها التي لا تحتاج إلى قوانين أو محاكم أو قضاة تُوجد الغابات والصحاري في أماكن معينة، وكائناتُ كلٍّ منهما سعيدةٌ. الجغرافيا هي الطبيعة التي منحت الطيورَ القدرةَ على التحليق، والسمكَ القدرةً على سكنى الماء، أما البشر، فرغم عدم اختلاف قراهم ومدنهم عن المراعي بالنسبة للحيوانات، أو الشطآن التي تضع عليها السلاحف البحرية بيوضها؛ فكلُّ ما يفعلونه بلاهة لأنّ حدود الجغرافيا السياسية التي يرسمونها، معتبرين ذلك تقدّماً، ليست سوى تعبير عن خسارتهم للغريزة الحيوانية، تلك التي تُرشد الطيورَ في هجراتها والأسماكَ في عوداتها إلى أماكن ولادتها.
حين بدأتُ أفكّرُ، تحت تأثيره، بالجغرافيا رأيتها بيضاء. شيء يشبه الثلج يجمع الطفولة والشيخوخة، فلا تعرف أهو البداية أم النهاية!
يحب أستاذ الجغرافيا الوسيم الذي يسميّه الطلاب أطلس، لكثرة ما يستعمل هذه الكلمة. وتصل سعادته إلى ذراها حين يرسله الأستاذ لجلب إحدى الخرائط أو مجسّم الكرة الأرضية من غرفة العلوم في الطابق الأرضيّ من المدرسة. صحيح أن الرحلة قصيرة ولا تكفي لإرواء شغفه من المصوّرات، لكنه يستخدمها ليخزّن صورها في ذاكرته، من أجل استعادتها لاحقاً. مرةً عثر على خريطة غريبة للعالم، بدت له مرسومةً بالمقلوب، وقد رسمها شخص اسمه الإدريسيّ. نسي نفسه وغاب طويلاً في قراءتها. أرسل المعلم طالباً آخر ليجلبه مع الخريطة، وحين صارح المعلم بأنه انشدّ إلى تلك الخريطة فرح ونسي غضبه، وشرح له أنّ الإدريسي ظنَّ الجنوب فوق والشمال تحت. وفي إحدى مهمات جلب الخرائط لم يمنع نفسه من سرقة أحد أطالس العالم وتخبئته في ثيابه.
أخبره الأستاذ أطلس أنّه يحبّ حبّه للجغرافيا، وأنه مستغرب من وجود شخص لديه هذا الشغف كله في المادة التي يعافها الطلاب عادة، حتى أن المعلم أطلس نفسه لم يكن يكترث بهذا العلم إطلاقاً، ولم يذهب لدراسته إلا لأن علاماته في الثانوية العامة لم تؤهله لدراسة الحقوق التي يحبّ. حين درسها وقع في غرامها واعتبرها العلم الأكثر أهمية بين العلوم جميعاً، فهي علم الأرض، ومن يفهمها سيعشق الأرض، بينما العلوم الأخرى ليست سوى علوم تدمير الأرض كالفيزياء والكيمياء، أو علوم من دمّروها كالتاريخ.
هناك مُدرّسة جغرافيا أخرى في الثانوية، اسمها أحلام، تعطي دروسها للصفوف الأدنى، لكنها بعكس جمالها بالغة القسوة، لذا أطلقوا عليها لقب كوابيس.
الجميع، طلاباً ومعلمين وإداريين ومستخدمين، يعرفون أن كوابيس تحبّ أطلس لكنه لم يكن يبالي بها أبداً، فالمعروف عنه أنّه تزوج بعد قصة حب.
حدث أن هاجمته وأهانته أمام الجميع، بحجة أنه يأخذ الخرائط كلها دون أن يترك لها ما تحتاجه، ووصفته بالأناني وغير اللبق واللامسؤول وقليل الذوق. اكتفى أطلس بالصمت، بينما بعض الإداريين يراقبون المشادة بحياد، وأوشكت أن تزيد من حدة هجومها نتيجة برودته، لولا تدخّل آذن الثانوية الطيّب الشهير بلقب أبْتِم أبْتِم، الذي شدّه من يده متذرعاً بأنه يريده في أمرٍ هامّ.
في ذلك اليوم، جلس راديو في الباحة ومن حوله حشدٌ هائل من الطلبة، فتياتٍ وفتياناً، يقرأ لهم نشرة الأخبار بصوت حربيّ:
"- البارجة كوابيس ترسل قصفاً عشوائياً في ميناء أطلس.
- المبعوثُ الدولي أبْتِم أبْتِم يمارس ضبط النفس، ويدعو جميع الأطراف إلى التهدئة، من أجل البدء في مباحثات السلام.
- من جهته، صرّح الجنرال بابا سنفور: لا نستهين بقدرات أحدٍ، لكننا لن نستعمل صواريخ سنفور 2، بسبب وجود مضادات جوية في ترسانة كوابيس.
- صف البكالوريا: لن نسمح لأحدٍ باستعمال أجوائنا كوننا دولة مسالمة".
الطلاب يضحكون ويطلبون من راديو إعادة قراءة النشرة مرةً تلو الأخرى. باستثناء سبارتكوس الذي وقف بعيداً عن الحشد، لكنه لم يستطعْ منع نفسه من الضحك، رغم شعوره بالأسف لما حدث للأستاذ أطلس.
في اليوم التالي، قرأ الطلاب قراراً بفصل راديو من كل ثانويات الجمهورية مُعلقاً على لوحة الإعلانات.