التناص بين التوراة والقرآن دراسة مقارنة 19 ج1
فراس الســواح
خاص ألف
2019-11-14
19- الطوفان الكبير
الخلفية الميثولوجية:
أسطورة الطوفان الكبير الذي غمر الأرض وأفنى البشر والكائنات الحية، عدا فئة قليلة نجت وأعادت بناء الحضارة، هي أسطورة شائعة في ثقافات العالم القديم وفي الثقافات البدائية المعاصرة. ولكن السومريين في جنوب وادي الرافدين كانوا أول من قدّم لنا وثيقة مكتوبة عن هذه الأسطورة ترجع إلى النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد. وقد احتوت الأسطورة السومرية العناصر التي بنت عليها بقية ثقافات المنطقة، إضافة إلى الثقافة اليونانية، تنويعاتها الخاصة.
وُجدت الأسطورة السومرية منقوشة على رقيم فخاري مكسور وكثير التشوه، ولكن الأسطر القليلة الباقية من النص كافية لإطلاعنا على الخطوط العامة للقصة. فقد رأى الملك الكاهن المدعو زيوسودرا في إحدى الليالي حلماً سمع فيه صوت أحد الآلهة يكلمه من وراء جدار، ويُعلمه عن قرار مجمع الآلهة بإفناء الحياة على الأرض. عند هذه النقطة يتشوه الرقيم. ومن المرجح أن الجزء المفقود من النص يتحدث عن تعليمات الإله بخصوص قيام زيوسودرا ببناء سفينة عملاقة يحمل فيها عدداً من البشر، إضافة إلى أزواج من كل أصناف الحيوانات. وعندما يتضح النص للقراءة مرة ثانية نجد وصفاً مكثفاً لاندياح الطوفان وتراجعه: "هبت العواصف كلها دفعة واحدة، ومعها انداحت سيول الطوفان فوق الأرض، وغمرتها لسبعة أيام وسبع ليال، ودفعت العواصف المركب العملاق فوق المياه المتعاظمة. ثم ظهر إله الشمس أوتو ناشراً ضياءه في السماء والأرض. فتح زيوسودرا كوة في المركب تاركاً أشعة أوتو تسقط منه. ثم خر ساجداً أمام أوتو ونحر ثوراً وقدم ذبيحة من غنم".
بعد ذلك يعود الرقيم إلى التشوه. وعندما يتضح للقراءة ثانية نأتي إلى خاتمة القصة، حيث يصف المقطع الأخير سرور الآلهة بنجاة الحياة من التدمير الكامل، ثم إسباغهم على بطل الطوفان نعمة الخلود: "زيوسودرا الملك سجد أمام آنو وإنليل. فوهباه روحاً خالدة مثل الآلهة. عند ذلك دُعي زيوسودرا باسم حافظ بذرة الحياة. وفي أرض دلمون حيث تشرق الشمس أسكناه"([1]).
اعتماداً على العناصر الرئيسة لهذه الأسطورة السومرية، قدّم لنا البابليون عدة نصوص عن الطوفان الكبير، أوضحها النص الوارد في آخر ملحمة جلجامش، حيث يروي بطل الطوفان نفسه القصة لجلجامش الذي قصده ليسأله عن الكيفية التي حصل بها على الخلود.
فقد اتخذ مجمع الآلهة بتحريض من إله العاصفة إنليل قراراً بإفناء الحياة على الأرض، ولكن قبل الشروع بتنفيذ خطتهم قام الإله إيا (= إنكي) بنقل الخبر إلى أوتنابشتيم ملك مدينة شوريباك وكلّمه من وراء جدار، وأمره أن يبني سفينة عملاقة وفق مخطط خاص شرحه له. وعند اندياح الطوفان عليه أن يحمل إليها كل ما يملك من ذهب وفضة، وأهله وأقاربه، ونخبة من أصحاب الصناعة والحرف، وعدداً لا يحدده كاتب النص من حيوانات الأرض ووحوشها. صدع أوتنابشتيم بما أُمر، وعندما بدأت نُذر الطوفان بمطر غزير مدمّر دخل السفينة وأغلق عليه الباب. استمر المطر بالهطول، ثم انهارت السدود وتدفق ماؤها، وانفتحت بوابات المياه الجوفية، فتعاظم الطوفان وحمل السفينة، بينما كانت العواصف الثائرة تحصد البشر وتحطم الأرض مثل جرّة فخارية. حتى الآلهة أنفسهم ذعروا من هول الطوفان وهربوا جميعاً فالتجؤوا إلى السماء السابعة سماء الإله آنو كبيرهم، وربضوا هناك عند الجدار الخارجي يرتعدون. وقامت بينهم الإله عشتار تنوح وتندب فناء البشرية، وتعلن ندمها على الموافقة على قرار الطوفان.
ستة أيام وست ليال والرياح تهب، والعاصفة وسيول المطر تطغى على الأرض. ومع حلول اليوم السابع هدأ البحر وسكنت العاصفة وتراجع الطوفان. فتح أوتنابشتيم كوة السفينة، كان الهدوء شاملاً وقد آل البشر إلى الطين، فتهالك وانحنى يبكي. ثم إن السفينة استقرت على قمة جبل نصير الذي منعها من الحركة أسبوعاً. خلال ذلك أتى أوتنابشتيم بحمامة وأطلقها، فطارت بعيداً ثم عادت إليه لأنها لم تجد يابسة تقف عليها. وبعد فترة لا يحددها كاتب النص أطلق أوتنابشتيم سنونو فطار بعيداً ثم عاد إليه. وبعد فترة أخرى أطلق غراباً فطار بعيداً وحام وأكل ولم يعد. عند ذلك أطلق أوتنابشتيم جميع ركاب السفينة في الاتجاهات الأربعة، وقدّم ذبيحة للآلهة أحرق تحتها القصب الحلو والآس وخشب الأرز لتشم الآلهة الرائحة الزكية. تجمع الآلهة حول القربان، وعندما وصلت عشتار رفعت عقدها الكريم الذي صنعه لها آنو وقالت: "أيها الآلهة الحاضرون، كما لا أنسى هذا العقد اللازوردي في عنقي، كذلك لن أنسى هذه الأيام قط وسأذكرها دوماً. هلموا جميعاً إلى الذبيحة إلا إنليل، لأنه دونما تفكر قد سبب الطوفان". وعندما وصل إنليل ورأى السفينة ثارت ثائرته وقال: "هل نجا أحد من الفانين؟ ألم نقرر إهلاك الجميع؟". فتوجه إليه إيا بقوله: "أيها المحارب، أيها الحكيم بين الآلهة، كيف دونما تروٍّ جلبت هذا الطوفان؟ كان بإمكانك أن تُحمِّل الآثم إثمه والمعتدي عدوانه، تمهله فلا يهلك ولا تهمله فيشتط. لو أرسلت بدل الطوفان الأسود الذئاب لقللت من عدد البشر، لو أرسلت بدل الطوفان المجاعة لأنقصت من البشر، لو أرسلت عليهم الطاعون لحصد منهم. وبعدُ لستُ الذي أفشى سر الآلهة الكبار. لقد أريت أوتنابشتيم حلماً فاستشف من الأمر. والآن اعقد أمرك بشأنه". فصعد إنليل إلى السفينة ثم أخذ بيد أوتنابشتيم وأصعده هو وزوجته معه وجعلهما يركعان أمامه، ثم وقف بينهما ولمس جبهتيهما مباركاً وقال: "ما كنتَ قبل اليوم إلا بشراً فانياً، ولكنك ستغدو وزوجتك مثلنا خالدين". وبعد ذلك أمر بأخذهما وجَعَلَهما يسكنان في القاصي البعيد عند فم الأنهار([2]).
الرواية التوراتية:
إن الشكل الأدبي الأخير لملحمة جلجامش يعود بتاريخه إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد. ولكن نسخة منها وُجدت محفوظة في مكتبة الملك آشور بانيبال بمدينة نينوى تعود بتاريخها إلى أواسط القرن السابع قبل الميلاد، وهذا يدل على أنها بقيت متداولة إلى حين وصول سبي يهوذا إلى بابل نحو عام 587ق.م، وكان لدى محرري التوراة فرصة للاطّلاع على قصة الطوفان الكبير، ودمجها في روايتهم عن بدايات التاريخ البشري في سفر التكوين. فخلال تسعة أجيال أعقبت وفاة آدم كان شر البشر يكثر على وجه الأرض، فندم الرب على خلقه للإنسان وعزم على إفنائه بواسطة طوفان شامل.
تتصف قصة الطوفان التوراتية بالاضطراب والتشوش والتناقض في المعلومات، وذلك بسبب لجوء المحرر إلى الجمع بين روايتين مختلفتين عن الطوفان في نص واحد دون محاولة منه للتوفيق بينهما في سردية متسقة. في الرواية الأولى يظهر الإله التوراتي بالاسم يهوه، ولذلك يدعونها الباحثون بالرواية اليهوية (Y)، أما في الرواية الثانية فيظهر تحت اسم إيلوهيم (أو الله في الترجمات العربية، وGod في الإنكليزية)، ولذلك يدعونها بالرواية الإيلوهيمية (E). ومثل هذا الجمع بين الرواية Y والرواية E نصادفه في العديد من قصص سفر التكوين، ولكنه هنا يتجلى في أوضح أشكاله وأكثرها تعقيداً. ولغرض التيسير على القارئ فقد قمت بتفكيك القصة إلى عناصرها اليهوية والإيلوهيمية، ثم إلى شبك الثانية في سردية متصلة ومطردة خالية من التشوش والتناقض:
"كان نوح رجلاً باراً كاملاً في أجياله. وسار نوح مع الله. وولد نوح ثلاثة بنين: سام وحام ويافث. وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلماً. ورأى الله الأرض فإذا هي قد فسدت، إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه على الأرض. فقال الله لنوح: نهاية كل بشر قد أتت أمامي لأن الأرض امتلأت منهم ظلماً. فها أنا مهلكهم مع الأرض. اصنعْ فُلكاً من خشب جُفر، وتجعل الفلك مساكن وتطليه من داخل ومن خارج بالقار، وهكذا تصنعه: ثلاثمئة ذراع يكون طول الفلك وخمسون ذراعاً عرضه وثلاثون ذراعاً ارتفاعه. وتصنع كواً للفلك وتكَمِّله إلى حدّ ذراع من فوق، وتصنع باب الفلك في جانبه. مساكن سفلية ومتوسطة وعلوية تجعله. فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كل ما في الأرض يموت، ولكن أقيم عهدي معك فتدخل الفلك أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك. ومن كل حي من كل ذي جسد اثنين من كلٍّ تُدخل إلى الفلك لاستبقائها معك تكون ذكراً وأنثى. من الطيور كأجناسها ومن البهائم كأجناسها، اثنين من كل تُدخل إليك لاستبقائها. وأنت فخذ لنفسك من كل طعام يؤكل واجمعه عندك فيكون لك ولها طعاماً. ففعل نوح حسب كل ما أمره الرب (التكوين 6: 9-22).
"ولما كان نوح ابن ستمئة سنة صار طوفان الماء على الأرض. فدخل نوح وبنوه ونساء بنيه معه إلى الفلك من وجه مياه الطوفان، ومن البهائم الطاهرة والبهائم التي ليست بطاهرة، ومن الطيور ومن كل ما يدب على الأرض دخل اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك ذكراً وأنثى كما أمر الله نوحاً. وحدث بعد السبعة الأيام أن مياه الطوفان صارت على الأرض. في سنة ستمئة من حياة نوح، في الشهر الثاني، في اليوم السابع عشر من الشهر، في ذلك اليوم انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم وانفتحت طاقات السماء، وكان المطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة (التكوين 7: 6-12). "وكان الطوفان على الأرض أربعين يوماً على الأرض، وتكاثرت المياه ورفعت الفلك فارتفع عن الأرض. وتعاظمت المياه وتكاثرت جداً على الأرض، فكان الفلك يسير على وجه المياه. وتعاظمت المياه كثيراً جداً على الأرض فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء، خمسة عشر ذراعاً في الارتفاع تعاظمت المياه فتغطت الجبال، فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض... وتبقى نوح والذين معه في الفلك فقط" (التكوين 7: 17-24).
"ثم ذكر الله نوحاً وكل الوحوش وكل البهائم التي معه في الفلك، وأجاز الله ريحاً على الأرض فهدأت المياه وانسدت ينابيع الغمر وطاقات السماء، فامتنع المطر من السماء، ورجعت المياه عن الأرض رجوعاً متوالياً... وبعد مئة وخمسين يوماً نقصت المياه واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبل أراراط.... وحدث بعد أربعين يوماً أن نوحاً فتح طاقة في الفلك التي كان عمِلها، وأرسل الغراب فخرج متردداً حتى نشفت المياه عن الأرض. ثم أرسل الحمامة من عنده ليرى هل قلَّت المياه عن وجه الأرض، فلم تجد الحمامة مقراً لرجلها فرجعت إليه... فلبث أيضاً سبعة أيام أُخر وعاد فأرسل الحمامة من الفلك، فأتت إليه عند المساء وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها، فعلم نوح أن المياه قد قلت عن الأرض. فلبث أيضاً سبعة أيام أُخر وأرسل الحمامة فلم تعد ترجع إليه أيضاً.
وكان في السنة الواحدة والستمئة (من عمر نوح) في الشهر الأول في أول الشهر، أن المياه نشفت عن الأرض. فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر وإذا وجه الأرض قد نشف. وفي الشهر الثاني في اليوم السابع والعشرين من الشهر جفت الأرض. وكلم الله نوحاً قائلاً: اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك، وكل الحيوانات التي معك... فخرج نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه وكل الحيوانات... وبنى نوح مذبحاً للرب وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة، وأصعد محرقات على المذبح. فتنسَّم الرب رائحة الرضا، وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضاً من أجل الإنسان، لأن قلب الإنسان شرير منذ حداثته، ولا أعود أيضاً أُميت كل حي كما فعلت. مدة كل أيام الأرض زرع وحصاد وبرد وحر وصيف وشتاء ونهار وليل لا تزال (التكوين 8: 1-22).
"وبارك الله نوحاً وبنيه وقال لهم: أثمروا واكثروا في الأرض، ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كل حيوانات الأرض... وها أنا مقيمٌ ميثاقي معكم ومع نسلكم من بعدكم ومع كل ذوات الأنفس الحية... لا ينقرض كل ذي جسد بمياه الطوفان، ولا يكون أيضاً طوفان ليخرب الأرض. وقال الله: هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعه بيني وبينكم وبين كل ذوات الأنفس الحية التي معكم إلى أجيال الدهر. وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض؛ فيكون متى أنشر سحاباً على الأرض وتظهر القوس في السحاب أني أذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل نفس حية (التكوين 9: 1-14). وعاش نوح بعد الطوفان ثلاثمئة وخمسين سنة، فكانت كل أيام نوع تسعمئة وخمسين سنة ومات. (التكوين 9: 28-29).
بين الرواية التوراتية والرواية البابليلة:
تعتمد الروايتان التوراتية والبابلية على العناصر نفسها، وتسير الأحداث فيهما على نحو متوازٍ. فقرار الطوفان يتخذه الإله إنليل في الرواية البابلية بعد موافقة مجمع الآلهة عليه، وفي الرواية التوراتية يتخذ القرار الإله يهوه منفرداً نظراً لعدم وجود مجمع للآلهة. أما الدافع إلى ذلك فهو ازدياد شر البشر على الأرض، على ما نفهم ذلك بشكل صريح في مطلع القصة التوراتية، وبشكل غير مباشر في نهاية القصة البابلية، حيث يقول إيا لإنليل: "كيف دونما تروٍّ جلبت هذا الطوفان؟ كان بإمكانك أن تُحمِّل الآثم إثمه والمعتدي عدوانه ...إلخ". بعد ذلك يقوم كل من الإله إيا والإله يهوه باختيار رجل صالح لمهمة إنقاذ بذرة الحياة على الأرض، ويعطيه تعليمات مفصّلة حول مخطط السفينة وكيفية بنائها، وركابها وما يُحمل فيها من متاع. فقد كان على أوتنابشتيم أن يحمل معه عدداً غير محدد من أهله المقربين وممتلكاته، وعدداً غير محدد أيضاً من حيوانات الأرض. وكان على نوح أن يحمل معه امرأته وأبناءه ونساء أبنائه، ومن الحيوانات من كل زوجين اثنين، إضافة إلى ما يكفي من طعام. ولكن أوتناشتيم كان أكثر فطنة من نوح لأنه حمل معه أيضاً نخبة من أهل الصناعة والحرف، من شأنها حفظ منجزات الحضارة من الضياع.
انداح الطوفان في الروايتين بتأثير عاملين رئيسين هما ماء المطر والمياه الباطنية التي تفجرت من أعماق الأرض. وأضافت الرواية البابلية إلى ذلك مياه السدود التي انهارت. وقد استمر طغيان الطوفان في الرواية البابلية سبعة أيام، تلتها سبعة أيام أُخر استقرت السفينة خلالها على جبل نصير، أثناء ذلك وعلى ثلاث فترات غير محددة أطلق أوتنابشتيم على التوالي ثلاثة طيور هم الحمامة والسنونو والغراب. أما في الرواية التوراتية (E) فلدينا أربعين يوماً لطغيان الطوفان وأربعين يوماً لتراجعه، إضافة إلى ثلاثة أسابيع أطلق خلالها نوح الغراب أولاً ثم الحمامة مرتين، وقد رست السفينة بعد تراجع الطوفان على جبل يدعوه النص بجبل آراراط.
بعد أن تأكد كل من أوتنابشتيم ونوح من انحسار الطوفان عقب بشارة الطائر الثالث، أطلق ركاب السفينة وقدم قرباناً لإلهه. يلي ذلك مباركة إنليل لأوتنابشتيم وزوجته وإسباغ نعمة الخلود عليهما، ومباركة يهوه لنوح وبنيه وإعطائه عمراً مديداً بلغ 950 سنة. أما عن الميثاق الذي عقده يهوه مع كائنات الأرض بعدم إرسال طوفان مدمر مرة أخرى، وقوسه الذي وضعه في السحاب (وهو قوس قزح) ليذكّره بميثاقه، فيقابله قول الإلهة عشتار عندما رفعت عقدها اللازوردي: "كما أني لا أنسى هذا العقد اللازوردي في عنقي، كذلك لن أنسى هذه الأيام، وسأذكرها دوماً".
بين الرواية القرآنية والرواية التوراتية:
وردت قصة نوح والطوفان في القرآن الكريم بشكل مختصر في السور التالية: (7 الأعراف: 59-64)، (10 يونس: 71-73)، (26 الشعراء: 105-122)، (37 الصافات: 71-83)، (54 القمر: 9-16)، (23 المؤمنون: 23-31)، (71 نوح: 1-8). وهنالك إشارات عابرة إلى القصة في السور التالية: (21 الأنبياء: 76-77)، (25 الفرقان: 77)، (29 العنكبوت: 14-15)، (40 غافر: 5-6). أما القصة الأكثر تفصيلاً فقد وردت في (سورة هود: 25-49).
تحتوي الرواية القرآنية على العناصر الرئيسة للقصة التوراتية، وتسير على التوازي معها، ولكن باستخدام الأسلوب المكثف الموجز الذي يقفر فوق التفاصيل:
1- شر البشر يكثر على الأرض، والله يختار الرجل الصالح نوحاً لهدايتهم:
«إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ# قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ# أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ# يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ# قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً# فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً# وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً#» (71 نوح: 1-7) «....رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً# إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً#» (71 نوح: 26-27).
ونلاحظ هنا أن الرواية القرآنية قد انفردت بذكر الدعاء الذي توجّه به نوح إلى ربه لكي يهلك الكافرين ولا يترك لهم أثراً. وهذا يعني أنه كان يتمنى على ربه أن يرسل كارثة شاملة لا تبقي ولا تذر.
2- قرار الطوفان والإعلام عنه والتعليمات:
«وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ# وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ#» (11 هود: 36-37).
«حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ» (11 هود: 40).
نلاحظ من قوله تعالى: «وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا» أن نوحاً كان يصنع السفينة تحت إشراف الرب بعد أن تلقى منه التعليمات الخاصة بذلك وحياً. كما إنه قد حمل زمرة من الصالحين إضافة إلى أهله، وهذا عنصر غير وارد في الرواية التوراتية. أما عن التنور الذي فار عند ابتداء الطوفان، فيقول أغلب المفسرين بأنه تنور كانت تخبز فيه امرأة نوح الخبز، ومنه تدفقت المياه السفلية.
3- دخول الفلك واندياح الطوفان:
«وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ# وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ# قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ#» (11 هود: 41-43).
تنفرد الرواية هنا بذكر قصة ابن نوح التي لم ترد في التوراة. كما أنها لا تنص على فترة معينة لطغيان الطوفان وتراجعه.
4- تراجع الطوفان والرسو على الجبل:
«وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» (11 هود: 44).
نستدل من قوله أعلاه: " يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي" على أن علل الطوفان كانت مياه الأمطار والمياه السفلية التي تفجّرت من الأعماق. أما الجودي فهو جبل بالعراق قرب الموصل.
5- النزول ومباركة بطل الطوفان:
«قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ» (11 هود: 48).
ونلاحظ هنا غياب عنصر إطلاق الطيور الوارد في الرواية التوراتية.
وقد أنعم الله على نوح بحياة مديدة، فعاش عدداً من السنوات يعادل ما ذكرته الرواية التوراتية.
نقرأ في سورة العنكبوت:
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً....» (29 العنكبوت: 14).
ونقرأ في سفر التكوين:
"وعاش نوح بعد الطوفان ثلاثمئة وخمسين سنة، فكانت أيام نوح تسعمئة وخمسين سنة، ومات" (التكوين 9: 28).
[1]- Alexander Heidel, The Gilgamesh Epic, Phoenix, Chicago, 1963.
[2]- انظر ترجمتي الكاملة للوح الحادي عشر من النص في مؤلفي "جلجامش - ملحمة الرافدين الخالدة".