إيران التي تتشظى.. الخارطة التي ستتغير
أسامة آغي
2019-11-30
لم يعد خافيًا على متابعي تطورات الانتفاضات الشعبية في لبنان والعراق، أن هاتين الانتفاضتين غايتهما الرئيسية استعادة الكرامة الوطنية، وإنهاء النفوذ الإيراني والتبعية السياسية لنظام حكمه. فالنفوذ الإيراني الذي بدأت السلطات العمل عليه، منذ أن قفز الخميني إلى سدة القيادة المطلقة لإيران عام 1979، تحت مسمى “تصدير الثورة”، وغايته الهيمنة على دول الجوار العربية من نافذة طائفية، من أجل تحقيق حلم ملالي إيران بإقامة الإمبراطورية الفارسية الجديدة.
الحلم القومي/الديني الإيراني الملتبس، جاء في مرحلة غير مناسبة لقيامه، فهو حلم صاعد في مرحلة سيطرة القطب الرأسمالي الأوحد على العالم، وتحديدًا بعد سقوط التجربة السوفيتية عام 1991، أي في ظل انفراد الولايات المتحدة في الهيمنة السياسية والاقتصادية الدولية. هذه الحقيقة لم تدركها القيادة السياسية الخمينية، فمشروعها القومي/الديني يتناقض مع جوهر النظام العالمي الجديد، وهو يهدد مصالح هذا النظام العالمي في منطقة الشرق الأوسط، وهي قلب العالم استراتيجيًا، سواء من حيث موقعها الجيوسياسي، أو من حيث ثرواتها النفطية وغير النفطية الهائلة.
النظام العالمي الجديد، ترك لنظام الخمينية السياسية فرصة استثمار مشروعه، وتركه ينفذ مشروعه النووي، وهذان المشروعان السياسي والنووي كانا لا يغيبان عن عين الرقابة الدولية، وتحديدًا الأمريكية، وكان الأمريكيون يعرفون أن هناك برنامجًا نوويًا إيرانيًا ذا صبغة عسكرية، أي إن الإيرانيين مضوا في طريق الحصول على السلاح النووي، الذي يردع خصومهم ويمنع تهديدهم، وفي الوقت ذاته يفرضون بحكم تفوقهم النووي سيطرتهم السياسية على دول المنطقة.
نظام الحكم الإيراني الذي كان يستثمر أموالًا هائلة في لبنان وسوريا واليمن تحت شعار “المقاومة”، لم يخطر بباله أن حدة التناقضات في هذه البلدان مع مشروعه السياسي والأيديولوجي، ستصل إلى مرحلة الانفجار، كما حدث في الانفجار الشعبي السوري ضد نظام الحكم في دمشق. النظام الإيراني لم يدرك أن سياساته في الإقليم، وتكلفتها الباهظة، وكذلك صرفه المالي الكبير على تطوير قدراته العسكرية والنووية، ستكون هي المسبب الحقيقي لحالة الفقر والقهر في البلاد وفي المنطقة، ما جعل من هذه الحالة قنبلة قابلة للانفجار كما يحدث الآن.
إن سياسة القبضة المطلقة المتمثلة بـ “الولي الفقيه”، وذراعه العسكرية المسماة “الحرس الثوري”، كانت ولا تزال تتعامل مع الشعب الإيراني وكأنه رهط كبير من العوام، الذين لا هوية وطنية لهم، ولا يسمح لهم بالحلم بحياة خارج ما ترسمه إرادة “المرشد”، أو نظام حكمه الديني. لهذا نستطيع القول إن الانفجار الشعبي العارم في جميع أنحاء إيران، لم يأتِ نتيجة مؤامرة خارجية، تهدد استقرار وسيادة البلاد، كما يدعي المرشد وأزلامه، بل جاء الانفجار نتيجة تراكم سياسات القهر والإفقار، التي تلاقت مع سياسة العقوبات الاقتصادية الأمريكية، التي حاصرت الاقتصاد الإيراني، الذي يسيطر “الحرس الثوري” على نسبة 60% منه.
هنا يمكن لنا رسم المشهد الإيراني وفق صورتين، الصورة الأولى تتمثل بانتفاضة شعبية إيرانية ذات اتجاه وطني، وهي انتفاضة ترفض حكم الملالي وأساطيرهم الدينية، والصورة الثانية تتمثل بانتفاضات البلدان التي تهيمن عليها حكومة طهران، مثل لبنان والعراق واليمن، إضافة إلى الانتفاضة السورية المستمرة منذ أكثر من ثمانية أعوام. هذه الانتفاضات بدأت بفكفكة النفوذ الإيراني تدريجيًا، وهي في المحصلة، وبالتزامن مع الانتفاضة الشعبية الإيرانية، نزيف حقيقي للنفوذ الإيراني في الإقليم وفي البلاد.
لكن النفوذ والوجود العسكري الإيراني والميليشياوي في سوريا يتلقى باستمرار ضربات عسكرية إسرائيلية، تحت هدف إسرائيلي معلن، وهو منع إيران من تثبيت قواعد عسكرية لها على الأرض السورية، وهذا الأمر يتم بمعرفة موسكو وإغماض عينيها عنه، والاكتفاء بعبارات الرفض والشجب الدبلوماسية، التي لا تفيد في شيء.
وفق ما تقدم من رؤى للأحداث والأوضاع، يمكننا القول إن المشروع الإيراني بالهيمنة على المنطقة، هو مشروع بدأ بالتشظي التدريجي، وتشظيه لا يكمن في بلدان النفوذ فحسب، بل يتعداه إلى تشظي الحاضنة الإيرانية، التي اكتشفت أنها كانت مجرد حطب لنار أفكار الخمينية السياسية، بتصدير الثورة، وإقامة الإمبراطورية الفارسية الجديدة.
إن استمرار الانتفاضة في إيران، التي يبدو أنها ستأخذ أشكالًا مختلفة وجديدة، بعد زج النظام الإيراني قوات الجيش لسحق هذه الانتفاضة، ولعل من هذه الأشكال خروج الوضع العام في البلاد عن السيطرة، ويترافق ذلك مع بدء تفكك المنظومة الشيعية السياسية في المنطقة العربية، وهذا سيرتد على أنظمة الحكم الحالية في هذه المنطقة، بصورة انهيارات، ستتم وفق قواعد فعل الانتفاضات، وقواعد التدخل الدولي.
نظام الحكم الإيراني، الذي بدأ لهيب نار التغيرات السياسية في ساحته يطارد وجوده، قد يحاول الهروب إلى الأمام، من خلال افتعال حروب إقليمية مع دول الجوار، وستكون غاية الحرب، إن حدثت، اللجوء إلى احتمال القدرة على الحشد الوطني، الذي يعتقد حكام طهران أنهم قادرون على القيام به، تحت شعار حروبهم المقدسة ضد “قوى البغي والعدوان والشيطان الأكبر”.
إذا ذهب النظام الإيراني إلى مثل هذا الخيار، فإنه يستعجل نهايته السياسية بأسرع ما يمكن، فهو لن يستطيع خداع الشعب الإيراني الجائع من جديد. أما إذا أراد تقديم تنازلات إقليمية وتنفيذ تراجع عسكري وسياسي من مناطق نفوذه، فإن ذلك يصب أيضًا في مصلحة تأجيج الانتفاضة الشعبية في البلاد، ما قد يهدد وحدة البلاد ويتسبب في تشظيها.
وهذا الاحتمال وارد، وتحديدًا بما يتعلق بانفصال منطقة الأحواز ذات الأغلبية العربية، والغنية بالنفط، والتي يمكن للقوى الدولية أن تعمل على انفصالها، لتحرم إيران من الثروة النفطية، التي هي بالأساس ليست سوى ملك أهلها العرب أبناء الإقليم، وهي ثروة تستخدم في خدمة مشروع الهيمنة الإيرانية على المنطقة.
بقي أن نقول إن النفوذ الإيراني في طريقه إلى الانحلال، وإن خارطة النفوذ في المنطقة هي الأخرى في طريق التغير.
إنه وربما شرق أوسط جديد.