لماذا تقلق إيران من ثورتي العراق ولبنان؟
منير شحود
2019-11-30
يا للمفارقة، فقد دخل العراق العهد الإيراني منذ احتلاله من قبل القوات الأميركية عام 2003، ولم يكن الأميركان يومًا خبراء في إدارة فوضى الحروب التي يحدثونها كمحتلين، فلا خبرة استعمارية تاريخية لديهم. لنقارن ذلك بما فعلته فرنسا في سورية إبّان سنوات الانتداب، فبالرغم من كل ما يمكن أن يقال سلبًا عن هذا الاستعمار، أنشأت فرنسا هيكل دولة حديثة، ومرافق مدنية ما زالت بقاياها شاهدة حتى الآن. في المقابل، ركزت الولايات المتحدة على بناء جيش وقوى أمنية مدججة في العراق، لكن كل هذه الإجراءات، التي كلّفت المليارات، لم تصمد حتى أمام عصابة (داعش) الإرهابية عام 2014، وكان عراق المالكي آنذاك مستريحًا في حضن الإيرانيين.
وبحكم تركّز معظم قوى المعارضة العراقية في إيران قبل الغزو الأميركي للعراق، وهي معارضة ذات طابع مذهبي ومدعومة من إيران على هذا الأساس، وبعضها ميليشيات مسلحة كانت قد التجأت إلى إيران بعد فشل الانتفاضة التي أعقبت هزيمة العراق في حرب الخليج (1990 – 1991)؛ فقد دخلت إيران لملء الفراغ الذي أحدثه انهيار الجيش العراقي، في غفلة عن الأميركان، وعلى الأغلب تحت أنظارهم، ولم يكن لديهم خطة ما بعد الحرب على ما يبدو. ثم جاءت قوانين الحاكم بريمر، ومنها حلّ الجيش، لتكرّس سيطرة الميليشيات الشيعية، ومن ثَم سيطرة إيران الولي الفقيه، على مقدرات العراق. كانت إيران قد عجزت عن تحقيق أي اختراق حقيقي في العراق، طوال ثماني سنوات من الحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988)، فجاء الاحتلال الأميركي ليقدم لها العراق على طبقٍ من ذهب.
العراق الآن مستعمرة إيرانية، إلى هذه الدرجة أو تلك، من خلال سيطرة ونفوذ ميليشيات “الحشد الشعبي” المدعومة والمسلحة من قبل “الحرس الثوري”، ولكنه –أيضًا- البلد الذي سيتقرر فيه مصير النفوذ الإيراني في المنطقة، فعلى الرغم من أهمية لبنان الذي يسيطر عليه “حزب الله” بالوكالة، فإن أهميته بالنسبة إلى إيران لا يمكن مقارنتها بأهمية العراق؛ الجار الأكبر والغني بالموارد الطبيعية.
كانت الترتيبات السياسية التي أعقبت الانتخابات الأخيرة في العراق (2018) قد كرست نفوذ إيران من جديد، من خلال الإتيان برئيس الوزراء عادل عبد المهدي، ولو أن تبعيته لإيران لا تقارن بتبعية نوري المالكي، في حين كان سلفه، حيدر العبادي، قد حقق درجة أكبر من الاستقلالية.
بدايةً، بدا أن الانتخابات الأخيرة، التي كان الاصطفاف الطائفي فيها أقلّ من سابقاتها، ستحدث بعض التغيير السياسي؛ لأن تحالف “سائرون” المدعوم من رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر جاء في الصدارة، لكن نتائج هذه الانتخابات أُفرغت من عراقيتها المحدودة، وربما لعبت المواقف المتذبذبة لمقتدى الصدر ذاته، التي تراوح بين رفع الصوت في وجه إيران أو التبعية لها، دورًا في تكريس النفوذ الإيراني من جديد.
وفي كلٍّ من العراق ولبنان، تحرص إيران على أن يبقى الجيش الوطني ضعيفًا، أو تعارض تسليحه للتحكم فيه، وليبقى تحت رحمة الميليشيات التابعة لها، وذلك لضمان سيطرتها الشاملة على هذين البلدين حين يقتضي الأمر. وفي مسعى لتعويم دور الميليشيات، فإنها تضطلع بمهام وطنية أحيانًا، مثل قتال “الحشد الشعبي” لتنظيم (داعش) في العراق، والدور الذي لعبه “حزب الله” اللبناني في انسحاب “إسرائيل” من جنوب لبنان، واستمراره في الحديث عن الدور “المقاوم”، المجمّد منذ الاتفاقية التي أنهت حرب عام 2006.
لكن العامل الجديد الذي زعزع أركان النفوذ الإيراني هو الحراك الثوري المندلع في كل من العراق ولبنان، وهو حراك شبابي و”غير انتخابي”؛ أي لم يكن له ثقل يذكر في نتائج الانتخابات. وسيترك هذا الحراك أثرًا مهمًا في حاضر ومستقبل النفوذ الإيراني في هذين البلدين، من خلال تغييرات ستطال البناء السياسي الذي لا مكان فيه لهيمنة إيران، إنما للشراكة معها، مثل أي دولة جارة أو صديقة، من دون المرور عبر حرسها الثوري.
كما أن مواجهة الفساد والفاسدين، في العراق ولبنان، جزءٌ لا يتجزأ من مواجهة النفوذ الإيراني، النفوذ الذي يجلب معه الفساد ويكرسه، كونه يعمل بالأساس خارج مؤسسات الدولة أو يحاول اختراقها، ويحتاج الأمر في الحالتين إلى علاقات الفساد وقنواته. لقد وصل الفساد في العراق في ظل النفوذ الإيراني إلى حالة غير مسبوقة، مثلما أشارت أرقام الثروات المنهوبة من قبل المسؤولين العراقيين، بخاصة في عهد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. وإذا كان الحراك اللبناني، النظيف نسبيًا حتى الآن، قد أسقط حكومة الحريري، كأول أهدافه، وأثمر الضغط الشعبي عن البدء بفتح ملفات الفساد، فإن الحراك العراقي، المدمّى، يزداد إصرارًا على الثبات والتشبث بالساحات لتحقيق أهدافه.
تتمثل خصوصية الحراك العراقي بأنه يتركّز في مناطق الأغلبية الشيعية، وفي العاصمة بغداد، وهو موجه ضد النفوذ الإيراني ومرتكزاته الحزبية والميليشياوية في جنوب العراق، الذي تعتبره إيران حديقتها الخلفية. إنه تحول وطني عراقي غير مسبوق، وقلب للطاولة في وجه إيران. وإذا أضيف إلى ذلك تزامن الحراكين العراقي واللبناني، وتقاطع أهدافهما في الحد من النفوذ الإيراني؛ أصبح التخوف الذي عبّر عنه المسؤولون الإيرانيون أخيرًا، في محله، وربما يفوق المخاوف المتعلقة بالعقوبات الاقتصادية.
عامل آخر قد ينهي المسألة، وهو اندلاع موجة جديدة من الاحتجاجات في الداخل الإيراني، وإذا أضيف هذا العامل إلى مفاعيل العقوبات الاقتصادية والتطورات التي قد تحدثها انتفاضتا العراق ولبنان، فإن عودة إيران إلى ما وراء حدودها الدولية تصبح احتمالًا واردًا بقوة، ما يمهد السبيل لنهاية حقبة بائسة من حياة الإيرانيين، كما بالنسبة إلى حياة شعوب البلدان التي تغلغلوا فيها.
من المستحيل فصل التطورات الثورية المتنقّلة في المنطقة بعضها عن بعض، وقد صارت حقيقة، وعبرت ذروة تكاليفها الدموية الباهظة، بحكم تراجع قدرة الأنظمة على القمع وزيادة خبرة المنتفضين، ولتصبح الثورات أكثر سلمية وتحقيقًا للأهداف بعد الآن. لا يعني ذلك أن الأمور ستمضي في خطٍّ مستقيم، فهذا ليس مما تعِدُ به مسارات التاريخ، ولكنه الاتجاه الصحيح نحو عالمٍ أفضل.
تضيف مشاركة المرأة في هذه الثورات الكثير من الميزات، منها الحدّ من العنف. وإذا كانت المرأة قد شاركت في أصعب الظروف التي عاشتها الثورات السابقة، فإن مشاركة المرأة اللبنانية بفاعلية شديدة الوضوح تعود إلى تراكم الحريات، ولو أنه لم يصل إلى درجة إحداث تغيير عميق في قوانين الأحوال الشخصية والمدنية، فضلًا عن محدودية المخاوف المتعلقة بالقمع، في حين تعدّ مشاركة المرأة العراقية التجربة الأولى والملفتة على هذا المستوى.