الثورات العربية وعروبة المستقبل
كمال عبد اللطيف
خاص ألف
2020-02-15
سَكَتَ العرب، منذ ما يزيد عن عقْد، عن الحدود الدنيا من التنسيق التي كانت بينهم. كما سكتوا عن مطالبهم في استكمال التحرير، ومشاريعهم في النهضة والتنمية والوحدة العربية، وانخرطوا في أشكالٍ جديدةٍ من الصراع فيما بينهم، ومع محيطهم الإقليمي. تقلصت، ثم اختفت، مظاهر الطموح العربي في الاندماج الاجتماعي والوحدة الوطنية، ثم الوحدة القومية. وانتعشت، في مقابل ذلك، لغة الإثنيات العِرْقِيَّة والطائفية بمختلف أشكالها وألوانها. اختفى مشروع الوحدة العربية، وغُيِّبَت الإيديولوجيات القومية، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل عن مصير العروبة في مجتمعاتٍ وأنظمةٍ تعاني اليوم من وَيْلاَت الانهيارات المتتالية، وتُواجه خطر الخرائط والانقسامات الجديدة، خطر الصفقات التي تروم تتويج الانهيارات المتتالية. تُرَتَّب وتُرَسَّم ملامح ما ذكرنا أمام العربي وبمشاركتهم.
يحق لنا أن نتساءل، والثورات العربية تتجه إلى إكمال عقد من الزمان، عن مآلات التجمعات الإقليمية العربية ومآلات المشروع القومي، في ضوء كل ما راكمه الفعل الثوري العربي في المشرق والمغرب العربيين. صحيحٌ أن الحراك الثوري العربي فتح التاريخ السياسي العربي على آفاقٍ مَكَّنت القِوى الثورية من الانخراط في عمليات مواجهة قِوَى الاستبداد والفساد، إلا أن تداعيات ما حصل دفعت بعض الأنظمة إلى بيع مجتمعاتها للقِوَى الإقليمية والدولية بكلفة الاستمرار في السلطة والرضى بالتبعية.
لا نستطيع القول، على الرغم من مظاهر الدمار في حواضر وأرياف عربية كثيرة، إن زمن
"نفترض أن يُواكِب الوعي العروبي الجديد متغيرات عالمنا"المشروع القومي العربي انتهى، أو استنفد شرعيته السياسية والتاريخية، بالصيغة التي يتحدّث بها بعضهم عن نهاية الأوطان والقوميات زمن العولمة. يمكن أن نتحدث، من دون حرج، عن حدود (ومحدودية) المشاريع والتجارب السياسية القومية التي تبلورت في الفكر السياسي العربي خلال القرن الماضي، الأمر الذي يقضي بضرورة البحث عن سُبُل أخرى، تسمح بتجاوز مقدّماتها ومفاهيمها، من أجل إعادة بناء العروبة والمشروع العربي الوحدوي، في ضوء متغيِّرات الحاضر وتحدّياته. صحيحٌ أنه ما تزال بيننا اليوم تياراتٌ سياسيةٌ تتغنَّى بطريقة تقليدية بالإيديولوجيا القومية، كما تبلورت وتطوّرت في القرن الماضي، إلاَّ أننا نعتبر أن هذا الغناء الجنائزي لا يمكن التَّعْوِيل عليه في مسألة إعادة الاعتبار لعروبة المستقبل ورهاناتها.
اختارت الثورات العربية تحرير العربي من الاستبداد والفساد، وقَدَّمَت للعروبيين ما يساعدهم على التخلص من الأنظمة التي كانت ترفع راية العروبة، وتخاصم الحرية، مُلْحِقةً أعطاباً كبيرة بمشروع العروبة الديمقراطي، المنفتح على المكاسب السياسية والتاريخية لعصرنا. تعود العروبة اليوم بمحاذاة الفعل الثوري، لتعلن نهاية خطاب الأمة بِصِيغِه التقليدية والطوباوية، وتنخرط في معركة المستقبل، تحديث المجتمعات العربية ودمقرطتها. وبهذه العودة، تقيم جسوراً أكثر صلابةً في طريق بناء العروبة أفقا مستقبليا مدعوما بالشرعية السياسية الديمقراطية، الغائب الأكبر في خطابات العروبة العرقية والرومانسية التي عمّرت طويلا من دون طائل.
لا خلاف بين المتابعين للثورات العربية، في غياب الشعارات المرتبطة بالخيار السياسي القومي داخل الميادين، إلّا أن أفعال الاحتجاج التي واكبت الحراك الشعبي العربي، طوال سنوات العقد الثاني من هذا القرن، كانت تواجه أنظمة الطغيان، كما كانت تواجه ما تبقى من الأنظمة القومية، وشعار رحيل الطغاة الذي يعد العنوان البارز في الثورات المتواصلة أو المنتظرة، ينتصر للمشروع السياسي الديمقراطي الذي تؤشّر على حضوره واتساعه مختلف أشكال مواجهة أنظمة الفساد العربية.
يحضر التوجه العروبي بصورة جديدة في قلب شعارات الميادين العربية، يحضر مُجَسَّداً في
"ما تزال بيننا اليوم تياراتٌ سياسيةٌ تتغنَّى بطريقة تقليدية بالإيديولوجيا القومية"مطلبي الحرية والكرامة، وهو يحضر على الرغم من صور التراجع التي جعلت شكل حضوره باهتاً في الخيارات التحديثية التي تروم المساهمة في بناء مجتمع المواطنة والحريات وتداول السلطة، حيث يمكن أن يسمح ميلاد المجتمع المذكور، في عمليات الابتعاد كلية عن بقايا سلطوية الأنظمة القومية الشمولية، والاقتراب أكثر من الأبواب الموصلة إلى عروبة المستقبل. نتصوَّر أن عروبة المستقبل تضع من بين أولوياتها التخلُّص من الأساطير الكبرى في الخطاب القومي والمشروع الوحدوي، أساطير الدم والعِرق والقبيلة، ذلك أنه يصعب علينا اليوم، بعد كل الأحداث التي عرفها العالم وعرفتها بلداننا منذ انهيار الاتحاد السوﭭﻴﺎتي وتَفَكُّك المعسكر الاشتراكي، وما خلَّفته حروب الخليج في تسعينيات القرن الماضي، من جروح وندوب في أجسامنا ووجداننا، إضافة إلى تداعيات الثورات في بلدان عربية كثيرة منذ 2011.
نفترض أن يُواكِب الوعي العروبي الجديد متغيرات عالمنا، ويحاول استيعابها بمنطق المصلحة والعقل، قصد بناء أسُس ومقدِّمات جديدة، نستلهم روحها من الإخفاقات التي لحقت خيارنا القومي في القرن الماضي. ذلك أن عروبة اليوم والغد مدعوّة إلى التعلم من التحوُّلات المعرفية الكبرى التي أنتجتها ثورات المعرفة في عالمنا. أما مدخلها المناسب فيتمثَّل في الإصلاح السياسي القائم على مقوِّمات التحديث السياسي ومبادئه، ذلك أن كثيراً من أعطاب مشروعنا القومي ترجع، في البداية والنهاية، إلى عدم مقدرة النخب والأحزاب وتنظيمات المجتمع المدني العربية على منح الإصلاح السياسي الأولوية المطلوبة، بحكم أنه يتيح إمكانية بناء مجتمع جديد، مجتمع يكون قادراً على الانخراط في بناء العروبة ومتطلباتها.