Alef Logo
ابداعات
              

رواية / يوميات يهودي من دمشق ج1

ابراهيم الجبين

2007-03-05

يا عبدُ الحروف كلها مرضى... ـ إبراهيم الجبين

مقدمة خاصة بألف

ألف...كانت أول ما رأيت في دمشق، من المشاريع الجادة..وكان مدهشاً أن تظهر بعد حرب طاحنة حرقت الأخضر واليابس، في مخيلة الجيل..عاصفة تعصف لا بالصحراء وحدها ولكن أيضاً، بكل ما كان يوازن الشخصية العربية عموماً، والسورية خاصة، وقتها..مع أن نيرانها لم تلفح الشارع ولكنها لفحته!!

مجلة صغيرة بطباعة متواضعة وبحرية فائقة في الشكل والكتابة، من غلافها إلى غلافها...بدا لي أن أحمد معلا يؤسس لمشروعه الأكبر عبر تلك الصفحات وبدا لي أن ثمة ما هو أعقد من جدار سميك، يحجب الرؤية ويفصل الكتّاب بحرية

وأنا القادم من صحرائي، العاثر بتفاصيل دمشق، والباحث بلهفة عن تلك الفكرة..وذلك الجنون..وصل إلى يدي عدد من ألف..وعرفت أن شيئاً جديداً ما يُخلق الآن، سيغيّر الكثير..
حسناً ..محمود السيّد !! ولكن من غيرُ محمود السيد صاحب (مونادا دمشق) يجدر به أن يلقي بظلّه على مشروع كهذا...؟
سحبان السواح !! ومن يجرؤ على مغامرة ثقافية ومالية كهذه سوى سحبان..؟
الشباب الذين عملوا في تحرير ألف، تنازعَهم اختلافُهم..وتطايرت بهم هموم أكبر وأكبر، وهي أنهم كانوا مشغولين بتأسيس أشخاصهم كمثقفين وبالبناء لمشاريعهم كموهوبين يتحركون على الساحة لتوّهم.
ولكن الفرصة كانت متاحة للجميع، كي يروا ويتفرّسوا في الثقافة السورية وهي تظهر، ولأول مرة، منذ أن استولت المؤسسات الرسمية على كل شيء، وليرى الجميع كيف يمكن لمجلة تُحرّر في المقاهي وتُصحّح وتُخرج في الغرف الضيقة، وتطبع من مصروف بيت السواح، كيف يمكن لها أن تهزم أبنية بحجم مبنى جريدة الثورة، أو قلعة اتحاد الكتاب، أو أروقة وزارة الثقافة العاتمة.
وكيف يتلقّف القراء أعدادها..وكيف تثير الجدل إثر الجدل ..كل ذلك يحدث عندما كان النص الإبداعي لا يزال محصوراً في القوالب التقليدية، وكان الرسميون هم السادة وهم من يحكم على الذائقة بأنها كما يتصورونها، وليست أي شيء آخر.
ألف في المقاهي..في الجامعات ..بين الشباب..في صالات عرض اللوحات...في حوارات المعارضة...بين يدي الرسميين أيضاً ..كلّ عابثٍ في ألف، وجد صدى لعبثه في المكان الذي اختاره...
فعلت هذه المجلة الكثير...وكان لابد لها أن تتوقف في ذلك الوقت، كي تبقى مشروعاً حلماً لكل من كتب على صفحاتها..لتبقى أندلساً مذهلة...ستعاود الظهور دون شك.
ولأن الحروف كلها مرضى..كما اقتبست ألف يوماً ما من النفري العظيم، ولأن من صنعوا ألف يستحقون التحية اليوم.. كلّهم ...حتى المرضى منهم...ولأنهم جميعهم صنعوا مشاريعهم فيما بعد .
ولأنّ ألف كذلك ... ولأنني لا يمكن أن أنسى ما فعلته ألف بقراءة سريعة كتبتها يوماً ما عن سليم بركات حين كان اسمه محظوراً في كل مكان ... وكيف لم يصدّق أكراد الجزيرة أن أحداً يجرؤ على ذكر اسم سليم بركات داخل الأرض السورية، وكيف تناهبوا المقال وأخذوا يصورونه عن صفحات ألف ويوزعونه بالسر فيما بينهم..
لأن ألف كل ذلك.. ستكون مكاناً أليفاً لعملي الجديد، بعد أن نشر و حقق عدداً لا بأس به من القراء في زمن قياسي..، عند الصديق خلف في جدار..التي تسير على خطى ألف، وتترك أثراً يراه الرائي، ويعرف أنه لن يمضي هكذا...
(يوميات يهودي من دمشق) تنشر على حلقات عند صديقي سحبان السواح...في ألف الجديدة.

يوميات يهودي من دمشق
هذه الرواية تستند إلى أحداث وشخصيات حقيقية..بعض الأسماء تم تغييرها لضرورات تتعلق بسلامة أصحابها.
كتبت هذه الصفحات في كلّ من دمشق وحلب وسياتل و نيويورك

1
لم تكن تلك الأرض تعني لي الكثير، ولكنهم يتحدثون عنها في البيت، وفي مكان الصلاة، وفي نشرة الأخبار، ليس مهماً الآن استعادة تلك اللحظات، وكيف تم اكتشاف أن هذه الأرض لها معنى آخر غير كونها شوارع وبيوت وحارات وأبنية مغبرة وأيضاً مبان حكومية وأماكن للفسحة والنزهات أو ما كان يسميه أهلي (سيران )...
في السيران كنا نخرج إلى المناطق المحيطة بالمدينة، وكنت على الأغلب أشعر بالملل، لم أتعود على مغادرة الأماكن الحجرية، وحين يذهب أبي إلى مشغله، في القشلة، كنت أرافقه وأنا مليء بالإحساس بأنني سائح فأنا الآن أبتعد عن الحارة، وأذهب في مغامرة إلى القشلة رغم أن المسافة لم تكن تزيد عن مئتي متر فقط، ولكنها كانت تعني عبور الحدود وتلك الحدود التي لم تكن مرئية كانت أكثر من مرئية وثقيلة وحادة، الحدود التي تفصل بين الأحياء المسيحية وحارة اليهود حيث نسكن.
الآن مضى كل ذلك وذهب الجميع في سيرانهم الجديد إلى البعيد، وانفتحت الحارة وأصبح كل شيء مختلفاً، وبقيت وحدي مع هاتين الآنستين الخمسينيتين، شقيقتي زينب وراحيل، قد يندهش البعض من أن أختي الكبرى اسمها زينب، أما أنا فلا أجد الأمر غريباً، فأبي لم يكن يكترث إذا كان اسم أحد أبنائه الأربعة عبرانياً أم لا، وإذا ما كان الاسم يحمل دلالات آتية من الديانتين الأخريين، كان يهمه فقط أن يكون الاسم ملائماً للوقت وقد كان وقتها يعمل لصالح أحد التجار الدمشقيين الذين يمتون إلينا بصلة قرابة لم أعرف كيف وقتها، فهم مسلمون سنة ونحن يهود موسويون كما يسموننا، عرفت فيما بعد أن أقاربنا هؤلاء قد فضلوا التحول إلى الإسلام لأسبابهم التي قال أبي إنها تخصهم ولم يطلعنا عليها، وكان هذا التاجر قد بدأ يصبح شيخاً مسلماً وقرر التبرع بقسط كبير من أمواله الهائلة لبناء جامع باسمه قرب باب توما، وكانت ابنته الكبرى اسمها زينب ـ وهو الاسم الذي سمى به محمد رسول المسلمين ابنته ـ كان أبي قريباً من الرجل ويساهم معه في كافة نشاطاته، ولذلك قرر أن يكرّم زينب بنت الشيخ الجديد بأن يسمي ابنته على اسمها.
لا أعرف لماذا أحدثك عن أمور كهذه، هل تعتقد أننا صرنا أصدقاء كفاية حتى أفتح لك صدري وأبوح لك بأسراري الخاصة؟ لا أعرف على كل حال أنا الذي جئت إليك وطلبت أن نتحدث.
* * *
لست الوحيد الذي لديه أصدقاء غريبو الأطوار، هناك أيضاً من يحس بأنه يرافق أناساً مختلفين أو لهم علامات فارقة. ولكن هذا الصديق ليس عادياً وليس غريب الأطوار ـ قد أكون أنا كذلك ولهذا أراه مختلفاً ـ جاء إلي وأنا في المقهى، وكنت وقتها في أسوأ أحوالي والعواصف تشتد من حول كتفي، أفكر بما أفعل وبما لم أفعل، كنت أقصف كسعفة، في الخارج خلف زجاج المقهى كان الثلج يندفع بخفة من الجنوب من جهة البرلمان إلى عمق شارع العابد، يقترب من طاولتي شاب أشقر بثياب عادية، أقل أناقة قليلاً مما توحي ملامحه، يشبه سريان الجزيرة السورية، ولكنه ليس سرياناً هذا واضح من التفاصيل غير الدقيقة في وجهه، فالسريان طالما تميزوا بوجوه محفورة وملونة بدماء كثيرة تتحرك تحت جلودهم. هذا الشاب مختلف، ولكن من هو ؟..
* * *
قال أبي إننا يجب أن نرحل فوراً فقد سمح لنا الرئيس بالسفر أخيراً ولكنْ هناك شرط وحيد، وهو ألا نفكر بالعودة ثانية إلى هنا، ماذا أفعل ؟...لا أريد الرحيل...وأبي يحقق حلمه القديم والأزلي بالذهاب إلى هناك وأخذ يعد العدة للسفر واتفق بسرعة مع أحد التجار على أن يبيعه أثاث البيت، زينب لم تناقشه، تريد فقط أن تذهب إلى هناك كي تتزوج رغم أنها تجاوزت الأربعين بعدة سنوات تكتمها دائماً، راحيل مثلي تحب البقاء هنا، ربما ما زالت تنتظر عودة صديقها المسيحي الذي ذهب إلى الحرب في العام 1967 ولم يعد، كان نجيب أكثر شبان الحارة زعرنة وقلة أدب..وكنت وقتها لا أزال طفلاً ولكنني أعرفه وأتذكر كيف أنه ذهب مرغماً إلى التجنيد والجبهة ولا أعتقد أنه مات شهيداً فداء لوطنه وأرضه، كان يجب أن تفكر راحيل بالسفر إلى هناك للبحث عنه بدلاً من زينب، فمن المؤكد أنه بقي هناك ويحمل الآن جواز سفر الدولة.
أنا لا أريد السفر لأنني لا أعرف لماذا علي أن أسافر، قد تظن أنني أكثر تطرفاً من أهلي ولكن هذه هي الحقيقة، هنا وهناك مكان واحد يا إبراهيم، يقولون أرض مقدسة هناك، ولكن هل هذه الأرض ليست مقدسة أيضاً ؟
اسمع...يصف الصوفيون اليهود قدر إيليا وأخنوخ اللاحق في السماء بطريقة خيالية، ففي حين تلتهم النار جسد أخنوخ ويتحول هو ذاته إلى الملاك الأعلى ميتاترون، يحافظ إيليا بعد صعوده على ارتباطه بالعالم البشري، حيث يمكنه الظهور على الأرض،إذا كان ذلك ضروريا.إن جسده لم يشكّل من تراب الأرض كبقية الكائنات البشرية، بل جاء من شجرة الحياة، وقد مكّنه هذا من تنفيذ أوامر الله ومعجزاته..هكذا..ألم تنتبه إلى أن إيليا لم يكن يوماً من الأرض؟ بل هو من شجرة الحياة وبالتالي فإن أي أرض هي مقدسة عنده، لأنها ارتباطه بالعالم البشري الذي على معجزاته أن تظهر فيه...ليس لديّ أرض مقدسة دون سواها...كل الأرض ملك للآتي من شجرة الحياة.
* * *
مذهل كيف يفكر هذا الأشقر...ولكنني لا أعرف بعد..أتوقع أنه يفكر بطريقة غرائبية أيضاً، مازال يقترب، لعله لا يقصدني..يجب أن لا أحدّق به أهكذا ..ماذا لو كان يتجه نحو ذاك الذي يلعب بالزهر مع العجوز العراقي، لا أحب هذا العجوز يقول إنه كان عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث في العراق وأنه اختلف مع صدام حسين يوم أن قال لهم صدام ( قسماً بالله..اللي أسمعه همساً يحكي ويّا مواطن عراقي..أو بعثي..إلا أطرّه بإيدي أربع وصل....يلا اطلعو..لعنة الله على هالشوارب) وكان أعضاء القيادة في طريقهم إلى الإعدام لولا أنه تمكن من الفرار بطريقة ما بواسطة أحد أقاربه، وجاء إلى البعث الآخر حيث سيستضيفونه هنا ويخصصون له الكثير من الخدمات..بيت وسيارة ودخل شهري مغدق.وهو الآن لا يريد العودة إلى العراق مع أن صدام قضى الوقت وهو يفكّر في كتابة مذكراته في السجن الأميركي، قبل إعدامه، وانتهى عهده وسقطت جمهورية الخوف التي صنعها. لماذا لا يريد العودة ؟! لا أفهم كيف أترك أفكاري أحياناً تسترسل وتتسلسل...
ما همّني أنا، عاد أم لم يعد..؟
لا شك أن الفتى الأشقر يقترب مني أنا، حتى أنه يبتسم وكأن في فمه كلاماً يكاد يسبق وصوله إليّ. كيف يمكن أن أترجم أفكاري المختلطة حول إنسانية أنك تخاف من اقتراب أحد منك ؟ لا مشكلة في من يكون، ولكن في أن يكون هنا الآن.
أحياناً تشعر أنك لا تطيق أن يلمسك أحد، وكأنك لا تريد أن يوقظك أحد من كآبتك، مع أنني لا أرغب بالاستغراق في الكآبة.
لأعد إلى ورقتي ..كنت أكتب عن بيروت ...وعن بحر بيروت ..لم أستطع تحمل الحياة هناك، كان يسيطر علي شعور باليأس وعدم الإدراك لكل شيء ..
حتى الماء في بيروت كان مختلفاً، والخضار والهواء والأصدقاء ...كنت أقول :
كتابة على بحر بيروت ....
لماذا لم أكتب شيئاً في بيروت ؟!
ولمَ تجعلني الأبنية القديمة في دوامة كما يفعل بي النهر ؟!
ما أكتبه في بيروت
عن بيروت ...
ليس عن بيروت ؟
لا ليس عن المدينة ولا سكانها الذين اعتادوا صخب السنوات والكلام الدائخ كمركب رامبو .....والفكرة التالية في حوارٍ مديد ...
لا تكتب في بيروت ...!!
كيف لا أكتب في بيروت ؟!
ولكن كيف أكتب في بيروت ؟!
يدخل البحر دورته الزرقاء والخضراء ...على المقهى تجلس البدوية في ثياب حديثة ..تنظر إلي كمن يكتشف قرينه الناري....لم أتحدث معها...أدرت عيني إلى البحر ....
والبحر يأتي بالكلام القديم ....خشب رطب مالح ما زال ينتظر من يحمله إلى المتحف ...متحف الحرب ...ومتحف الناجين...
الناجون من الحرب هم الأحياء الآن....وهم أبناء القتلة...ولكنهم لا خيار لهم سوى القتل وقتها ..والانجذاب نحو الصدف المرمي في رمل الشاطئ....
يظهر البحر في المنحنى الأرضي ....تراه من الأشرفية كما تراه من خلف النهر....تراه من فردان ...وتراه من الرملة البيضاء...تراه من الحمرا....تراه من دمشق أيضاً....
ماذا يفعلون في بيروت ....سألتُ أصحابي ...لم أعثر على أحد يفعل شيئاً .... جميعهم يعيشون باضطرار ولكن في حياتهم اشتياق إلى الحرب ....دون بنادق ولا قذائف ولا متاريس ....حرب في الرقص والموسيقى وحرب في الفراش وفي الشراب ...
على البار القريب ...كأس فودكا ...تسير لوحدها على الخشب الرخامي ....من اليمين إلى اليسار ... صورة للحلاج ....كان يحترق من يومها في بيته في الحمرا ...
صورة لزياد رحباني ... صورة لهيفا وهبي .... وهراير ... صورة لسامر أبو هواش ....الفلسطيني الرقيق ....الذي لا يتحدث عن الثورة .,..يفضل التحدث عن ابنه إسماعيل ...أو عن ضياء ....أو عن الترجمة ...
في المدى التي لا تراه العين ...أصلع بشاربين ...وصوت ضاحك ....عباس بيضون ....يعرف أنني لن أنجح في رحلتي ...ولكنه يتكلم وكأنني صرت على الحد الذي يفصل آخر مفرزة للسوريين عن الأرواح السجينة ....
ولكن أين سفن البحر ...؟
لا المرفأ يشبه الذي حدثوني عنه ولا مينا الصيادين ....وأين مبنى السفير ...؟
هل هذه بيروت ؟!
هناك ما ينطمر في غبار الحداثة الجديدة ...؟
بسام حجار ويوسف بزي أحياء .....
كنت مطارداً ...والأرواح السوداء تلاحقني .... كتبت (نهاية التاريخ السوري) في ملحق النهار ....لم أشعر أنني خارج الأرض التي تلاحقني ....معي ورق ينبغي أن لا يراه أحد ...
لا شيء في بيروت يذكّرني بأنني خرجت من حدود الراية الحمقاء للعنف...
ولا شيء سيقول لي كيف أصنع ؟!
أين بيت سعدي يوسف الذي أكلته الكوليرا ...؟!
وأين مطبعة أبو علي التي زرتها قبل سنوات ؟!
أين الطريق التي مرّ منها جورج حاوي بعد عودته من زيارة غيفارا ؟!
هل أنا في بيروت ؟!
لا لست هنا ؟!
حين يضرب الشريط الشوكي الذي تهزه الريح بطرف قميصي ، التفت إلى الخلف ....ماذا يوجد في الخلف سوى المفرزة ؟!
والمفرزة لا يجلس فيها سوى الآتين من بلادنا الموصدة ....
هل أنا في بيروت ؟!
لستُ في أي مكان الآن ...
أصعد إلى الطابق السابع في برج حمود ...حيث أسكن على أنني لبناني .....عبرت الحدود بالرشوة ...ولكنهم سوف يعرفون ...وسيصلون إلى الطابق السابع حيث أسكن على أنني لبناني ....يحاصرني شهود يهوه ورئيستهم التي تحيك الثياب بإبرتها المقدسة ، أنت من عند قرياقوس ...مطران المسلمين ؟! نعم من عند قرياقوس ...
.ولكنه ليس مطراناً لأحد !!!
أنت تقرأ بالعبرانية ؟!
اقرأ بالسريانية ...
أنت ...
أنت ...
وفي الأعلى ..أتفقد المبنى القديم في برج حمود ...هناك بقايا من سنوات الحرب ...صندوق رصاص ...وجمجمة طائر ....وكتباً لشخص ما يبدو أنه من القوميين السوريين ....
لم يكن لدي وقت لأتحسّس نفسي ...هل أنا هنا ؟
(إنهم في الثكنة القديمة في الأشرفية ) هل تحضر اجتماعاتنا ؟...
وماذا تفعلون ؟!
نقرأ سيرة المنتظر ....
ومن تنتظرون ؟....
لا يجيبون ....
وماذا عليّ أن أفعل أنا ؟
ستكتب عن بيروت ....
لم اشعر أنني هنا ....
لن تشعر ...أنت في الطبقة السفلية من المدينة ....
هل تتقن أي شيء ...؟
لاشيء ...!!
حسناً سنقول إنك تتقن أشياء كثيرة .......
ما هي المشكلة ؟
لا مشكلة ...
إذاً ؟
عادت الطيور إلى السطح الذي أسكنه على أنني لبناني ، لم يكن صاحب البيت ليقبل بي لو عرف أنني من دمشق ....ولكنه سيحدثني عن المعمودية ...إذاً ليتحدث ...هناك الكثير ...وسيتحدث عن الذين احتجزوا ولده يوماً ولم يعد إليه ...وسيتحدث عن بيته الذي سأسكنه وكيف أنهم سيطروا عليه لسنوات ........
ماذا أفعل ؟!
هل أعود إلى دمشق ؟!
ستطاردني الأرواح السوداء ....
وسأترك زوجتي وطفلتي في مهب الرياح الشريرة ...
ريح من شر تهب من دمشق ......
ولكنني لا أعرف كيف أصنع ...هل انتظر معهم ذاك الذي ينتظرونه ؟!
أجلس وحيداً مع البحر ....تراني المراكب التي لا أراها ...
وتراني سلطعوناتٌ ، وكائناتُ ليلٍ ....
أجلس وحيداً مع البحر ...
أنظر في الكأس .... نوستراداموس ...ماذا تفعل هنا ؟
تركتك في دمشق ...
ولو أنك تتركني ...
ولو أن شيئاً يترصّدك في بيروت ...ستعرف أنني رأيت ما رأيت
هل أنت في المدينة التي تعرف ؟
لا ...
يتوقف البحر ..
والسلطعونات ترجع خطوة عن زحفها ....كانت تقترب مني ....
وكائنات الليل تصمت ...
وبيروت ترحل إلى مكانها في الغيب ....
في الغيب الأزرق
في الغيب السماوي
* * *

2
أنت ـ كما توقعت ـ لا تفهمني ،وكل ما أقوله لك هو عن بيت في حارة اليهود في دمشق، تصوّر أنني اكتشفت أشياء مثيرة جداً في بيتنا ..
هل تعرف كيف ؟!
لا تعرف ...أقول لك ، قرأت كتاباً عن مقتل أحد الرهبان المسيحيين في القرن التاسع عشر في الحارات القديمة وقد جاء في الكتاب أن ثمانية عشر يهودياً قاموا بتنفيذ العملية، لم تكن قتلاً فقط بل كانت طقساً دينياً أو ما شابه ، غير مهم ..المهم أن الأماكن الذي يتحدث عنها الكتاب ما تزال موجودة، وقد ورد فيه أن الجثة تم تقطيعها ورميها في فجوة في الأرض تقع فوق أحد فروع النهر..هذه الفجوة في بيتنا....عثرت عليها...وتتبعت التفاصيل وتمكنت من مطابقة الكلام عن مقتل توما الكبوشي مع المكان...هل هذا يثيرك ؟...أعرف أنك تهتم ولكنك لا تريد أن تظهر لي ذلك..أنتم تتحفظون في العلاقة معنا، لكنني لست تماماً من هؤلاء الذين لا تريدون التعامل معهم، وأيضاً لست منكم، هل تريد أن أتابع ؟...اليوم يقولون لي أنت عظيم لأنك رفضت السفر إلى هناك....ليس لدي وقت للتفكير في ما إذا كان قراري صحيحاً أم لا..أريد أن أتوقف عن التفكير بصوت عال معك...لا يمكنني أن أبقى هكذا أثرثر كممثل مسرحي عجوز. قرأت ما كتبته عن العبور وعن جدنا الكبير جد يعقوب وموسى. كيف لا تهتم وأنت تحفر في ثقافتي ؟..تقول ليست ثقافتي وحدي ولكنها ثقافتنا معاً ؟..أوافقك..ثقافتنا معاً ولكن عليك الانتباه إلى التفاصيل..التفاصيل أهم من النتائج ، لأن العالم مكون منها وليس مبنياً على القواعد الكبرى .مثلاً عندما جاءت إلي راحيل لتخبرني أن أبي مات في غرفته وهو يرتب أوراقه كي يرحل إلى هناك لم تكن تعرف كيف تنقل لي ما حصل ..كانت بكماء، وكان وجهها قد تحول إلى اللون الأزرق مما زادها قبحاً.كانت راحيل جميلة في صباها ولكنها الآن ليست كذلك.عندما وصلت إلي لتخبرني أن أباها قد وقع عن الكرسي ميتاً منذ دقائق، كانت وكأنها تعيد مشهداً قديماً.وكأنها ستقول انهار الهيكل، وجاء نبوخذ نصّر ليسبينا...لا أعرف لماذا تلبّسني هذا الإحساس ...لم أكن حاضراً وقتها ..قبل الميلاد بخمسمائة سنة ...ولكنها الجينات يا صديقي ....الشيفرة تنقل لي ما حصل ..لماذا لا تقرأ كمال الصليبي...التوراة جاءت من جزيرة العرب ؟..والبحث عن يسوع ...اسمع..أتذكّر ما كتب الصليبي: في العام 568 ق.م تقريباً، قضى الملك نبوخذنصّر البابلي على مملكة يهوذا(وفي يقيني أن مركزها كان في سراة عسير،إلى الجنوب من الحجاز)،فقبض على آخر ملوكها،وهو المدعو صدقيا،وأمر بقتل جميع أبنائه أمامه،ثم قلعت عيناه،وقيّد بالسلاسل،واقتيد أسيراً إلى بابل حيث مات في أرض (لا يراها) كما ورد في سفر الملوك وسفر حزقيال . ودرجت العادة لدى شعبي بعد ذلك مذ بداية الملك عندهم بأن يكرّس كل واحد من ملوكهم لخدمة الله عند تبوّئه العرش عن طريق مسح الرأس بالدهن، بحيث يصبح(مسيحاً للرب) ولذلك اصبح لقب (مسيح) يطلق على ملوك بني إسرائيل،وخاصة ملوك يهوذا من سلالة داود،وبعد زوال مملكة يهوذا، أصبح كل واحد من المطالبين بعرش داود، في نظر أتباعه في الأقل، مسيحاً منتظراً تعقد حوله الآمال لإحياء الملك الإسرائيلي الضائع.
هل تعرف شيئاً ؟...لا أظن أنني هو ...لست ذلك الذي ينتظرونه.ولذلك لا أريد الذهاب إلى هناك...مملكتي في كل مكان.
* * *
ـ مرحبا
ـ أهلاً .....
ـ أنا إخاد ...هل تسمح بقليل من وقتك ...؟
ـ إخاد!! ..نعرف بعضنا ..؟
ـ لا...ولكن أريد التحدث معك قليلاً...قرأت كتابك (لغة محمد) منذ عشرة شهور تقريباً، وأريد أن أكلمك بخصوصه...إذا لم يكن لديك مانع.
ـ لا ..تفضل....
ـ أعجبني الكتاب...هو بحث سريع وعميق...
ـ ولكن كيف حصلت عليه ؟...تعرف أنه ممنوع ؟
ـ أعرف ولكنني حصلت عليه عن طريق الأصدقاء...استعرت النسخة ولم أعدها لصاحبها وهو نسي الأمر..
ـ وكيف عرفتني الآن ؟
ـ سألت النادل ...فقال هذا هو الذي يجلس هناك ...
كانت هذه الكلمات هي الأولى التي دارت بيننا أنا وإخاد صاحب الاسم الغريب،الذي اقترب مني في المقهى وهو يبتسم ...الأشقر المريب ...
والآن ...كيف سأتمكن من محاورته وأنا عالق في الهم والمشاكل ..ولكنه يهتم لأمر كتابي ، ويجب أن أحترم رغبته واهتمامه، لا يعرف إخاد طبعاً أنني مفلس وأنني لن أتمكن حتى من دعوته على كاسة شاي أو فنجان قهوة ، حسناً (حكم) أكبر ندلاء المقهى لن يخجلني هذه المرة ، سيترك لي حساب القهوة التي سأطلبها للضيف إلى الغد.
ـ ماذا أطلب لك ؟
ـ لا داع ...أفضل لو نغيّر المكان إذا كان لديك وقت ولست مرتبطاً بموعد.
ـ كم الساعة الآن ؟...آآ...الساعة الآن الثالثة ...في الظهيرة الشتائية.. من يمكن أن يواعدك في مثل هذا الوقت ؟
ـ امرأة مثلاً ..
ـ لا ..
ـ إذاً لنذهب من هنا ...
ـ لنذهب .
* * *
كان مساءاً غريباً، في الطريق إلى غرفتي في باب توما...قرب مدرسة الكتاب المقدس...لم يخطر ببالي وأنا أمشي وحيداً في ليل المدينة القديمة أن ليندا ستفتح باب بيتها فجأة، وتدخلني وكأنني طرد بريدي، كنت أعرف أنها ستنهار يوماً ما ولكن ليس بهذه السرعة، تقول إنني أسحرها، على الرغم من إحساسي بأنني غالباً مرتبك ولا أعرف كيف أقوم بدور الرجل الذي يسحر الفتيات، أبدو حاداً وشرساً، ولكنني لست بأية حال آل باتشينو..أو حتى محمد عطية نجم الستار أكاديمي...حين اترك لحيتي أصبح أكثراً شبهاً بالمسيح...أو غيفارا...وحين أحلقها أصبح مثل توم كروز أو عمرو دياب...
لم تكن ليندا تسكن وحدها..هناك والدها وأمها وأخوتها الشباب جميعهم..وأنا ماذا أفعل هنا في المدخل الضيق لبيتهم القديم ...لم أره من الداخل من قبل ...في شارع الكنيستين...بعد كنيسة الأرمن..على زاوية تمثال العذراء...بيت عمره خمسة آلاف عام...ولكنه من الداخل أكثر من ذلك..كل ما فيه على حاله...يبدو أن والدها بخيل ولم يرمم شيئاً ولم يكلف نفسه عناء إصلاح الحيطان التي ملأتها الشقوق...حيطان الحجر التي لا دهان عليها في مدخل البيت...
* * *

منذ يومين كتبت هذه القصيدة، وتركت أوراقها في حقيبتي، ليس لدي بيت الآن، أشعر أنها تصلح للإلقاء في أمسية في بار أو بوب..بأضواء خافتة..وموسيقى صاخبة...وصبايا جميلات يجلسن قرب البار وحولي وأنا أقرأ..كتبت القصيدة كي تذهب إلى هناك، المكان الذي أصفه، ولا أعرفه:

تفصيل من حنانيا
في الحي الشرقي خلف باب الشمس حيث تضع الكرة الملتهبة بيضها على سطوح البيوت الحجر في حنانيا، وحيث ينتهي قوس الكواكب في آخر أبواب المدينة، شيءٌ ما يدفع الكائنات إلى المشي في طريق مرصوفة ومتعرجة ....في الزيتون ...وعند مار جرجس...في الزاوية السريانية...تمر الظلال ...والأجنبية تلمس الحجر القديم .................
تقفز في المشي كفرس الجندي ... شعرها مربوط كذيل الفرس ....
ستذهب نحو حنانيا ....ولكنها لن تدخل القبو ..ستمر باتجاه اليسار حيث تقف العذراء في طرف الطريق ..تشعل شمعاً للسيدة ، وتصافحها ...وتكمل طريقها نحو الغرب ...ستدخل حي دار الكتاب المقدس ...ولكن شيئاً يدفعها أكثر إلى بار قريب ...تشرب البيرة ....بلا أحد ...لا يهم ..اشترت بالأمس تعويذة قديمة من تحت سور القلعة ...
كان اليهودي على مسافة ...ماذا يفعل في حنانيا ؟.....يطرّز قماشاً ؟...يحفر على النحاس ...؟...بيده خنجره المعقوف ، وعلى كتفه وشم لم يعرف أحد كيف يمكن أن يقرأه ....ليس بأحرف عبرانية .. وليس رسماً ....كان يفكر في أمر ما . لم ير الأجنبية ...ولم يمش خلفها ..وهو لا يتوقف أصلاً عند العذراء ...ولا يشعل الشمع ...
مع أنه سيدخل إلى القبو عند حنانيا ....لا للصلاة ...ولكن لتعبّد سحر الاسم العبراني ..... وليعرف أن الوشم على كتفه ليس لغة ولا رسماً ...يهودي يدلّ يهودياً على الطريق ...على الحجر القديم خلف باب الشمس ...
هل للنبيذ هنا طعم تفاح الجنوب ؟...أم أن العنب الآشوري سيبقي في أسفل الزجاجة كي يبدأ الشاربون في تأويله ؟...وفي التفكير ...هل آشور هنا أم هناك ....؟...في الزجاجة الطويلة ذات العنق أم في البلاد خلف النهر ؟....
أين ذهب الجالسون من حولي ؟...قالت الأجنبية ...
يمر اليهودي أمام باب البار ...لا تنظر إليه ..ولم تنتبه إلى خطواته الخفيفة ...وهو بلا ظل ....ولم يلتفت ....
تترك النبيذ ...لنعد إلى البيرة ..(ميشيل) صاحب البار يحضر لها ما تطلب ..ولا يتكلم ..ولا يضايقها بنظراته .....هو لا يهتم أيضاً بفرس الجندي ...ولا بربطة ذيل الحصان ...ولا حتى بالتعويذة ...
عبرت طيورٌ لا يراها أحد ....وعبرت غيوم لم يرفع رأسها إليها أحد...وعبرت الشمس دون أن يستوقفها أحد ...عبر اليهودي ....
وعبرت سماءٌ لا يراها أحد .....
في دمشق يمر الإله ولا يشعر به أحد .....
أجلس عند الأدراج الواطئة ....في باب توما ...وفي الحرّاث ....قرب الكنيس والقشلة ...وفي شارع الألم ....يجلس إلى جانبي اليهودي ....وبجانبه تجلس الأجنبية ...النهر يفكر في نهاية أفضل ...وشجر التين الذي يقتلعونه يثرثر مع الجرافات ...
تصعد المدينة القديمة إلى غيمها ...
لماذا لا تسكنين معي في المدينة القديمة ...؟....لم لا يثيرك الضوء الأسود في الحجر الأموي ؟....وكيف تقولين كلاماً عن غير المكان الساحر ؟...
أنت هنا في صحرائي وفردوسي ...في الغيب السماوي ....وفي أقصى اللون الأزرق ....في التعويذة ...والكلمات ...وفي مخطوط العجوز العائد من أرض ميعاده ....
ولكن أين أنت الآن ؟....
هل ذهبت إلى البحر ؟...
هل فتحت السفينة المخبأة في حقيبتك الصغيرة ...؟
هل غبت في قصيدة حب لشاعر كردي ؟
هل أخذك الحرف في لوحة بالفارسية ؟
هل تعلقت بالنون ؟
الألف إشارة إليك والراء سريرك ...
رأسي يعصف ...بعجينة ألوانٍ ....
من أراكِ المئذنة ؟
ومن وضع كفّكِ عند رأس الحسين في قلب معبد "حدد" ؟
ومن جعلك تجلسين في حوض المعمودية قرب يحيى بن زكريا ...؟
لم أكن أنا ....
ولم تكوني أنت من فعل ذلك ...
كانت المدينة تصوّر كل شيء...كعدسة هائلة...كشاشة تعرض فيما بعدُ ما تفعلين ....ولكن أنت لا تفعلين ...تقولين أعود إليك في خريفٍ هادئ ....وتعودين ..أكون في الصحراء...وتحملني إليك التعويذة...ولكن لا أن أعثر عليكِ ؟....
سأكتب لعنات على شياطينك وعلى المدينة ....
في المسكيّة ....أشتري لك البخور...وأقول إنك لن تعرفي كيف تشعلينه في جسمكِ...أضع لك خشباً أحمر ونحاساً في علبة البخور....
لن تفهمي ....
لستِ من مملكتي...
ولستِ الأجنبية...واليهودي يراقبني...يجلس عند بركة الماء المطفأة....
* * *
مشينا أنا وإخاد ثلاثة أميال من شارع العابد حتى باب توما، لم يقل إلى أين سنذهب ولم يقل أيضاً أنه يدعوني إلى أي مكان..وأنا لم أتجرأ على دعوته بالخمسين ليرة التي في جيبي، كان صامتاً معظم الوقت، ولكنه كان حاضراً إلى جانبي، ولم أعرف إذا كان علي وقتها أن أبدأ بفتح الموضوع الذي جاء من أجله أم لا..فاخترت أن أتحدث عن شارع بغداد وعن بيتي هناك في الديوانية أيام كنت أسكن على بعد أمتار من الطريق في بيت قديم في وسطه بركة ماء وتملؤه البرودة، كان سريري تحت النافذة التي تطل على حارة فرعية ضيقة، وكنت أستيقظ كل صباح وأنا أظن أنني نائم على الشاطئ، هواء تلك النافذة يحمل معه صوت الموج وريح البحر مع أنها تتجه نحو الشمال لا نحو الجنوب.
المهم أن إخاد لم يفتح معي أية مواضيع ولكنه كان يمشي بهمة من يعرف أنه متجه نحو هدف واحد محدد، وصلنا الآن إلى ساحة التحرير حيث تقف الأعمدة الحجرية ذات العقد التي تنتصب كمسلات لا فراعنة لها، أمام مبنى كلية الفنون الجميلة الذي حولوه إلى مبنى رسمي يشرف على العلاقات السورية اللبنانية، أعمدة بلا أي معنى توحي بأن الناس في هذه المدينة يقضون وقتهم، وقتاً واقفاً كتلك المجسمات البلهاء.
انحرفنا يميناً نحو نوبار بائع الخبز، لم أكن جائعاً تماماً،لكن تذكرت أنني كلما مررت منه هنا عادة أكون في آخر لحظات الصبر على المعدة الخاوية رغم أني لا آكل كثيراً عادة إلا عندما أعمل، يتملكني الشعور بالرغبة في إشغال معدتي بأشياء تلهيها عن بث الإشارات إلى الدماغ.
وسط ساحة باب توما، أمام القوس الوحيد والموحش، الذي كان باباً ذات يوم ولكنه الآن لا وظيفة له سوى انتظار المزيد من التخريب الذي يحوم حوله كل لحظة، تدور حول الباب، وتعبر من تحته، ولا شيء يفضي إليه الباب، سوى دمشق، تُختصر في باب توما خاصرة المدينة التي انفتحت على الفراغ.
في القشلة على الحجر المرصوف على شكل طريق طويلة ومنحنية، كمسار سهم يلتف ليدخل حارة اليهود، تكلم إخاد أخيراً، يريد أن يقول شيئاً، كنت أشعر به، ولكنه لم يتكلم طيلة المشوار، الآن تكلم وطلب إلي أن أختار بين الجلوس في مقهى قديم في المنطقة أو الذهاب إلى بيته.
* * *
لا شيء....
أجلس وحيداً في الليل مثل نوستراداموس، أرى في الماء وأعرف كيف تتحرك الشخوص من حولي، تقترب الأرواح، لم يكن نوستراداموس يسمح لها بإحداث الضجيج والصخب، كان يسيطر، ولكن أنا كيف أضبط حركة الأرواح؟ لو تعرف يا إبراهيم ماذا حدث حين جرّبت أن أستخرج تعويذة من أحد النواويس القديمة في المقبرة...قد لا تكون مقتنعاً بكلامي، ولكنك لست ملحداً أعرف أن لديك اهتمامات روحانية، ربما لست متديناً، ولكنك لست علمانياً كفاية أليس كذلك ؟!
لا تغضب أنا أمازحك...كنت أقول لو تعرف ماذا حدث لي.. ظهرت إشارات لا يشعر بها أحد قرب الناووس، وسمعت صوت تحريك الحجر الضخم الذي كتب عليه بالعربية والعبرانية، شيء يخرج، نحن لا نؤمن بالمومياء ولكننا ماهرون بالسحر.
ارتعد جسمي وندمت على هذا الدخول غير المشروع، لا أؤمن كثيراً بتلك المهارة ولكنها تحاصرني وتلاحقني كرائحة تعبر من البزورية إلى بيتنا، أنت تعرف بيتنا، ألم تنتبه إلى أنه دائماً يعبق بروائح مختلطة، كأنه قافلة قادمة من الشرق إلى خراسان...
في جلستي أرى كل شيء، لم يكن أبي يشجعني على الاحتكاك بالحاخامات، كان يفضل أن أبقى هكذا دون ثياب سوداء ودون ضفيرتين تتدليان قرب أذنيّ، وحين مات كنت قد رأيت موته في إناء الليل، كنت أعرف أنه سيرحل ولكنني فهمت الإشارة بشكل خاطيء، ظننت أن سفره إلى هناك سيكون موتاً، ولم أعرف أنه سيموت قبل أن يخطو خطوة واحدة خارج دمشق.
راحيل لم تبك أباها، وزينب يئست بصمت من العثور على مرافق إلى هناك، لم يعد لديها من يدخل معها غلالة الحلم الأزرق والأبيض خلف نهر الأردن.
رأيت في الماء، ولم يكن سوى ماءً صافياً لا يخالطه شيء، فقط قرأت عليه الكلمات:( بالإيمان رُفعَ أخنوخ لئلا يرى الموت، فلم يجده أحد لأن الله أخذه.وشُهد له قبل رفعه بأن الله قد رضي عنه، وبغير الإيمان يستحيل نيل رضا الله) هذا ما قلته يا إبراهيم، لم أكن أبحث عن أبي في الماء والكلمات ولكن الكلمات عثرت عليه وحدها، ووجدته ميتاً، ورضا الله هو البحث عن تلك الأرض..لم يقتنع أبي بأن كل الأرض ملك للرب وأبنائه الذين يعملون عمل أخنوخ.
أنت مثل أخنوخ ولكنك لست يهودياً، قد تكون يهودياً لا أحد يعرف، ربما كان أحد أجدادك يهودياً، لا يهم، إنسان العالم الجديد يهودي ، حتى دون أن يعرف شيئاً عن الدين ،الأرض ستنفتح على بعضها ونصبح كلنا شعب واحد.
أنت تعتقد أنني واهم، وأحلم بترهات لن تتحقق،ولكن هذا ما سيحدث.
* * *
كانت ليندا ترتدي بنطلون جينز بلون أزرق داكن، وفي الأعلى بلوز أبيض خفيف يكشف كتفيها ورقبتها وشريطاً عارياً من بطنها البيضاء المشدودة بهندسة عالية، كانت تحدثني عن تمارين رياضية قاسية تواظب عليها يومياً، وحديد، وجري، وتايكواندو..وغير ذلك..وكنت مهتماً فقط بصوتها الخلاب الذي لا يذكرني بشيء، جديد تماماً، وشهي، ومنعش، لا أعرف الآن ما الذي سيحدث في مدخل البيت..غرقنا في قبلة طويلة، مع أنني ما أزال أسمع أصوات العائلة قريبة من أذني وكأننا نجلس معاً.
بدت وكأنها لن تكتفي بالقبلة الطويلة البنفسجية ـ بنفسجية بلون الروج الذي كانت تضعه ـ بدأت بالتحوّل إلى كائن آخر، ولم أعد أمسك ظهرها من الخلف ويدي لم تعد تتحرك ببطء تحت بلوزها الأبيض.لم يعد لها وزن أو حجم، أحسست أنني وحدي في مدخل البيت.
* * *
أدخلني إخاد إلى حارات اليهود في المدينة، ومشينا في ظلال جدران مائلة، ونوافذ يسترق من خلفها السمع ظلال أخرى، في العتمة داخل البيوت المهجورة.
فوق كل باب رسمت نجمة داود، وكتب تحتها عبارة بالحروف العبرانية، والأبواب كانت موصدة من الخارج بأقفال وسلاسل صدئة، بيوت نزعت شبابيكها وبقيت أقفالها كقوس باب توما، تركها أناس لم يفكروا في تركها للأبد، لابد أنهم عندما رحلوا كانوا ينوون العودة، وربما لم يكن رحيلهم كاملاً.
بين تلك الأطلال، رأيت بيوت الفلسطينيين، وهم جيران لليهود في حاراتهم، لم أفهم لماذا، ولكنهم يسكنون في المكان ذاته وفي بيوت تشبه بيوت اليهود وأطفالهم يلعبون مع أطفال اليهود.
* * *
طلبت مني ليندا أن أساعدها بإدخال الخيط في ثقب الإبرة، ظننتها تشير إلى أمرٍ ما في نفسها، ولكنها كانت تتحدث بجدية، (أرجوك...لا أستطيع فعل ذلك اليوم...) ولكن لماذا ؟!
قالت إنه السبت.
* * *
عندما يعرض يوسف شاهين فيلماً جديداً، أكون في مأزق كبير، كيف يتمكن هؤلاء من إنجاز ذلك الحلم الواسع ولا أفعل أنا؟!
عندما عرض (المصير) كدت أصاب باختناق في صالة العرض، إنها أفكاري، بالطبع لم يسرقها أحد، ولكنها تذهب إلى الآخرين، تخيلت من قبل أنني سأكتب وأخرج فيلماً عن ابن رشد، وسأصوره في قلعة الحصن، وسآتي بمحمد منير ليغني فيه، لم أفكر في نور الشريف لأداء الدور الرئيسي، من الممكن أن أعطيه لجمال سليمان، لم تكن ليلى علوي سيئة.
الغريب أنني التقيت بخالد يوسف كاتب قصة وسيناريو الفيلم،وقت عرضه، وكدنا نصبح أصدقاء، لولا أنه كان مشغولاً بارتباطاته وكنت مشغولاً باكتئابي وزواجي الذي كان ينهار يوماً إثر يوم.تحدثنا في كلام متقطع فترة مهرجان السينما، ثم ذهب ونسيت الأمر، ولم أحسد خالد، بل حسدت يوسف شاهين على عبقريته، كذلك حسدت التونسي ناصر الخمير صاحب أهم أفلام السينما العربية على الإطلاق..(طوق الحمامة المفقود).
ولكن ليست لدي أية شهية للعمل الجماعي، ولا أظن أنني كنت سأنجح في التفاهم مع ما يسمونه الـ (كاست) ولا مع جهة الإنتاج، ولا الممثلين، عرفت ذلك منذ زمن طويل، الكتابة بمفردك أرض أكثر حرية من تضييع الوقت مع آخرين.
* * *
أمشي في شوارع المدينة، إنه شهر آب، والناس تظهر من بيوتها بعد المغيب الأخير، حين تبدأ المنارات ببث أذان العشاء، وصلت إلى ركن الدين، وهو حي يكثر فيه الأكراد، ويمتد ليصعد على كتف قاسيون حيث تزداد كثافتهم وتزداد حريتهم في استعمال لغتهم وتقاليدهم، لا يمكنهم فعل ذلك في الأسفل.
قرب جامع (عثمان آغا) التركي، رأيت شاشة عرض عملاقة، عليها صورة متحركة لشيخ بلحية طويلة تصل إلى منتصف صدره، يتحدث بانفعال، لم أعرف لماذا هو منفعل من المسافة التي التقطت عيناي عبرها الشاشة، اقتربت، بدأ الصوت يتضح أكثر فأكثر...(إخوانكم في إندونيسيا ...إخوانكم في أفغانستان...أهلنا في الشيشان ..) عرفت على الفور أن الرجل يحاول قول شيء ما عن الاضطهاد والثورة وغير ذلك، لم أكترث ومضيت في طريقي مبتعداً عن المكان، ولكن مهلاً هذا الصوت أعرفه..وحتى الصورة ليست غريبة عني، أعرف هذا الرجل ...ولكن من هو ؟! ومتى كان لدي الوقت للقاء مثل هؤلاء؟!
التفتُّ عائداً ...وصلت إلى حيث جلس مئات الأشخاص على الأرض، خارج الجامع الذي امتلأ تماماً ..سألت أحدهم : من هذا الشيخ؟! قال: إنه أبو المحجن...
ـ من أبو المحجن ؟
ـ الدكتور أبو المحجن ،أقوى داعية في بلاد الشام،خطبته تبكّي الحجر!!
ـ ولكن ما اسمه ؟! بلا أبو كذا...
ـ اسمه محمد شوق نيازي
ـ محمد شوق نيازي...أعرفه ..
ـ كيف تعرفه ؟! كلنا نعرفه..إنه أشهر من نار على علم.
ـ شكراً ...
ـ هل لديك مشكلة ؟
ـ لا ..لا شيء...سلام.
ـ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
* * *








تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

طالب قاضي أمين يرمي الكرة في ملعب اتحاد الكتاب

12-تموز-2007

المشروع الأبيض ...ج(3) والأخير..

29-حزيران-2007

رواية / يوميات يهودي من دمشق ج1

05-آذار-2007

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow