دخيل هالعيون ما أحلاك يا أبو نوّار
وائل السواح
2020-03-17
حدث ذلك في خريف 1975 على الأرجح، كنت أجلس في التوليدو بحمص على تلك الطاولة التي تأخذ الزاوية الشمالية الغربية من المقهى فتطل على ساحة الساعة من جانب وشارع أبو العلاء المعري حيث تتجاور سينما الأمير والمدخل الرئيس للتوليدو. كنت بانتظار معتصم دالاتي، الذي دفن للتو أمّه. دخل معتصم، كان وجهه مشرقا كالعادة رغم الحزن الشديد في عينيه. جلس أمامي. لم ينطق بحرف، ولم أفعل. جاء النادل بقهوته الإسبريسّو، دون أن يطلبها معتصم، وقال له:
"العمر إلك، أستاذ معتصم." فابتسم معتصم وغمغم بكلمات مجاملة، ثم شرد من جديد. وحين أنهى قهوته، اكتشف أنني موجود، فقال لي:
أمضيت ساعات أتطلع إلى وجهها وأقول لها "دخيل عينك ما حلاكِ." كان يقصد أمّه الميتة.
كلّ الأمهات جميلات، وأنا لم أعرف أمّ معتصم، ولكنني أتذكر عبارته اليوم كأنها يوم أمس. ولو أنني كنت بجواره يوم الإثنين في الساعة الخامسة مساء، كما كان منقذ الملّوحي وأبو سمير التركماني، لكنت جلست أمامه، وأنا أردد "دخيل عينك ما أحلاك يا أبو نوّار."
حين دخلت بيته أول مرة شعرت بالرهبة كالتي نشعرها حين ندخل متحفا أو معبدا. كان الباب الخارجي مواربا كالعادة، تلج منه وتنحدر بضع درجات، ثم تمرّ بممرّ صغير، يؤدّي بك إلى ممرّ صغير آخر. على اليسار غرفة نوم معتصم ونجوى، وقبالتك الصالون. تدخل الصالون فتجد نفسك في عالم آخر. لوحات وكتب وأسطوانات. في الزاوية حامل لوحات، استقرّت فوقه آخر لوحة كان يحاول رسمها، قبل أن يقرّر أنه لن يرسم بعد اليوم، فبقيت مكتملة في نقصانها. ومن مسجلة في المكتبة، تنساب ألحان موسيقى كلاسيكية. ومعتصم يلقي شِعرا كالسِحر، أو يستمع إلى من يلقي من شعراء حمص قصيدة ما.
كان يحلو لمعتصم أن يردّد، حين يعرفّني على أحدهم: "وائل السوّاح، أستاذي"، ثمّ يصمت لحظات، ليطل السؤال من عيني المستمع، فيشرح له القصّة. يقول: "علاقتي ببيت السوّاح علاقة غريبة. أبوهم أحمد نورس السوّاح كان زميلي في التدريس؛ أخوهم الأكبر فراس كان صديقي؛ الأخوان الأصغر سحبان وبشّار كان تلميذي في المدرسة، أما وائل فأستاذي: أعطاني بعض الدروس في اللغة الإنكليزية،" ثم يُغْرِب في ضحكة مديدة.
وصحيح أنني أعطيته ونجوى درسا أو اثنين في الإنكليزية، ولكنه أعطاني دروسا كاملة في الحياة. عرّفني معتصم على الفن التشكيلي والموسيقى الكلاسيكية والموسيقى العربية النبيلة وفلسفة شوبنهاور. ولكن تأثيره الأكبر كان في تعليمه لي فن الصداقة والاستماع والتواضع والاعتراف بالجميل ومحبة الآخرين. لم أعرف صديقا، رغم كثرة أصدقائي، يكن كل هذا الحبّ لأصدقائه. ومن معتصم تعلمت الإتيكيت والمجاملة الصادقة والأناقة في السلوك، وأيضا رقصة "لا كومبرسيتا". ولكن جوهرة التاج الخاصة بمعتصم كانت الحب، فهذا الرجل له دين اسمه الحب: الحب بكل أشكاله: حب المرأة وحي الصديق وحب الإنسان.. وحب الحياة.
كان أخي سحبان طالبا في صفّ الرسم في المدرسة، حين جلس في امتحان أمام ورقة فارغة، ولم يرسم شيئا. اقترب معتصم منه وسأله:
"لمّ لا ترسم؟"
"لا أجيد الرسم."
"ما الذي تجيده إذن؟"
"كتابة الشعر، أعتقد، " أجاب سحبان.
"اكتب قصيدة إذن فإن أعجبتني أعطيتك العلامة."
وكتب سحبان قصيدة، وأحبذها معتصم، وأعطاه علامة كاملة، ثمّ أصبحا صديقين. وورثنا صداقته أخا بعد أخ.
حين خرجت من السجن، وعدت إلى حمص، كان أوّل من اتصلتُ بهم. في السجن بقي أحفظ عدّة أرقام، بينها رقم بيتنا في حمص ورقم مكتبة أبي ورقم معتصم: 220867. بعد عدّة رنّات، رُفِعت السمّاعة، وأتاني صوته:
"ألو!"
"مرحبا معتصم!" قلت له. حين اعتقلت لم تكن نجوى قد أنجبت نوّارا وأختيه ولم تكن قد سافرت إلى أستراليا.
لم يجبّ. مرّت لحظات، راعني فيها صمته قبل أن أدرك أنه كان يبكي.
حين توفي خالي يوسف شلب الشام، دفنّاه وعدنا سيرا إلى سيّاراتنا في مقبرة تل النصر. وفجأة صاح رجل، وهو يضرب كفّا بكفّ: "يا جماعة، ما حدا لقنّه."
التلقين هو تذكير الميت بما يقوله إذا جاءه في القبر الملكان. وضحك معتصم، وهو يقول: "تخيّلوا أن يوسف شلب الشام بحاجة لمن يلقّنه شيئا." وضحكنا معه.
ولا أدري إنْ كان ذكر ما يعرفه الجميع أمرا مفيدا. فمعتصم له من خفة الظل وطلاقة اللسان وسرعة البديهة وحضور النكتة ما لم يجاره فيه حمصي آخر سوى غسان طه. في زيارة لإحدى الصبايا اللواتي اعتدين على الشِعر في التسعينات إلى حمص، كنت ومعتصم نحضر أمسية لها، وفي نهاية الأمسية، صافحها بحرارة، وقال لها بكلّ جدّ، "شَعرك يا آنسة أجمل من شِعرك".
كان للمرأة مكان لا يعلى عليه في حياة معتصم، يحبّها بنوع من التقديس. وفي حياته امرأة ظلّت تحتلّ مكانة لا تًدانى. وكان يقول دائما، "يجب أن يكون في حياة كلّ رجل توليدو ومقاهي عابرة. أما التوليدو فهو المقهى الذي تغيب عنه ثم تعود إليه، وأما الكافتيريات العابرة فتزورها مرّة وتتذكّرها بين الفينة والأخرى."
في صباح يوم 8 آذار من كلّ عام، كانت زوجتي ميسون وشقيقتي مها وزوجات أخوتي وأخوالي وزوجات كلّ أصدقائه يتلقين اتصالا هاتفيا لمعايدتهن بعيد المرأة، وكان يفعل ذلك بنوع من الطقسية المقدّسة. أحبذته يسون وأحبّته مه وأحبّته مديحة وورد ووفاء وفتنة، كما لم يحببن صديقا آخر في حياتهن.
ومعتصم، على شعره وفنّه، كان كاتب زاوية لا يبارى، وحين كان ينشر زاويته الأسبوعية في جريدة حمص اليتيمة، كانت الأعداد تنفد من الأكشاك. وقد حوّل بيته على نادٍ حمصي ثقافي. عند معتصم تعرّفت على النخبة الحمصية المثقفة، ولكن بينه كان في ليالٍ معينة مأوى للمقربّين فقط. سهرة الحمص كانت كلّ يوم أربعاء، وتضمّ فقط نبيل وخليل اليافي ومعتصم. يأتي خليل بالحمص ويأتي نبيل بالعرق، ويأتي معتصم بالنقل. لا لحم ولا أشياء أخرى. فقط عرق وحمّص ومخلّل ودفْ. أحيانا حين كنت آتي إلى حمص، كان الثلاثي يسمحون لي بالانضمام إليهم، ولا يزال طعم الحمّص والصدق والنبل في ذاكرتي حتى الآن. مات خليل أولا، ثمّ مات نبيل. وبالأمس مات الرجل الذي الذي يلخّص النبل والأناقة وجمال الروح. مات معتصم.
قبل موته بأشهر، عرف أنه مريض بالسرطان، فتدفّق حياة وشعرا. وكان من بين آخر ما كتبه القطعة التالية:
" أعترف بحبي وعشقي وولهي بالحياة ، وأنني قد مارستُ الحياة بما يليق بها وبعاشق لها من نشوة وفرح ، وأنني وانا على أبواب الثمانين من العمر فإنني أعيش الآن اليوبيل الماسي للمراهقة الخامسة .
يحلو لي تصوير الحياة بصبيةٍ جميلة عذبة مثيرة متمردة متقلبة مزاجية، تقدم لك نفسها بما لا يخطر ببالك من متع وأفراح . وبلحظة وبدون مبرر تأخذ منك وتمنع عنك كل شيء. فتعبس بوجهك وتدير لك ظهرها وقد تخرمش وجهك بأظافرها أو تصفعك بلؤم وهي تضحك بسخرية وتَشَفٍّ ومرارة.
هذه الصبية العذبة المتقلبة المزاج هي الحياة .. أحبها من قلبي وبكل جوارحي ولكن ليس بعقلي.
حين تقلب خلقتها أمامي وتعبس وتظهر علائم الكراهية أقول لها:
شبو الحلو زعلان؟
وحين تصفعني او تخرمش وجهي بأظافرها، أحاول اغتصاب قبلة منها وربما شدَّها إلى سرير الحب.
تماما هذه هي الحياة .. لن تكسرها إلا بالسخرية منها، ولن تتفوق على ما تُقدم لك من مصائب وأزمات إلا بالاستخفاف بتلك الأزمات المادية والصحية والاجتماعية والنفسية.
ستهزمني الحياة حين أقاطعها أو أصرخ بوجهها أو أتألم من فعلتها. وقد أهزمها حين ببرودة وسخرية أقول لها: شبو الحلو زعلان؟
في أزمتي الصحية الحالية، وأنا أخضع للعلاج الكيماوي بسبب الكتلة السرطانية في رئتي اليسرى، لم أستسلم ولم أقاطع أو أكره الحياة، بل ازدادت رغبتي في الحياة وتعلقي بها والسخرية منها وهي تقدم لي هذا اللؤم الخبيث من المرض. فألتفتُ إليها بوجهٍ ضاحك، وبلهجة السخرية والحب أقول لها: شبو الحلو زعلان؟"
لم يتسنّ لي أبدا أن أقول لمعتصم كم أثّر بي في حياتي، زكم كنت أحبه، ولكنني أعتقد شبه جازم أنه يعرف ذلك؛ والأهم أنني أنا أعرف ذلك. جيّدا.