روزا ياسين حسن
لمدة تزيد عن الثلاثين سنة، عملت العالمة النمساوية "ليزاميتنز" مع شريكها الألماني "هايهن" في أحد المخابر الكيميائية المتقدمة في ألمانيا. وفي الوقت الذي بدأت فيه الحرب العالمية الثانية،
***
قامت السلطات الألمانية بإبعاد ليزا، لتعود إلى الريف، فيما ظل شريكها يعمل في المخبر، لتمرّسنوات من المراسلة بينهما أثناء الحرب ليكتشفا، سوية، نظرية انشطار اليورانيوم الشهيرة: (الطاقة= الكتلة× مربع سرعة الضوء). بعد سنوات من ذلك وفي العام 1944ستفاجأ ليزا، وهي في منفاها الذي لم تعد منه أبداً، بحصول شريكها على جائزة نوبل للكيمياء عن اكتشافهما المشترك، ودون ذكر اسمها بالمطلق. ستمر فترة طويلة قبل أن يكشف النقاب عن الضغوط التي مارستها الحكومة الألمانية حينذاك على هايهن، والتي خضع لها نهاية لإبعاد شريكته عن الاكتشاف. الرسالة الأخيرة التي بعثتها له ليزا كانت رسالة معاتبة تقول فيها: (يطلقون عليّ اسم مساعدتك القديمة! ماذا سيكون شعورك لوسميت أنت بهذا الاسم؟). هذه الرسالة المؤثرة والدالة، والتي عملت الحركات النسويةعلى كشفها كما كشفت الغبن الذي وقع على مكتشفة نظرية انشطار اليورانيوم، ستكون الهادية للجهود التي بذلت، وما تزال تبذل، على مستوى العالم، لإعادة الاعتبارللمهمشين عرقياً وطائفياً وعقائدياً وجنسانياً، وإماطة اللثام عن الحقائق التي مرت عليها قرون طويلة وهي مستورة بحجب السيطرة البطريركية بكافة أشكالها.
(ماذا سيكون شعورك لو سميت أنت بهذا الاسم؟) سؤال موجه إلى كل مستبد عملت السلطات على جعله الأقوى وليس حقيقة عمله المتضمنة فكره وإبداعه ومعرفته وإنجازاته. الجهود التي راحت تبذلها الحركات النسوية العالمية منذ أوائل القرن الماضي، وأقصد كجهود مركزةوموجهة، فقد بدأت الحركات النسوية قبل ذلك بكثير لكنها كانت حالات فردية، عملت كماقلت على اكتشاف الكثير من عمليات الطمر الثقافي التي وئدت النساء تحتها لآلاف السنين، كانت تلك الجهود متنوعة من اكتشافات أنثروبولوجية إلى أركولوجية إلى سيسيوثقافية، إن صح التعبير، إلى لسانية / لغوية، وغير ذلك من الميادين. بعض تلك المحاولات اكتفت، على أهمية ذلك، بالحفر في الوقائع التاريخية الصرفة، وإعادة إحيائها من جديد برؤية جديدة. على سبيل المثال، لم يمض زمن طويل مذ أعاد التاريخ الحديث تسليط الضوء على ما اقترفته محاكم التفتيش الأوروبية في القرن السادس عشر،حيث تركّز كل ثقل العداء المنظم للكنيسة المسيحية ضد النساء.
أحد الفاعلين في ذلك العداء كان البابا "إنوسنت الثامن" الذي نشر في العام 1484 مرسومه البابوي الأول ضد الساحرات. والسحر كان تهمة من الممكن أن تلصق بأية امرأة متفردة، فقد تتهم بالهرطقة إن هي داوت بالأعشاب أو بالشعوذة إن استخدمت العلم، أما إذا مارست طقوس التعبد للربات فالأرواح الشريرة سكنت جسدها، أية عالمة أو طبيبة أو قارئة أو كاتبة،أو باختصار امرأة لا تخضع تماماً لعملية التنويم الجنسانية، كانت مهددة بالقتل. مطرقة السحرة هي وثيقة رسمية لمحكمة التفتيش كتبها اثنان من الرهبان ونشرت لأول مرةفي عام 1486، ثم أعيد طبعها أربع عشرة مرة قبل حلول عام 1520. إثر هذه الوثيقة راحت حملات الإعدام التي لا ترحم بتهمة السحر، خصوصاً في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا، تحصدالنساء والرجال كذلك، وقد قدر الكثير من الكتاب مجموع القتلى بالملايين، وتشكل النساء 85% منهم بين عجائز وشابات وطفلات. وربما كان العدد المقدر بـ 10 ملايين امرأة معدومة أو محروقة في القرن السادس عشر وحده قريب من الحقيقة، فقد أعدمت 400 امرأة في مدينة تولوز وحدها وفي يوم واحد. أما في أبرشية ترييه Trier وفي العام 1585 فلم يترك في قريتين سوى امرأة واحدة في كل قرية. عمليات النبش هذه كانت تتطلب جهوداً جبارة من العاملات والعاملين في الحركات النسوية، وربما ما كانت تلك المعلومات لتصلنا لولا تلك الجهود التي تعددت مساربها واهتماماتها وربما مصادرها المساعدة على الكشف. المؤرخات والمنظرات في الحركات النقدية النسوية، واللواتي عملن على حقل اللغة والكتابة ودلالاتها، كان لهن الدور الرئيس، على الرغم من أننا ينبغي ألا نغفل الخلفية الأيديولوجية التي حكمت الموجات النسوية عبر ذلك الزمان، فكاتبة مثل سيمون دي بوفوار مثلاً كان محفّزها على العمل، وهي صاحبة الكتاب الشهير: "الجنس الآخر" 1949 و"الكل مهم فعلاً" 1972، هي مسألة المساواة بين الرجل والمرأة هي التي تنتمي تصنيفياً إلى الموجة النسوية الأولى، فيما المحفّز أو الهادي الأول للحركات النسوية بعدها، فيما اصطلح على تسميته الموجة النسوية الثانية، كان الاختلاف وليس المساواة، أو بمعنى آخر الندية دون تراتبية، ولكن ليس بالتماثل الذي تفرضه المساواة بين الرجل والمرأة. لكن سيمون دي بوفوار عاشت هاجس الحرية، وعلى الخصوص حريةالمرأة، من خلال حرية الكائن الإنساني عموماً. وعالجت وشخّصت الأوضاع التاريخية والاجتماعية والنفسية والخضوع الثقافي للمرأة لمجمل التابوهات. وبذلك اخترقت الصمت لتربط وضعية المرأة الفرنسية في القرن العشرين بالنماذج التقزيمية التي حاك خيوطها مذهب القديس توما الإكويني. أما جوليا كريستي فا الناقدة النسوية البلغارية الكوزموبوليتية، تلميذة دريدا، والتي تنتمي إلى حركات الاختلاف وليس المساواة، فقدعملت في فرنسا على الجانب اللغوي من النسوية، وكرست إلى جانب معاصراتها من الناقدات النسويات، أمثال هيلين سيكسو وإلين شوولتر ولوسي أريكاري وغيرهن، فاعلية المرأة، أي إعادة الصولجان الفكري واللغوي إليها، في محاولة لإعادة الربوبية الأولى إليها.
وقد ساهمت تلك الجهود مساهمات فعالة في فضح الخلفيات والدلالات البطريركية للأمثال الشعبية وللقص الشعبي اللذين بنيت عليهما الخلفية الثقافية والاجتماعية للفرد، وتلك الذائقةالأدبية التي يولدانها والتي تتغلغل في لاوعي الأطفال الذين سيصبحون رجالاً ونساءفي المستقبل. ساهمت تلك الحركات كذلك في إماطة اللثام عن الكثير من الآليات اللغوية والدلالات الذكورية المكرسة في اللغة، وعن الكثير من أسماء المبدعات المغمورات في أنحاء العالم، اللواتي عملت الحركات البطريركية على تجريدهن من حقهن في الإبداع وعدم الاعتراف بهن وبإنجازاتهن. إثر تلك الجهود صعد في إنكلترا، على سبيل المثال لاالحصر، مصطلح الرواية النسائية حين اكتشف بين عام 1830 و1940 أكثر من 400 رواية لـ 300 كاتبة إنكليزية. ومن جملة الجهود إعادة الكشف عن عوالم الأخوات برونتي الغامضة، وعن حقيقة الكاتبتان جورج إليوت (ماري آن إيفان) وجورج صاند (أماندين أورور دوبين)،وعن حياة فرجينيا وولف وريادتها وعن الكثير الكثير غير ذلك. تركز عمل النسويات الأنثروبولوجيات، من أمثال جيردا ليرنر وبربارة ووكر وغيرهن، على نبش الأساطيروالمدونات القديمة لإعادة النظر في كثير من المسلمات التاريخية التي لعبت بهاالسلطات البطريركية المتعاقبة في التاريخ. أما الإركولوجيات النسويات، من أمثال مارغريت موراي ووينيفريد ميليوس لوبل وماريا غيمبوتاس، فقد عملن من خلال الصوروالنقوش والرسوم والتماثيل على كشف تلك الآليات المتشابهة في قمع طاقات المرأةوتحييدها عن المركز والفاعلية. اليوم نستطيع أن نلاحظ اهتماماً كبيراً بهذا النوعمن الميثولوجيا المقارنة، لأن المكتشفات الأركيولوجية في العقود الأخيرة تضخمت وتعززت دقتها مثل عمل ماريا غيمبوتاس في المساحة التي أسمتها أوروبا القديمة، وعمل جيمس ميلقار في شاتال هيوك في الأناضول، والمكتشفات في ليبنسكي فير في سيبيريا،والعمل المستمر في كريت وما إلى ذلك، حيث يعود الفضل في إحياء كل من شخصيتي ليليتوباوبو للعمل النسوي سابق الذكر. كما يعود لها الفضل في اكتشاف ما سمي بالأمازونيات أو القبائل النسائية، وكيف شن فرانسيسكو دي أوريلانا في سنة 1535 الحروب الضروس على الأمازونيات الأمريكيات حتى استطاع إبادة تلك القبائل. قدر عدد القتلى في المجازرالتي ارتكبها الأوربيون في العالم الجديد أكثر من أربعين مليون قتيل. وقد اكتشفت فيالبرازيل سنة 1542 قبائل من الأمازونات، فيما وجدت في القرن الثامن عشر كتائب نسوية في مملكة نسوية في مملكة داهوتي. الشخصية الميثولوجية الأكثر شهرة في أعمال الأنثروبولوجيين النسويين هي ليليت، تلك التي طالها الضرر الأكبر بسبب الحرب التي شنتها عليها السلطات الذكورية، فبعد أن كانت ربة المهد/ حاملة لواء الحرية وزوجة آدم الأولى في سفر التكوين الأول والتي لم تسمح لآدم بامتلاكها، صارت إحدى الصورالبشعة للساحرات الليليات اللواتي يمثلن الشيطان، وتحول شعرها الليلي/ أرجوحة المهد إلى أنشوطة لخنق الرجال والأطفال في ليالي الخرائب أو إلى أفاع سامة في روايات أخرى. أما مارغريت موراي، وهي عالمة إنكليزية مختصة بالمصريات، فقد حاولت في العام 1934 في مقالتها السباقة: "الأنثى وأشكال الخصب" أن تعيد إنتاج صورة باوبو المكرسة،وهي من الشخصيات الميثولوجية المغبونة للغاية عبر التاريخ الذكوري، وأعادت التأكيدعلى أن باوبو ما هي إلا ربة مقدسة تؤكد بحركتها الشهيرة في تشمير تنورتها ونكاتها الفاحشة على الطاقة الجنسية الدفاقة التي تحملها المرأة والتي بدونها لن يكون ثمةحياة على الأرض. تلك الاكتشافات الهائلة أوصلت الكثيرين والكثيرات، إلى هزّ العديد من المسلمات والبديهيات التي تربوا عليها وأضحت جزءاً من ثقافتهم، وليكن كمثال التحول الهائل الذي طال النظرة إلى دم الطمث عند المرأة، فقد تحول من هبة إلهية (دالة على الخصب والحياة) يحتفل بمجيئها بشعيرة مقدسة تسمى: دم القمر، تقرفص فيهاالنساء في حقول ينيرها القمر ليسقين بدمائهن الأرض (دلالة على توحد خصوبة المرأة مع خصوبة الطبيعة). ذلك التحول جعل العادة الشهرية دلالة على الدنس والرجس، وينبغي الابتعاد عن الحائض لأنها قد تنجّس أي طاهر، حتى أن قطرة من دم العادة الشهرية قد تنجّس بحراً كاملاً برأي البعض. تلك النظرة الأنثروبولوجية السيسيولوجية الممتزجةاشتغلت بها العديد من النسويات في القرن العشرين، ومنهن ما قامت به المستشرقة البريطانية "جيرالدين بروكس" حيث عملت على المسألة من وجهة نظر علم الاجتماع في كتابها "تسعة أجزاء للرغبة"، والذي ترجم بعنوان: "الأنوثة الإسلامية"!!، وفيه حاولت أن تكشف عن الكثير من الممارسات البطريركية ضد النساء، فيما قد نسميه بلدان العالم الثالث، كما حاولت الكثيرات من مبدعات ونسويات العالم الثالث أن يحركن المستنقع الراكد ولو بحصاة صغيرة ككتاب الإيرانية الفدائية: "شاهدورت جافان" فلينزع الحجاب. تبدو الإنجازات كثيرة ومن الغبن الشديد حصرها في بعض الأمثلة، لكن من الواضح أن الحركات النسوية العربية، التي بدأت منذ النصف الثاني من القرن العشرين بمحاولات العمل على كافة الأصعدة لكشف النقاب وإزالة القليل من تراب الطمر الثقافي الذي تعاني منه المرأة العربية، مازال ينتظرها الكثير الكثير من العمل، ويبدو جهدها واضحاً في الشأن السيسيولوجي، بالدرجة الأولى، ثم في الحقل الثقافي اللغوي والإبداعي، ومغيباً نوعاً ما في الحقول الأخرى. لكني لا أعرف حقيقة، على الرغم من كل ما قلته، إن كانت إماطة اللثام عن بعض الإجحاف الذي طال النساء عبر آلاف السنين سيجعل من الطلاب، مثلاً، يدرسون نظرية انشطار اليورانيوم لمكتشفتها "ليزا مينتز" ومكتشفها "هايهن"، أو إن كانت جائزة نوبل ستعود إليها بعد أربعة وستين عاماً من تغييبها. أعتقد أنه قلق مشروع!
ملحق ثقافي
17/6/2008م