نبض الروح
2012-10-04
وحدهم السوريون يقتلون مرتين
"في زيارة إلى مدينة داريا بعد مرور المجزرة"
لم يكن ذلك البيت القديم المحايد يختلف كثيراً عن مجمل بيوت داريا، سوى أنه كثّف أوجاع ما مرّ على المدينة. ذواكر راحت تُسفح أمامي كما تُسفح مياه داكنة حامضة لها رائحة الموت.
في البداية مرّت الحكايات بطيئة. الشباب في الغرفة حدّثوني والخوف يلعثمهم. لكن أحدهم، وهو من شباب التنسيقية، كسر الحاجز الذي يفصله عني، وقال إن الخوف من الاعتقال ليس ما يجعلهم يخشون التكلّم فحسب، ولا الخوف من القتل كذلك، الخوف وصل إلى جثث أحبابهم، أن يأتوا وينبشوها، أن ينبشوا المقابر ويخطفوا الجثث، وهذا ما فعلوه قبلاً.
- "لم يبق إلا أن نهرب مع جثث ذوينا!!"
وضحك. كانت عيناه تنضحان بحزن مؤلم.
بعد مجزرة المعضمية، المدينة الملاصقة لداريا، بدأت مجزرة الأخيرة. حين تصطف المدن السورية واحدة تلو الأخرى بانتظار قدرها. وكانت قد قُتلت عائلة الشيخ بأكملها قريباً من مستشفى شرف، أم وأطفالها الأربعة، نزلت القذيفة على قبو بيتهم، حيث يختبؤون من القصف، وماتوا اختناقاً. كانوا أول ضحايا المجزرة الآتية.
يوم الاثنين 20 آب 2012 بدأ القصف على داريا. كانت القذائف تأتي من الدبابات المستقرة منذ أشهر على أوتوستراد درعا، ومن مقرّ سرايا (الصراع) قرب "جديدة عرطوز"، ومن جبل قاسيون ومن مطار المزة العسكري. إنه الجحيم حين يتساقط من كل اتجاه.
(أ. ص) يعرف كل القتلى، فهو الذي دفن معظمهم. يدور في سيارته الهونداي الصغيرة البيضاء في الشوارع وتحت القصف، يراوغ الشظايا والحرائق والنهايات. يلمّ الجثث المرتمية هنا وهناك، يأخذها إلى بيته يغسّلها ويكفنها.. لوجه الله. كما عبّر. يدفن الشهداء والقصف مستعر، فإكرام الميت دفنه.
- "وإن لم تتعرف على صاحب الجثة؟!".
- "يصوّرها الشباب بالموبايل.. الشباب يساعدونني. على فكرة أختي حتى لو كان القتيل عوايني أدفنه، ما عندي مشكلة.. هوي روح كمان! ما بيجوز من الله اتركه هيك، مرمي متل الحيوانات أجَلّك.. إكرام الميت دفنه، هيك لوجه رب العالمين.. الله يجزينا ويجزيك..".
والدفتر الذي يغصّ بالأسماء شاهد على ما دفنت يداه. 750 جثة دفنها (أ. ص) خلال أسبوع مرّ على داريا. بينهم 35 امرأة وحوالي 70 طفلاً. معظم العائلات المنكوبة من بيت السقا وخشينة وقفاع وغيرهم..
- "الإثم ينزل على الذين لقوا الموتى ولم يغسّلوهم ويكفّنوهم.. الإثم يقع علينا وليس على الموتى..".
أردف شاب التنسيقية رداً على حديث (أ. ص).
ولأن الموتى راحوا يُخلقون في الشوارع والأقبية والشقق والمحلات وفي كل مكان، لم يعد من متّسع لغسلهم كل على حدة. فصار الشباب يصفّون الجثث قرب بعضها البعض، ويوجّهون خرطوم الماء إليها ليغسلوها (جمعاً)، ثم يكفنوها بانتظار الدفن الجماعي أيضاً.
يوم الجمعة 24 آب كان ثمة خمس وعشرون جثة معروفة من أهل البلد سقطت جراء القصف. غسّلوها وكفّنوها، وتم ترتيبها جاهزة للدفن في أرض المقبرة. صوت القصف الذي يقترب ويشتدّ جعل الشباب يبتعدون عن الساحة المكشوفة، لتنزل القذيفة وسط الجثث المصفوفة، وتحترق بمعظمها. الكثير منها تحوّل رماداً ولم يعد بالإمكان دفنها حتى..
- "عندنا فقط الناس تستشهد الناس مرتين!!".
مازال ثمة خيط من ألم واستنكار في صوته، لم يمزّقه اعتياد التعامل مع الموت بعد. رغم أن الموت أضحى عادة هنا يتم التعامل معها ككل تفاصيل الحياة اليومية والمعتادة. ومن بين الجمل المتناثرة كان الشباب يتذكرون مجزرة هنا ومجزرة هناك.
- "عائلة شهاب.. استهدف بيتهم في القصف الجوي.. قتل منهم 11 شخص، 9 فوراً ثم اثنين ماتوا متأثرين بجراحهم..".
معظم مستشفيات المدينة استهدفت في القصف. مستشفى السلام ومستشفى الرضوان كذلك. المستشفى الميداني استهدفوه أيضاً، وهو عبارة عن غرفتين صغيرتين يحاول الشباب فيها إنقاذ ما يمكن إنقاذه. مساء الجمعة راحت دبابات النظام تقترب من المدينة وانسحب الجيش الحر، وبدأت الإعدامات الميدانية. يوم السبت كان يوم القيامة. يدخل الجيش النظامي، يمشّط المنطقة بحثاً عن السلاح. وحسبما قال شباب داريا فإن الجيش لم يقتل، كسّر البيوت وخرّبها وسرقها، ثم عمل على حماية مجموعات الأمن والشبيحة التي ارتكبت فظائع الجرائم.
- "منهم عالم غريبة.. ليسوا سوريين أبداً..".
- "عالم ما بتخاف الله.. !!".
بدا ذاك الشاب الديراني مصراً على رأيه: "هناك رجال غير سوريين شاركوا في القتل". ثم صار الناس بعد أيام يكتشفون الجثث المعدمة تدريجياً: قبو بيت السقا 72 جثة، قبل بحارة 20 جثة في قبو، في مكان آخر 13 جثة، بيت عربي فيه 6 جثث، 2 بقبو آخر وهكذا.. عشرة، خمسة، سبعين، عشرين.. وتتوالى الجثث المكتشفة. حينما هرب المسعفون بقي اثنان من الجرحى في المستشفى، واحد منهم على المنفسة ضُرب بطلقة في رأسه. والثاني ساقاه مقطوعتان قتلوه أيضاً. أخذوا معدات المستشفى كلها: أسرّة وأدوية وأدوات، واعتقلوا المسعفين الذين بقوا.
وأمام جامع "أبو سليمان" تجمّعت أكوام الجثث من الحارات.
- "معظم المجازر حصلت في الأقبية والشقق المغلقة وليس في الشوارع. ربما مخافة التصوير والأقمار الصناعية ربما..".
علّق شاب آخر.
- "في أحد الأقبية اكتشفنا 76 جثة، 22 شخص من عائلة واحدة، الجد وأولاده وأحفاده.. استشهدوا كلهم".
تذكر أحد الشباب مجزرة أخرى فجأة. ولكن رفيقه قاطعه بلهفة:
- "بقي منهم أربعة أشخاص.. بعد أن حصلت المجزرة واستيقظوا هربوا من القبو، واختبؤوا في الأعلى.. كان أمراً جيداً فقد عاد الأمن وأكمل إعداماته، فمن لم يمت تماماً أجهزوا عليه".
- "في حارة المشتل لم يبق رجل، أعدموا كلهم من الستين وبالنازل، 63 شهيداً سقط في الحارة هذه وحدها.. كل إصاباتهم في الرأس".
- "رغم أن الناس سبق وهربت منها!!..".
يكمل الشباب نقاشهم أمامي، وإلى بيت أحد الناجين من إعدام ميداني اتجهنا. اسمه (ع. ن)، دخلت الرصاصة من عنقه وخرجت من وجنته. ملليمترات قليلة فصلته عن الموت كأبيه وأخويه وأصدقائه وجيرانه. كان القتلى كلهم في قبو، فيه رجال ونساء وأطفال هاربين من القصف. أخرجوا الرجال وأخذوهم إلى قبو آخر. قتلوهم كلهم. لكن لم يعدموهم سوية، بل راحوا يأخذون اثنين أو ثلاثة منهم، يصفّونهم على الحائط، ويرشونهم بالرصاص أمام الآخرين. ثم اثنين أو ثلاثة وهكذا.. 63 قتيلاً بينهم ناجٍ وحيد أبقاه القدر ليكون شاهداً على ما حصل.
- "مازال الصوت في رأسي.. من شان الله، اقتلوني ودعوني ارتاح.. لا أستطيع النوم. كلما نمت أسمع صوت صراخ أبي أو حشرجات أخوي..".
كان يبدو أن الملليمترات القليلة التي فصلته عن الموت تفصله اليوم عن الجنون كذلك. وكان من غير الممكن إكمال الحديث معه. كانت الفجيعة أفظع من أن يتحملها المكان.
وتذكر الشاب مجزرة أخرى، انبرى فجأة ونحن نمشي في شوارع داريا:
- "عثرنا أيضاً على عشر جثث محروقة في غرفة قرب حاجز لقوات النظام في منطقة سوق البقر، عند شركة هاواي، لم نعرف الجثث أبداً إلا عن طريق جثة رجل كان أطباء التنسيقية قد أخضعوه لعملية وضعوا له صفائح معدنية في يده، فعرفوا جثته المحروقة منها..".
- "وهل عرفوا البقية؟!".
- "عن طريقه عرفوا بعضهم.. واحد بقيت قطعة من بيجامته لم تُحرق، فعرفوه من خلالها.. وهكذا..".
وهزّ رأسه آسفاً.
حين كنا في طريقنا إلى عائلة منكوبة أخرى سبق وداهموا القبو حيث اختبأ شبابها، تحت مقام الست سكينة، وقتلوا أربعة منهم، تذكّر أحد الشباب حادثة رواها لي من فوره، عن مستودع للأخشاب على تخوم داريا، أدخلوا إليه ثمانية شباب وأحرقوا المستودع فيهم. لم يُعرف عدد الذين احترقوا، فالمستودع استحال رماداً بخشبه وحديده وناسه.
- "كان من الصعب أن نعرف عدد الذين ماتوا.. لم نلفِ إلا الرماد..!!".
عدنا إلى البيت المحايد ذاته. لم يكن من جديد سوى أن ثمة رجلاً جسيماً ينتظرنا ليقول ما يريد دفعة واحدة ويغادر. كان كلامه مكثفاً لكل شيء. وجهه، عيونه الدامعة، لهفته، وفجيعته:
- "أنا شفت الموت أربع مرات. كنا نزقّ الناس الميتة، لهلق ما عرفنا مينها.. أنا وأخي وابن خالي، ندور في السيارات، ونلمّ الجثث من الشوارع والأقبية. مئات ومئات، سيارتي مثقّبة بالرصاص! شو بدي احكي لأحكي، كان في خمسة من بيت الحاوي مشوّهين، عيون خارج الرؤوس وحروق وجماجم بادية.. شو بدو يحكي الواحد؟! في حمام أحد البيوت عثرنا على سبع جثث مكوّمة فوق بعضها، قتلوهم ضرباً بمورينات الخشب! تخيّلي، بمورينات الخشب. هناك أمور لا أقدر أن أحكيها والله.. المهم اللي صار يا أختي بهالبلد ولا الخيال بيتصّور أفظع منه، وشو ما حاولتو توثقوا وتكتبوا وتصوروا ما بتقدرو.. اللي صار أفظع.. أفظع بكتير.. والسلام عليكم..".
عن موقع سوريانا
08-أيار-2021
09-تشرين الثاني-2019 | |
15-كانون الثاني-2013 | |
07-تشرين الأول-2012 | |
04-تشرين الأول-2012 | |
28-آب-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |