"دم الثور": أخذ كتاب كليلة ودمنة على محمل الجد
شوقي بن حسن
2020-08-22
في الثقافة العربية المعاصرة هناك انشداد بيّنٌ للتراث، خصوصاً في بُعده النصّي. ربما كان لهذا الانشداد إيجابياته فقد حمَى الثقافة العربية من تفسّخات حضارية كان يمكن أن تقع فيها مع الاحتكاك العنيف بالغرب منذ القرن التاسع عشر، ولكنه تحوّل في وجوه أخرى إلى حالة مرَضية حالت دون تطوير الرؤى الإبداعية والنظرية. وضعية تثير حول التراث الأدبي العربي سؤالاً: كيف الحفاظ على العمق الحضاري الذي يمنحنا إياه دون أن يكون حبلاً يشدّ واقعنا إلى الماضي؟
سؤال ربما نتتبّع بعض الخيوط الموصلة إلى إجاباته في رواية صدرت بداية هذا العام، في طبعة مشتركة بين "دار الوتد" ومنشورات "الفارابي"، للكاتب التونسي نزار شقرون حين يقترح فرضية أن يكون كتاب "كليلة ودمنة" الذي نعرفه ونقرأه منذ صبانا منقوصاً، وأن "الباب المفقود" منه يفسّر مقتل مترجمه/مؤلفه عبد الله بن المقفّع. وكأن الكاتب التونسي يقول: ماذا لو لم يكن الكتاب قد وُضع لغرض العبرة وعرض حِكم الشرق في الأخلاق والحُكم على لسان الحيوان فحسب، بل كان تأريخاً مشفّراً أو تضمّن لمحات مسرّبة من السيرة الذاتية كما يفعل الكتّاب المعاصرون؟
تصلنا هذه الأسئلة ضمن بناء بوليفوني اعتمده المؤلف، حيث يأتي البحث عن الباب المفقود من "كليلة ودمنة" كرحلة فرعية من رحلة أولى أتت بمجموعة من الباحثين إلى العراق أيام الحصار للمشاركة في مؤتمر علميّ. منذ أن تكشف الباحثة الإسبانية، كارمن، عن هدفها في إيجاد المخطوط حتى ينقسم رفاقها من الباحثين العرب بين هازئ ومشجّع.
يصبح البحث عن "دم الثور" هاجس الراوي، سعدي الباحث لمعماري التونسي، ليس فقط بسبب دعوة زميلته الإسبانية بل لترابط هذا المشروع مع سياقات كثيرة في حياته، وإشارات يرويها لنا قبل أن يصل العراق.
تحفل الرواية بمثل هذه الروابط، وهي من المحسّنات السردية بلا شك، وأبرزها أن المخطوط المنقوص يمثّل خيطاً يربط بين بغداد والأندلس، بعبارة أخرى بين جراح الماضي والحاضر، فقط هُرّب نص ابن المقفّع مثل أشياء كثيرة بعيداً عن بطش الخلفاء، ثم طارده في الأرض الجديدة بطش حروب الاسترداد وبقيت منه رواية متوارثة وإشارات وعلامات احتفظ ببعضها أحد أجداد كارمن إلى أن حوّلته إلى بحث ميداني مع "رحلة العودة" إلى العراق بعد قرون.
تعدُّدُ الأصوات وتباين المواقف أتاح للرواية أن تضرب في آفاق إشكالية عدة، ويمتدّ هذا التعدّد إلى إتاحة الحديث لابن المقفّع نفسه حين يمُدّ شقرون القارئَ في آخر الرواية بالباب المفقود من "كليلة ودمنة"، وهو بذلك يقدّم تمريناً لطيفاً لمحاكاة نص تراثي مثير.
هذه الألعاب التي اقترحتها رواية "دم الثور" تمنح سيولة للتراث قلما تحضر في ثقافتنا، سيولة نحتاجها في زمن سائل، بحسب مفهوم طرحه عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان، مقابل نزعات التثبيت مع التباس التقديس بكل ما هو عتيق، فلا نُدخله في المزح والتخييل إلا نادراً. ولعلنا نفهم - مع رواية "دم الثور" - أن تذويب أمهات النصوص القديمة في مرجل الرواية الحديثة يتيح لنا ترتيب علاقات جديدة مع تراثنا الأدبي.
لعبة التخييل هذه التي دخلها كتاب "كليلة ودمنة" في رواية نزار شقرون تضفي عليه ظلالاً جديدة، فلو سايرنا المؤلف في فرضياته سنجد أنها أكثر متانة أحياناً مما نتداوله مدرسياً منذ قرون، فمثلاً يسوق على لسان إحدى شخصياته هذا التفسير لتغييب الباب المفقود وارتباطه بمقتل ابن المقفع، فيقول"لا معنى أن يُقتل المؤلف ويُترك الكتاب بين أيدي الناس". هكذا يأتينا الأمر مثل حجة دامغة تورّط القارئ في البحث عن الباب المفقود.
هذا السياق الذي اخترعه الكاتب التونسي يحوّل كتاب "كليلة ودمنة" إلى شهادة ضدّ عصر، فتجعله قرينة ضد "طبائع الاستبداد" المتأصّلة تدهس كل فرصة لنقد نديّ للسلطة. وإذا كان البحث التاريخي أو الأدبي لا يتقدّم خطوة في حال لم يجد مستنداً في النصوص، ها أن الرواية تتيح بناء ترابطات أخرى لنفس المادة المتوفرة فتأتي بدلالات جديدة، وخصوصاً تحرّر التراث من بعض وزنه الثقيل.
أطروحة رواية نزار شقرون تدعونا إلى قراءات أكثر جدية في كتاب "كليلة ودمنة" حين تسطّر على أن البطش بابن المقفع لم ينته بقتله بطريقة شنيعة، بل امتدّ إلى الاعتداء على أثره. فلا نطمئن بعد ذلك إلى من يعتبر أن أعلى درجات قمع الطغاة هو التصفية الجسدية، أما الأفكار فهي تعرف دائما كيف تفلت من بين القضبان. تحبّ رواية شقرون أن تؤكّد على أن الأفكار أيضاً عرضة للطمس والمحو والتحريف والبتر، بل هي مستهدفة أكثر من مؤلفيها. "كليلة ودمنة" في ذلك رمز لكل الكتب. كل الكتب ناقصة إلى أن يثبت أنها مكتملة.