ذاكرة مدينة: كوليت خوري وسعاد حسني ونساء صغيرات
وائل السواح
2020-08-29
شكّلت أربع نساء عالما من الجمال والطمأنينة في حياة الصغير في سنواته الأولى. كانت الأولى أمّه: امرأة جميلة وقوية. كانت من أولى النساء اللواتي أسفرن عن وجوههن في الأربعينات من القرن الماضي. حين تزوجها والده كانت لا تزال في المدرسة الابتدائية. تفصل بين الزوجين أربع عشرة سنة، وقد سبّب ذلك بعض العذاب للأب. كان يشعر بالغيرة، ولكن كرامته لم تسمح له بالتضييق عليها. ومع ذلك كان يراقب الشارع أحيانا، وغالبا ما كان يلقي نظرة خارج النافذة ليطمئن. وحين أطلقت فيروز أغنيتها الجميلة "جايبلي سلام" وفيها الأبيات:
"كلّ ليلة عشية قنديلك ضويّه
قوّي الضوي شوية وارجعي وطّيه
بيعرفها علامة
وبيصلي تتنامي"
كان أحيانا يدخل غرفة الوالدة ويطفئ الضوء ثم يشعله، ثم يراقب الخارج ليرى ردّة الفعل. وحين روت الأم هذه القصّة لصغيرها، كانت تلوح على وجهه ابتسامة جميلة، وكأن تلك الغيرة كانت تسعدها بعض الشيء.
بعد خمسة أولاد، ثلاثة أبناء بنتين، ماتت إحداهما قبل ولادة الصغير، ما كانت الأم تريد ولدا آخر. ولذلك حين حملت بعد ست سنوات من ولادتها أصغر الأبناء بشار، حاولت أن تسقط الجنين بكلّ شكل، فتناولت حبوب الكينا وقفزت من فوق الكنبة على الأرض وطلبت من ولديها أن يقفزوا فوق ظهرها وهي منحنية حال المرء حين الركوع في الصلاة. ولكن الصغير تشبّث برحم أمّه وأبى أن يخرج قبل أوانه، فأبقته الأم مرغمة. بل إن الأم تصرّ على أن الصغير بقي في رحمها أحد عشر شهرا، وكان الصغير يصدّق روايتها وقتها لأنها كانت تمنحه تميّزا عن أقرانه، ثمّ بدأ ينفي الرواية حين كبر وتعلّم وصار علمانيا وماركسيا، ثم في عصر لاحق راح يبحث على الإنترنت فعثر على أجوبة مختلفة، وعلم أن أطول حمل بشري استمرّ 375 يوما، وحين قسّم ذلك العدد على 30، فغر فاه تعجّبا.
لم تكن الأم امرأة سعيدة. أصيبت في شبابها باكتئاب حادّ ظلّ يراجعها كل فترة، متصاحبا مع سوداوية في المزاج وهوس زائد بالنظافة. سوداويتها وهوسها بالنظافة وشعورها بالندم لأنها حاولت إسقاط الصبي جعلتها تبقيه ملاصقا لها في السنوات الست الأولى من حياته، ولن يعرف الصغير الحارة إلا بعد ذلك. وحينها، كان عليه إذ يعود من الحارة أن يغسل يديه ورجليه ووجهه بإشرافها في الحمّام ويغيّر ثيابه.
ولم تكن الأم في حالات اكتئابها تستقبل ضيوفا في بيتها، خوفا من القذارة التي يمكن أن يحملوها، فكان الصغير نادرا ما يستقبل أحدا في بيته، ورغم أنه كان يزور أصدقاءه جميعا في بيوتهم، نادرا ما زاره صديق. وكان الصغير يحب الأم ويخاف عليها ويخاف منها، وقد أسهم ذلك كلّه في تشكيل شخصيته، فسيكون وجلا شديد الحساسية مع ميل إلى التعاطف مع الآخرين وشيء من الكرم. سترافقه الدموع طوال حياته، حين يقرأ رواية حزينة أو يرى مشهدا عاطفيا في السينما، وسيضحك من أعماق قلبه ضحكة مجلجلة حين يشاهد فيلما كوميديا. وذات مرّة، حين شاهد فيلم بائع الحليب لنورمان ويزدوم، أغرب في قهقهة مجلجلة طويلة، فراح الحشد من حوله ينظرون إليه بعضهم بغضب وبعضهم بمودّة، فاضطر إلى الخروج من الصالة حتى يهدأ.
في ذروة مرضها كان الصغير يجالس أمه طيلة الوقت، وكان ذلك يزيد في كآبته وحزنه. في ذروة اكتئابها، لم تكن الأم تفعل شيئا. كانت تجلس متصالبة الساقين وتحدّق في نقطة ما ولا تريم. أما حين تكون أفضل حالا، فكانا يلعبان الورق، وكان يلاحظ كيف ترمي الورقة الخطأ عمدا لكي يفوز عليها، فيبتسم ولا يقول شيئا. وفي الأمسيات، كانا يستمعان إلى إذاعة لندن على راديو الترانزستور العجيب. لم يكن التلفزيون قد دخل بيتهم بعد. وكان الصغير ينتظر بشكل خاص برنامجين من برامج المنوعات هما "عمارة عمّ عمر" و"دكان الألحان"، ولكن ولعه الأكبر كان في مسلسلة إذاعية يومية اسمها "النوق البيض" التي ما كادت تنتهي الحلقة الأخيرة منها حتى تعيد الإذاعة بثها من جديد، وكان الصغير يعيد الاستماع إليها بالشغف نفسه والمتعة عينها.
وحين كانت الأم في مزاج رائق، كان يبحث لها في الإذاعة عن أغنية لفريد الأطرش، مطربها المفضل. وكانت مغرمة بشكل خاص بأغنية "وحياة عينيك"، وحين كانت تسمعها، كان الصغير يلاحظ بريقا جميلا في عينيها الفاتنتين، ويغمره إحساس بأن فريد إنما كان يغني الأغنية لأمه بشكل خاص. أحبّ فريد الأطرش من أجلها. وبعد سنوات طويلة حين ستموت الأم، سيجثو على ركبتيه قربها، ويدندن بصوت خافت جدا خشية أن يسمعه أحد من الحاضرين: وحياة عينيك – مشتاق إليك، وليه دموعي – بتهون عليك. لم يبكِ يومها، ولكنه حين عاد إلى بيته في دمشق، سيفرغ كلّ الدموع التي حصرها أثناء الوفاة والجنازة والتعزية.
المرأة الثانية كانت أخته مها، التي كانت أمّا ثانية لجميع إخوتها. كان بشكل من الأشكال مخبأ أسرارها، وكثيرا ما كانت ترسله في مهام سرية، وكان يقوم بتلك المهام دون أن يخبر أحدا بها. حين تزوجّت، انتقلت إلى مدينة حماة، وأحزنه فراقها كثيرا، وكان حين تسافر به أمه إلى حماة لزيارة أخته يشعر بفرح عاصف يجتاح كيانه، ويجلس في بيتها لا يغادره، يصغي باهتمام إلى حديثها مع أمه ويلاعب أولادها، وحين تحين بعد أيام ساعة السفر، كان يشعر بضيق شديد يجثم فوق قلبه فيعصره عصرا.
كانت مها شديدة الحساسية، فائقة الذكاء، لم تكمل تعليمها. ويبدو أنها لم تكن تريد ذلك، ولكنه كانت تحب القراءة. كاتبتها المفضلة كانت كوليت خوري، وإحدى المهام السرية التي أرسلت الصغير فيها كانت شراء كتاب "ليلة واحدة". لِفِعْلِ ذلك، كان على الصغير أن يحمل في جيبه ليرة ونصف الليرة ويذهب إلى "المكتبة العمومية" بجانب سينما ستاركو، فيشتري الكتاب ويعود مسرعا، فيسلمها له، دون أن تشعر به الأم. كان قد رآها من قبل تقرأ كتاب "أيام معه"، وسألها عنه مرّة، فقالت له: حين تكبر سأعيرك إياه. ولم تفعل، ولم يقرأ الكتاب حتى وجده يوما في مكتبة السجن، فاستعاره وقرأه بينهم، وهو يتساءل ما الذي كانت أخته تحب في الكتاب.
وإلى كوليت خوري كانت تشتري مجلة الكواكب فتتابع أخبار الفنانات والفنانين، وتتابع بشغف أفلام سعاد حسني. ولسبب من الأسباب كان الصغير يجد شبها كبيرا بين أخته وسعاد حسني التي ستصبح الممثلة المفضّلة لديه.
سيجد في أخته العطف الذي لم تكن أمه تجيد إظهاره. ولكنها كانت تبدي أيضا حزما وقوة وتدبيرا لا مثيل له. حين سيكبر الصغير ويلاحق بسب عمله في السياسة، سوف يزور أخته، في أسوأ وقت يمكن لملاحق أن يكون في مدينة حماة: صيف 1980.
ليلا، مدّت الأخت للصغير الذي كبر فراشا في غرفة الضيوف فراح في نوم عميق. بعيد منتصف الليل، أفاق على حركة في البيت. كانت أخته وزوجها يتنقلان بين الصالة والشرفة، علم وقتها أن عناصر المخابرات العسكرية والجيش كانوا يمشطون الحيّ الذي كانوا يسكنون. سيسكنه خوف وقلق عظيمان بعضه على نفسه وبعضها على أخته وزوجها وولديه الشابين الذين كانا يمكن أن يعتقلا في أي لحظة. اقتربتْ الضجّة من أسفل البناية، واستسلم الجميع للأمر الواقع، ولكن معجزة وقعت. كانت البناية صغيرة من طابقين اثنين وشقّتين فقط. في الطابق الأسفل كان يسكن مسؤول صغير في الحكومة، وكان في الوقت نفسه قريبا للصهر. وتناهى إليهم سؤال من كلمة واحدة:
"وفوق؟"
"فوق ابن خالتي. ما حدا غريب"
بعد ثوان مرّت دهورا، أُغلق باب البناية، وسمعت خطوات أحذية العسكر تنتقل إلى البناية المقابلة.