حلو كالتوت مرّ كالقهوة مرايا الغياب رواية عن غياب المرايا لفرج بيرقدار
وائل السواح
خاص ألف
2020-10-02
عرفت فرج بيرقدار منذ نحو نيف وأربعين قَهْرا. وأحببت شعره دائما، دون أن أستطيع القبض عليه. لم يكن شعر فرج صعبا كشعر أدونيس ولا بسيطا كشعر رياض الصالح الحسين. كان مزيجا غريبا بين البساطة والتركيب، بين الصحراء والبحر، ولكنه كان – إلى ذلك – مراوغا ومخاتلا، غالبا ما يفلت مني ويراوغني، فأحبّه دون أن أدرك كنهه، دون أن أمسك بسرّ القصيدة.
حين قرأت مؤخرا مرايا الغياب شعرت أنني بدأت أمسك بهذا المراوغ. ليست الصورة رغم أن صوره فاتنة: صاعقة أحينا وخجولة أحيانا أخرى؛ وليست الجملة، رغم تماسكها وليونتها وتناغمها في موسيقى خفية لا تدركها الأذن ولكن يدركها الفؤاد. وليست الفكرة، رغم نبل أفكاره وسموها. السرّ هو في نكهة السفرجل. منذ أول قصيدة قرأتها له أو قرأها لنا في أمسية حمصية خريفية، إلى آخر قصيدة قرأتها له منذ أيام، كنت ألتهم أبيات قصائده بنهم، ثمّ أحس بغصّة في الحلق. حلو كالتوت أحيانا، مرّ كالقهوة أحيانا أخرى، موجع كالصدق. هذا هو شعر فرج الذي تستعذب قراءته، ثمّ تحسّ بالغصّة في الحلق، بعد ذاك: أين أنت ذاهب؟ يسألك. لم ننتهِ بعدُ. لا يأبه فرج بأن يلوًن أحلامنا في الليالي، بل يأبه أكثر بأن يشجعنا على فتح الأبواب الموصدة وطرح الأسئلة المحرّمة، دون أن يلزمنا أو يلزم نفسه بطريق واحد أو إجابة يعتقدها صحيحة.
ليس لدى فرج إجابات صحيحة لأسئلته، بل إنه في أغلب الأحيان غير واثق من الاحتمال، ولا يريد لنا أن نسير خلفه، ولا أمامه. بل يريد أن نفكّر في طريق ما للوصول إلى مكان ما. وللأمكنة كلّها آلاف الطرق. أشعر أحيانا أنني لا أجيد التعبير عمّا أريد قوله. لذلك أحيلكم على القصيدة. في مجموعته التي أعيد نشرها مؤخرا باللغة العربية، بعد أن نشرت في الفرنسية والألمانية والإنكليزية والسويدية ولغات أخرى، تفسير ما أريد.
كان يمكن لهذه المرايا
أن تكون مطرا صافيا
أو صمتا صافيا
أو دمعا صافيا على الأقل.
بيد أن الظروف كانت من حجر
وكان صليل الزمان والمكان
مضرّجا بما يشبه الدم
وبما يشبه الجنون
وبما يشبه الآلهة
وبما لا يشبه شيئا على الإطلاق.
لا يؤكّد فرج في شعره حقائق مطلقة. كان يمكن لهذه المرايا أن تكون مطرا صافيا. حسنا! كان بإمكان فرج أن يقف هنا: أن يقول لنا رأيا ويمضي، بل كان بإمكانه أن يقول "هذه المرايا مطر صاف". ولكن فرج لا يريد أن يؤكّد حقائق صلبة. يريدنا أن نسير على رمال متحرّكة، لذلك يستدرك فورا، "أو صمتا صافيا" ثم يغير رأيه "أو دمعا صافيا على الأقل." أما ما كان يضرّج صليل الزمان والمكان فغير معرف: أو الدم، أم الجنون، أم الآلهة، أم تراه ليس شيئا على الإطلاق؟
ليس هذا تردّدا ولا مساواة بين الأشياء. إنه انفتاح على الأشياء بذواتها المتعدّدة والمتراكبة والمعقّدة. في عالم الحرية ليس من حقيقة سوى الحرية، أما الأمور فحمّالة أوجه، وعلينا أن نختار الوجه الذي نراه صحيحا، وأن نسير في الطريق الذي نراه أصوب.
قلبي عليك أيها الصغير
فغدا ستكبر
وستذهب في الحياة
عائدا إلى الموت
الثابت الوحيد عند فرج هو هاجس الحرية والحقّ في الكلام والبوح والحق في الفهم. وهو بالضبط ما جعله يترك كتابة الشعر أحيانا ليمارس الشعر. كتابة الشعر وممارسته أمران متباينان. وفرج عرفهما كليهما. انتسب في السبعينات لتنظيم سياسي يساري، وترقّى بسرعة فصار من القيادة العليا للحزب، ملاحقا ومعفّرا وقلقا، فكتب الشعر قليلا وعاشه في كلّ يوم. عاشه في مواعيده مع الرفاق. عاشه في خوفه عليهم، حين
يلاحقهم رجال الأمن، وعاشه في حلمه بمستقبل لسوريا يستطيع فيه أن يستقيل من السياسية ويكتب الشعر فحسب.
قصائدي لا تعبّر
عني
إلا كما يعبّر
السهم عن الطريدة
وهو يتّجه إليها
ولم يكن الودّ موجودا بين فرج وبين حافظ الأسد وولده. في 1978 اعتقله الأب نحوا من ثمانية أشهر، وفي 1987 اعتقله الأب والابن ثلاثة عشر عاما، وأودعه في زنازين تدمر وصيدنايا أربع عشرة سنة، خرج منها وقد صقلته السنون والتجربة المرّة والحرّ والبرد والتعذيب والرفاق. وبقي فرج ذاته: بلطفه ودماثته، بقوته وقسوة الوسامة في شعره، ولكن شعره صار أرق وأقسى، بل صار أقسى لأنه أرقّ.
يا له
ما أسهل ما تجرحه عينان
ما أسهل ما تبكيه
أغنية
ما أسهل ا تواسيه
كلمة
لا معنى لها
بعد خروجه من العالم السفلي، تقدّم لاتحاد الكتاب ووزارة الثقافة بمجموعتين شعريتين كتب قصائدهما في السجن. رفض الاتحاد نشر المجموعة الأولى، رغم أن تقرير الناقدين الذين قوّما نصوصها اعترفا بأنها كتبت بـ "لغة متميّزة" وبأنها "قصائد نثر مكتوبة بلغة شعرية راقية وبنية فنية محكمة وقدرة على التأثير والنفاذ". ولكن – نعم لا بدّ من "ولكن" – "هو لم يكتف بالتلميح إلى أسباب هذه المعاناة، بل صرّح بذلك في
أكثر من موقع". ساء الناقدَ أن يصرّح فرج بأسباب معاناته. يريدون أن يضع على الجرح ملحا ويصمت. ولكن ليس فَرَجا! كتب فرج في ملحق النهار مقالة فضح فيها الناقدين ورياء اتحادهما. فتعلمت وزارة الثقافة الدرس، وطبعت المجموعة دون أن توزّعها.
لذلك، بين يدينا اليوم مجموعة قديمة-جديدة، كتبها فرج في التسعينات، ونشرها – اسميا – مطلع الألفية، دون أن يقرأها أحد بالعربية. ثم قرأها الإنكليز والفرنسيون والألمان والسويديون قبل أن تجد مؤخّرا طريقها إلى الحرف العربي الجميل.
وهي مجموعة جديرة بالقراءة في كل شطرة منها، لأتها تأخذنا إلى عالم غريبـ، كتلك التي أخذت فَرَجا إلى مكان اسمه اللامكان:
"ثمّة مكان
اسمه اللامكان
أخذتني إليه
تلك المرأة الشاهقة
وقالت لي:
يليق بك التيه."
والحق أنه لا بأس من التيه، في بعض الأحايين.