أطياب شقائق النعمان
2007-03-31
"من رسالة "اعتذار" كتبت في الثامن عشر من تموز1982، إلى "جازية العبدي" في الدرباسية ـ سوريا."
الملكة تودع للرحيل
بيني وبينك سيدتي المتوجة نهر من الحنين
بيني وبينك قمر بهي في ليل بيروت المدمى، بأقمار مضيئة بالقنابل.
بيني وبينك الحقول والبيادر والحرائق وحكايا الجن والساحرات ومنهوب المجرات وأحزان العاشقين
بيني وبينك بيروت ودمارها، والبغي في غير أوانه، والقنابل تهطل ثلجاً على قيظ الظهيرة
بيني وبينك صديقتي أشياء نرويها عن الضواحي، والجنازير، والحرائق البهية في الحقول، والثقيلة في المدن.
بيني وبينك ضحك مؤجل، وخزائن الأسرار التي لم ترو، ولم تتمرى متعتها البسيطة
بيني وبينك فقراء بيروت ودمارها، أهلها الطيبون والبسطاء، الروشة كأنها بيادر باب السلام
بيني وبينك خجل صامت، كأنني أخاف أن أخاف من ألا أودعك
فاعذريني ان غبت أكثر مما استأذنت منك ومن الأحبة والأصدقاء
اعذريني ان سهوت، إن أهملت ذاكرتي.. فالقصف يشتد سيدتي، والدمار من حولي كبير وأنا أحرس بيوت اللاجئين، وأشياء حميمة للأمهات.
لم أعد، وبقي الحلم، وتاهت الهجرة
منذ أن غادرت "جازية"، توقف انبعاث تلك الأطياب والأنفاس العطرة التي كانت تغلفني من وقت لآخر... تشل ذاكرتي بالتذكار و تسيح المكان بالزمان، تقطع المسافات إلى أيام خلت ومواقف وفصول ليس عندي مكانها ولا أزمانها، عبق أمكنة، براري وحوار ومساكن تترامى عليها أوراق "الكركور"، يفوح منها عطر "البابونج"، تتعالى تنهيدة "المروند"، "الفريكة"، أنفاس ظروف السمن البلدي، أسرار صناديق الأعراس الخشبية الملونة، تتداخل ألوانها وتطريزات عمائم "الهفرميش"، وقزحيات البنفسجي لزهر"الخلخالوك"، و"الهيرو"، وتقصيبات "الحروانيات".
توقفت الأطياب، إلا لماما، منذ آخر مرة، يوم أحاطت بي وبها انتشيت، كأنها عاصفة مرت بخزائن "كروان"، مترع بأطايب الشرق كله، فوح مخازنه، عطر نسائه، ضجيج أعراسه، شلالات ألوانه، أثيابه المعطرة بأصباغ الحناء، شقائق النعمان، "النركز"، "عندكّو"، "المرّ"، والأصبار، "القرفة"، "الزنجفيل"، وأخذتني في تهويمة اللوحة، الملكة تودع للرحيل..!
رحلت الملكة، ولم أكن أعرف، يوم كنت أتيهُ في شلال ضياءات اللوحة.
كنت كمن يسابق الريح الى حتفه المؤجل بقوانين القدر، أتحايل على قلبي المحاصر بألف سؤال وسؤال، مستهديا بسراج خيمة في برية "عبدو سلامة" أقود خيولا حرون إلى مرابض مجهولة، أستهدي بفوح دخان المواقد الثكلى بجذور الخرنوب الطرية تزبد برغوة الطوفان الناري، في عتمة التيه المتألق بضوء القلب الوجل وجفلة الحجل الرمادي في لهاث الصيادين الزنخة. لم أكن طريد الدغل المهجور لكن لسعة الأفاعي تقض مضجع رأسي المزنًر بأكاليل من الأزهار البرية بفوحها المجنون الذي يبث الخدر المنعش وكأنه إغماءة السيجارة الصباحية.
كنت في تيهي إلى ضلالة منشودة بالابتهال إلى الله في وحدته وعزلته الجليلة،وأنا أقود القطيع الشفاف إلى شغاف القلب في كسرته التائبة ـ هيهات ـ إلى صلاة العائد إلى تربة مطمئنة بالرطوبة الفائحة برفوف القطا تتوجه جنوبا.
رحلت الملكة وبقي الضياء الذي يسقطه النيزك من علياء الفضاء إلى متعة اللهفة المشرقة بالوجد يتسلل خفية إلى تحت جلد المبتلين بلوعة الإيمان.
بقيت روحها العصية على النسيان، بعض عطرها، عطر منزلها، المنزل الأول، الذي ما أن غادرته حتى بدأ حلم العودة إليه يعتصرني كل غروب كالأنين، لم أعد، بقى الحلم، وتاهت الهجرة، لتترنح الذاكرة بهمس خفي، تعيد أحياءه، كلما تاهت بي الأقدار، واحتارت الروح في حيرتها.
جوكوندا
تواقت انتهائي من لوحة "جوكندا" في ربيع 1976، وزيارتها لنا، شمس وأنا، مزودة كعادتها بالبيض، والجبن، وخبز التنور، ما كادت تضع أحمالها حتى ضحكت وهي تقول:
" شو إبني، إنتقلت من رسم "قرشيفانا" حاملات القش، إلى إختلاس صورة أمك"
قطبت وهي تقول:
"بس أكيد ماراح تبيع صورة أمك لحدا، خليني آخذها معي للضيعة. بس هونيك مين راح يحكيها، والصور حتى الصور تحتاج من يتحدث إليها."
ليست اللوحة، رسماً، واقعياً "لجازية"، لكنه تركيب أليف لكائن بشري، وأشياء أخرى تتمرى قلقها في سكينة الآخر، كنت أريد بالمضاهاة، امتحان تيهي إلى إعجاز التحفة/ المرأة "La Joconde" التي أثارت إعجاب ومخيلة من رآها ومن لم يرها.
كنت أحلم يوما برؤيتها على غير احتمال كواحد من هذا الجمع الحالم في غبطة المباهاة بملكتي الأجمل والأكمل.
في باريس، في المرة الوحيدة التي زرت فيها متحف "Louvre" كانت لزيارة "لا جوكوند"، ومع ذلك لم يحدث بيني وبينها ذلك التواصل الذي كنت أظن بأنه سيتألق إلى متعة الحوار الصامت مع "جازية" بالنظر، في تغير درجة الحزن في الصوت، إذ على بساطة روحها وحكمة عقلها وسعة قلبها الوجل، كانت التعبير عن تألق الحزن النبيل، الذي تبثه أحياناً في مواويل بدوية، لا هي كردية، ولا هي عربية، ولا هي تركية، ولا هي غجرية، مواويل لا هي بالنواح، ولا هي بالهلهولة، هي حشرجة الأنين .. الأنين الباحث عن مثيله بالصوات الأقرب ما يكون إلى صوت الريح، ارتطام الطلقة بالأحزان، الأحزان القدرية المتناسلة في التاريخ، في هذا الفارق الفاحش ما بين سطوة الطبيعة ومحدودية الإنسان في مواجيد القهر البريئة على فتنة الرّقة، في كثافة العجز أمام جبروت صيغ "فعلوت".
"هوااااارييييي..."
لسعة ريح الشمال تنفذ للأعماق كالخرشوف، تترنح ذبالة القنديل، تهرف الكلاب، تموء القطط ، تتجلد الأرض بالزمهرير في غير أوانه، كأنها بحة الناي في صومعة مرفوعة الى شرفة الشفق البهي، كأنه منديل تطرزه ساحرات مملكة أرجوان شقائق النعمان، المترف في السواد، الخضرة المتناسلة في زهيرات النعناع البري، طرواة وبر "الكركور" المستحيي بفوحه المنداح خلسة في أثداء النعاج الولودة.
"هوااااااااااااريييييييييي..."
ترن المواقد النحاسية عويلاً وصخباً، فواجع لازوردية بطعم الملح، خواء ثغاء القطيع التائه في مجرتنا المتيمة بالأقمار الضالة.
لم تكن، راعية الوعول الجبلية، سليلة مستعمرات الخرنوب، متوجة سنابل القمح بهسيسه، شبح أغنية، ولا كانت وشم تعويذة، ولا انعكاسا لأطياف " الهفرميش" في سواقي الربيع. كانت، ببساطة الجمرة المتوقدة، أمّاً، أمّاً، ليس لأولادها ولا للجيران من البشر دون غيرهم، بل كائناً شمل بأمومته حب الأزهار، الأعشاب، الغيوم الماطرة، الكائنات الضعيفة في ملكوت الله المتناهي في الضعف المتباهي بالقوة.
حب ..كأنه تآليف النسيج في ترف الجسد، متعة الأصباغ في الأصواف والأنسجة، تنهيدة الروح على قلق الريح، نثار الطلع في هبوب نسائم أجنحة الفراشات، ، عيون الصيادين القلقة كوحشة الحصادين، ثكل الأرامل، همس الذات الالهية تتمرى السكينة في تجويد القرآن "واذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت" الفتيات الموؤودات بالزيجات العابرة للحدود عن أعمار تتقصف في مصائد الطفولة وأحلام الصبا.
لم تكن "جازية" غجرية ولا فلاحة، لم تتقبل أن تكون سيدة القبائل المتهالكة على مصائر مثخنة بجراحات الزنجار الصدىء، المتقرن على حوافي المواقد، لم تهبط من السماء ولا حملتها أمواج البحر داخل صدفة، لم تحضر في "كروان" الملح والتوابل سبية الغزوات.
كانت لهم خيام سوداء كبيرة، وأغنام كثيرة تقودهم في الشتاء حيث يذهبون الى جبل "عبد العزيز" هرباً من الثلوج، ويعودون إلى قراهم مع الربيع والصيف، إلى هضبة مترعة بالحشائش والأزاهير والأطياب.
الفضاءات التائهة
نبتة في براري "ميزوبوتاميا"، لذعة البطم البري في جبل "عبد العزيز" مرارة الطلع النافذ في رحيق أعسال البراري الموحشة أوان رحيل القطا الى مهاجره المواطن.
حارسة الحقول المترامية بشجيرات الخرنوب الذاهبة بجذورها الى أعماق الأرض المكتوية بقيظ الظهيرة حين تتثائب التربة، ثغاء كجمر القرميد، وهي تتطاول هيكلاً كتماثيل "جياكوميتي" في المشهد الوهمي بقوة "الليلان" المتنامي في أوان الإثمار البري، وتتواصل الظلال الوهمية "للخرنوب"، و"الكركور"، ومرايا أكوام القش.
في المسافة الفاصلة بين الحدود المرسومة على امتداد سكة قطار الشرق السريع، على أزيز الطائرات الفرنسية التي أغارت على "عامودة" و"ديكه" و"كر حبشة"، تدمّت قدما الطفلة "جازية" وهي تأخذ درب الهجرة غير المؤقتة، كتلك التي تقود القطيع والحاشية إلى المراعي ما بين ضفتي "جبل عبد العزيز"و "دشتا جار بكر".
لقد رُميت ظروف السمن، جزز الأصواف في الآبار العميقة حتى لا تنهبها الحكومة بعسكرها وطائراتها، وعلى تناوب صراخ "الجندرمة التركية" في مقابل اللكنة البليدة للعسكر الفرنسي، اختلطت الجهات، الجبهات، واللهجات في قرقعة القبعات العسكرية وأحذيتها .
كرهت الحكومات، كل الحكومات، والعسكر،كل العسكر، سيارات الجيب، أجنحة الطائرات، وخيول الدرك الهجينة بين الحمار والخيل الأصيلة.
ارتدّ الصدى المدمّى على إيقاع مواويل مترعة بالآلام التي تشفي الروح من لوثتها، حيث:
لا رجاء من غناء القبرات...
لا رجاء من شجرة لا تزهر...
لا رجاء من زواج قسري .
لا شفاء من جراح حب لا أمل منه.
لم تكن "جازية" أغنية بقدر ما كانت راهبة، راهبة في صومعة الفضاء المفتوح على الرحمة، والمجرة، وما وراء الآفاق المجهولة كالذاهبين إلى حتوف سفر بلّك.
كانت فضاء، موعداً مع القمر في اكتماله وبهائه ولحظة تواطىء المجرة في اختفائه لتنضج الحكاية بأسرارها، لتتزين المخيلة باللهفة في أوانها، كأنها الوتر الذي أَنشدَ الأوديسة في " الجزير" تحت شجرة الشوك بين" مم وزين" ،وهي السجادة القدرية التي نسجتها "بنيلوب" ل "سيامد" في حتفه القدري ما بين التألق والمعجزة.
فضاء من الحب لا حدود لحدوده،
حب كالآيات المعجزات، كمسارات الهجرات والترحال البدوي، إلتقاء نجمتي الحظ ، الحلم الأبدي للتائهين في تيه الله المأمول أبداً، فضاء تطاول كإمتداد الجبال وشسع البراري، يشمل الكائنات كلها، الأنواع كلها، كل الناس حتى الأعداء، النباتات، كل ذي عطر، ونفع، وملمس طري، "الحرمل" لتعاويذه، و"الخرنوب" لعناده، "الكركور" لكرمه ورقته وعطره، "الزميت" في تشكله البهي، "الخلخالوك" لمرآه الشبيه لصناديق الأعراس.
لم يعرف فضاء "جازية" الأبواب المغلقة،
ما أكثر ما كرهت غلق الناس الأبواب عليهم كالموتى..
لم يحدث أن أغلق بابنا بوجودها يوماً، لا ليلاً، ولا نهاراً، لا صيفاً، ولا شتاء، ـ ليس في القرية وحدها، بل ظلت هكذا حتى بعد انتقالها إلى المدينة ـ فالأبواب ابتكرت لتستقبل الضيوف واللاجئين وأصحاب الحاجات والأصدقاء المحتاجين إلى الألفة، الناس الخجولين المتعففين. هي الأبواب: إطلالات على عجائب الطبيعة،تناوب الأوقات، الطقوس، من شروق وغروب، غيوم وأمطار،عويل الريح واستغاثات الخطر.. وسلام العابرين بأمان.
ظل باب دارنا في القرية دون جميع البيوت بدون قفل، ولا مغلاق، كل ما كانت تفعله ليلاً أن توربه قليلاً، لئلا تدخل الكلاب أو السائمة، وتترك فسحة للضوء وللصوت ليمرا، حتى في الأيام التي كنا نغيب فيها جميعاً عن القرية، كانت تربط الدرفتين بحبل بسيط وتوصي الجيران:
" عينكم على البيت، وإذا احتجتم شيئاً تعرفون مكان كل شيء."
صدى الطمأنينة
لجازية، ابتهال البداة، عرب الشامية الملتجئين ببلاد الكرد، حين تصبح البادية نار جهنم على حيواتهم وقطعانهم حيث لا ماء ولا هشيم.
إلى فضاء حدودها تنزل أولى الخيام، عند أم حسين،"جازية" تولم لهم في أول نزولهم، ويوم مغادرتهم بالدعاء، أول الخريف.
لهم الدَور الأول في السقاية من الآبار التي تشح دوماً، ولهم الحدود المفتوحة إلى كل الحقول المحصودة، ومن يردهم يلحق به عار البخل والجيرة السيئة والخروج عن أيغاث الملهوف.
أما الإعتداء عليهم من الكرد، أو ما بينهم، هو إعتداء علينا، إعتداء على الدم والكرامة والشرف.
ومن يعترض عليه محاججة الحيوانات الكريمة الجائعة العطشى.
لها، التجأت " نوره" بحملها السفاح، هاربة، ليلاً، من القرى ومن البشر، كتلة من القنوط والدموع، فآوتها وشرعت لزواجها، وأعادتها إلى الحياة.
لها التجأ "أحمد القصاب" من ظلم الخاتون ، فآوته، أقتطعت له أرضاً، وهي لم تعتذر يوماً ـ بالتواطىء الدائم مع زوجها، المتمرد الأبدي، ـ من فلاح مطرود، إلا وأعادت إليه كرامته وإنسانيته، كانت تمنحه أرضاً وأماناً.
كانت تتلمس النباتات، وكأنها صفحات القرآن الكريم المتكىء على غلافه هناك، لا يفتح إلا مرة كل سنة، تجبر الزوج بالعناد الودود، على تلاوته كل يوم من أيام رمضان، قبل أن تتلمسه برفق وخشوع، ثم تعيده إلى النافذة العلوية حيث لا تصل أيدي الصغار.
كانت تحن على الحيوان والحشرات، كل من تجمع في قومه، النمل والنحل والفراشات والوعول والنعاج والأفراس والغزلان والحمام والسنونوات.
تفيض بذخيرة من القصص والتوريات البدائية، ترجع الأصول الأسطورية لكل الحيوانات، غير السامة ـ وتستثني الحية منها لنبل انسيابها وإشراقة جلدها البراق، والأثر الجميل لمسارها، والنفع الكامن في ثوبها المتغير، في شفاء أمراض العيون ـ والطيور والحشرات غير اللزجة.
كما تفننت في استخلاص الوصفات الطبية للأعشاب، وقدراتها الروحية، وعلاقة كل نوع بالمكان، بالمنزل وساكنيه، سمومه وشفاءاته، بلسمه وقروحه.
لم تتأخر يوماً عن تبخير المنزل بدخان "الحرمل" طرداً للأرواح الشريرة وتطهيراً من الأمراض والعلل الجسدية والروحية، لم تغسل غسيلاً يوم الأربعاء لطقوس خاصة في مفكرتها، لم تسكب يوماً ماء حاراً على الأرض دون أن تسبقه ببسلمة، كي لا تؤذي أطفال الجن اللاعبين بين أيدينا، لم تقبل بقتل حية تلتجيء لجحر في الدار قط، فقد تكون متناسخة عن روح كريمة، ولها في ذلك حكايات وأمثال، لم تسكت عن ضرب حيوان أليف ـ لأنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه، ولا لسان له ليصرخ به للدفاع عن نفسه ـ ولا الإعتداء على فرس أصيلة، ولا ضرب امرأة، من قبل زوجها أو أخيها أو أبيها، كأنها المدافع الأول عن حقوق كل هذه الكائنات الضعيفة، تنطق بحكمتها البسيطة:
"كل إنسان يمكن أن يتحول إلى وحش إذا توحش أو طغى والبغي معصية الله، ورحمته تشمل كل الكائنات، النمل قبل البشر فهم قطيعه وأغنامه المفضلة."
لمن يعرفها امرأة تشبه رائحة خبز التنور في كرمه، حجر البازلت في طراوة ملمسه وشدة عناده، "جازية" من رحيق الزهر ونسغ الأعشاب، شفاف الضوء وشغب المجرة الأبدي على الليل.
كانت تستمتع بالمشي على الأرض حافية، وتمرر برفق يديها على العشيبات وهي تنمو، تقدس التربة الحمراء، لإعتبارها خلاصة نقيض النجاسة والإسوداد والتلوث، تطهر بها الأوعية والجدران، ولها في ذلك طقوس، تدهن بها جدران البيت دون جميع الناس مفضلة التربة الحمراء الطرية على لذوعة الكلس.
لم تكن امرأة، بل أماً، لم تكن أماً، بل رب أسرة، لم تكن رب أسرة بل راعية لكل القرية بناسها ونباتها وحيوانها وجغرافيتها، ولم تكن هذه القرية وحدها، فهي حارسة الدروب والقرى المتصلة بها، بناسها، وأهلها، هي قلب للناس، ليس عن سطوة أو نزوة، كانت تقرر متى حان وقت حرق البراري، لتقضي على الأعشاب الضارة، وتطلب من مربي الأغنام إذا تأخر الربيع أن يبدأ بالرعي ليلاً، كانت تهبهم زرع أسرتها بما يسد أود الغنيم، تشرع بذلك الرعي في حقول القمح كلها للحفاظ على حياة القطيع، لذا كان بيتنا أول البيوت التي تستقبل حليب النعاج الولودة، الذي منه تصنع قشطة "فرو" اللذيذة، كما كان يستقبل آخر ألبان الحليب في كثافة دسامة أواخر مواسم الحلب كل صيف.
أراها، الآن.. هناك
كرهت مؤسسات الحكومة كلها، ما عدا واحدة: المدرسة، لم تكن تعرف القراءة، تخشى أن تلمس الكتب لأن فيها أحرف القرآن وأسماء الله، مع ذلك ذاكرت معنا جميعاً كل واجباتنا المدرسية، كانت تتأمل كتابتنا، توجهنا نحو انحراف الخط عن مساره، وهي تتنقل مابين غرفة الجلوس وحجيرة المطبخ المعزولة عن البيت، حيث موقد النار والمخبزة الصاجية تحمل إما خبزاً يتصاعد منه البخار المنعش أو حطب في طريقه إلى الإشتعال، وهي تتأمل رفاً من التلاميذ، كأننا داخل قاعة الدرس، أوامرها أن يعلم الكبير الصغير، والصغير من دونه وهكذا، ذهب بها الأمر تقديرا للتعلم، أن افتتحت مدرسة صيفية هي المديرة غير الرسمية، وأخي الكبير معلم الصف الوحيد، ونحن جميعاً مساعدوه، وبإلحاح منها إلتحق بالمدرسة الصيفية تلك، كل التلامذة الرعيان من القرى المجاورة، ليتعلموا القراءة والكتابة قبل أن يذهبوا إلى العسكرية، ليتسلى أولادها بهم ومعهم، فلا يملوا رتابة أيام الصيف القائظ.
كانت "جازية" قد قررت في إحدى الليالي التي كان الوالد يغيب فيها كثيراً إلى متع المدينة، قالتها بصوت واضح حاسم: "غداً تذهبون جميعاً إلى المدرسة."
ومنا من كان قد تركها من سنتين ومن لم يذهب لها قط، ومنا من دون عمر المدرسة، هي قررت ونطقت:
"أنت تذهب لترى كيف يتعلمون لتعلم الصغير بيننا، وأنت "بشارو"، صف أول، وأنت "حسين" صف ثاني.
كانت قد تيقنت بأن لا مستقبل للزراعة أو الرعي، فالحكومات تدخلت في حياة القبائل والعشائر ومصائر البشر، لذا لم يبق للبشر إلا أن يستوطنوا الحكومة ليتفادوا شرها، وهي شر الشرور، كان همها الأساسي بعد المدرسة والكتب والدفاتر، مؤنة السنة، من الأصواف، والسمن واللحم القديد، البرغل بمشتقاته، رب البندورة والسكر والشاي مرة واحدة لكل السنة، ولتنزل كل الثلوج.
أما الأدوية فتستخلصها من الأعشاب التي جمعتها في أوانها، تطهي كل أطايب الحساء المبهرة بكل أنواع البهار والفلفل والزنجبيل والقرفة.
كانت وهي تدير أمورنا، نحن أبناءها المتناثرين في أكثر من مدينة وقرية، بقدرة إلهية وبالتواصل الروحي الذي يلهمها. كانت تعصى على النوم والمرض والتعب، تظل ضاحكة، حيية، ممشوقة، أنيقة، وكأنها مهرجان ألوان، لم يقربها قنوط في أصعب الأوقات، ذخيرتها ورأسمالها حبها للناس، وترحيبها الدائم بهم، و بقدر ما كان والدي مشاكساً، مشاغباً، كانت هي كتلة من الطيب والدماثة، تعتذر بالمودة عن أخطائه فيرضى، فتحيل بهدوئها قساوته إلى طراوة ينتعش هو لها.
والآن.... كلما حكيت لهما عن روح "جازية" الشبح العابر هناك... يرسم "رودي" إبتسامة خبيثة، قائلاً: " ألم تنزل أرضك، وكوكب الكرد عن قرن الثور؟ فتتدخل "كًلبهار" برقة "جازية" ودلالها:" دعك منه تنقصه التجربة، أنني أحس مثلك بمرورها، وكأنني أعرفها كما أعرفك...." وأتحايل على حيرتي بفسحة خيال كلبهار.!
أراها، تمر بي روحاً، ترنيمة، لسعة لون، صدى جملة:
"قلم تراش، مه صبر، ته صبر ؟!".
كلما أحست بأن الألم بلغ مداه.
أراها هناك، تمر ناظرة إلي، تكاد قدماها تلامس شجيرات السفح المواجه لنافذة مرسمي، في "ارجنتوي"، تماماً، كما كانت ترينا شبح "خوجايي خدر" "مار الياس"، يسرع الخطى وكأنه يطير أوان الغروب على تخوم التلة الشمالية لقريتنا "خربة " باب السلام، وكلما نظرتُ إلى شخوص " شاغال" الطائرة، تملكتني رهبة طيران "خوجايي خدر"، كان مروره الذي كانت تعرف مواقيته من رطوبة الهواء، ودرجة تكاثف الغيم، لسعة البرودة في الجسد، في متاهتنا تلك ، مناسبة لإشعال نيران المواقد النورانية الزرادشتية، على سطح منزلنا تحية للقديس الذي كنا نحتفل به وجيراننا المسيحيون، أراها، الآن.. هناك.
08-أيار-2021
23-أيلول-2007 | |
31-آذار-2007 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |