فوز الفنزويلية يولندا بانتين بجائزة لوركا في الشعر 2020
أحمد عبد اللطيف
خاص ألف
2020-10-24
1 / 1
في ذاك الضحى
الضحى البعيد العالي
أو الذي كان كالماضي
حيث لم يكن يتصاعد من الأرض سوى المحنة, وضباب أزرق ودخان أسود. يدل ذلك كلّه على أن الحرب الغابرة تلك. قد اندلعت, ولا يدل قطعا على أنها انتهت, أو.. ستنتهي في وقت قريب.
2
كنت ما أزال متنكباً عتادي العادي كمحارب أبدي لا يفنى ولا يموت. أحزمة الطلقات حول كتفي, على خصري, البلطة.. أداة القتل المحدَثة, مطرة الماء, المسدس, الخوذة المعدنية, البوط, الحربة الفولاذية, التي تشع ببريق أخاذ.. ما أن يلامسها الضوء.
أي بلد هذه؟
3
ها هي الأبنية منهارة. بعضها انهار بكامله, وبعضها انهار بعضه, ألسنّة اللهّب انطفأت عبر الزمن. من تلقاء ذاتها, دونما حاجة إلى إطفائيّات حديثة, تصبّ رغوتها الهلاميّة الكيميائيّة, على تفاصيل جغرافيّة المكان المحترق.
4
ليس في الشارع
ليس تحت الأنقاض
ليس تحت الجثث
ليس فوق الجثث
ليس في الأزقة
ليس تحت الأرض
ليس في أي مكان
ما يدّل على أن أحداً يعيش هنا. أو حتى يتنفس, لا كلاب, لا حمير لا قطط, لا يُسمع أنين ولا صراخ, لا نهيق ولا عواء لا ثغاء ولا مواء. هنا على هذه الأرض, فوق هذه الأنقاض
ليس لله
المجد ليَّ
لأنه لم يشاركني حربي
التي أخوضها من أجله
5
هنا
من تمكن من الهرب.. هرب
ومن لم يتمكن منه.. أسلم نفسه لأي رصاص, لأي سكين, لأي بلطة, لأي قذيفة تأتيه من أيّ اتجاه. لا بد أن شاشات التلفزة نقلت صورهم إلى أنحاء العالم كلّه كقطيع مذعور, قطّعنا.. أطرّافه وأعناّقه, وأوردّته, وأرزّاقه, اغتصبنا نسائه وبناته حتى اللواتي لم تتجاوز منهنّ سن العامين. كم كُنّ ممتعات وهنّ يصرخنّ بذعر وخوف, ونحن نمزق ثيابهنّ وأجسادهنّ. ثم نغزّ أعمدتنا الصلبة بين أفخاذهنّ, نمزق أغشيتهنّ وأرحامهنّ, ثم نطلق عليهنّ الرصاصات والطعنات, وهنّ ممرغات بالعار والذل, بالإنتهاك والمهانة.ثم رأفة بهنّ كي نُريحهنّ من ثقل ذلك كله. كنا ندفنهنّ جملة.. جملة أحياء.. وأموات.
6
لا أدري كم استمرت حربي
أو حربنا
ها هي تستمر, ها هو العالم كله يتدخل كي ينقذ البكّارّات, أو المذاهب أو الأعناق. أو الهراء الأحمر الذي يجري في أوردتهم. العالم هنا في هذا الحيّز من الأرض.. لا يتسع لاثنين مختلفين في الطقس والمحن والطقوس. هذا ما بتّ أدركه جيداً بعد أن اعتدت على القتل.
القتل اليومي
يومياً يجب أن أقتل آخر
من الطرف الآخر
7
منذ قليل, مرّت دوريتنا من هنا. زودتني بالطعام والماء, ثم أُمِرتُ بتنفيذ.. ما أنفذّه يومياً. أي إبادة النوع الآخر. الجنس الآخر العرق الآخر. المذهبيّ الآخر.
8
فعلا
في غضون
ذاك الوقت القياسي
كنا قد طهرنا الأرض من الآخر. أحللنا مكانه أو فوق رأسه الخراب الذي وعده الله به. ها هنا أصبح طير السماء يخافنا. كذلك الهواء وهوام الأرض. كم من مقبرة جماعية أنجزناها كفعل حضاري سماوي يخدم قضيتنا. منذ الآن.. إلى الأبد.
9
جثث
فوق جثث
أعضاء ميتة
فوق أعضاء ميتة
جماجم ذكور
فوق جماجم إناث
أطفال, عجائز, أجنّة شيطانيّة أخرجناها بالحربة, من الرحم. ثم جاءت الجرافات.. اتخذّت الحفر أشكالا هندسية اعتباطيّة وسريعة. أشكال متعددة وحجوم مختلفة. ثم جثث على جثث, ثم ردم على ردم, ثم رصاص, ثم دم, ثم هدم. اننا لا نطلب أكثر من ذلك.. الدم.. ثم الهدم. أقرب جندي إلي من نوعي يربض بعتاده المعتاد بين الضباب الأزرق والدخان الأسود, على مدخل شارع آخر. هو أيضا.. يراقب ظهور أي بارقة أمل, لأي بارقة حياة, لأي كائن آخر.. من النوع الآخر.
10
الإبادة
قرار اتخذته قيادة الرئيس الحكيمة بالإجماع. حيث لا يمكن للهواء, لا يمكن للماء, لا يمكن للأرض أن تحتمّل وجود نوعين يختلفان في المأكل, في المشرب, في المذهب, في صيد الطيور التي ستمر من فوقهم, في رحيلهم كي تؤنس وحشتهم. تلك.. الطيور اللعينة, لا بد أن غريزتها قد خانتها مرّة وإلى الأبد. لذلك أسقطها, أسقط.. منها كل ما أقوى على إسقاطه.
11
كل يوم يمر
ولا أهرق فيه دم واحد.. من دماء الآخر
أظنه مئة يوم من الأمس الثقيل.. الـ بلا معنى
12
ها أنا
أروح
أجيء
كبندول لا يقدم ولا يؤخر. يأكلني الضجّر والترّقب. أنظر إلى هذا الخراب. لا أعرف كيف سيرمم من أجل أن يحل فيه النوع.. نوعي الإلهي. حاربنا طويلاً في كل الأوقات, في الفجر, في الصباح, في الظهيرة, عند الغروب, في الليل. سنحارب في كل هذه الأوقات مادام فينا رجل يمشي فوق الأرض. يوميا نحارب في كل هذه الأوقات. دون توقف. غيرعابئين بالزاد أو الماء. أكره ما نكرهه, في كل تلك الفترات هو التوقف عن إطلاق الرصاص. لقد أهرقنا الكثير من الدم, ليلة أمس في مدينة أخرى. سنهرق الكثير من الدم في ليالي الغد. في مدن اخرى.
13
كنت أحاور الأنقاض
أم كنت أحاور نفسي
لا أدري
ربما كنت أحاور زعيمي الروحي أو سيدي الرئيس, الذي أحرق آخر راية حمراء فوق هذه الأرض. ثمة خيط لا ينقطع من الحوار ما بيننا وبينه. هو من موقعه, ونحن من حيث نقف, أو نتحرك. نسمع صوته الدليل. الأشجار, القمح, الأحجار, الأطفال, الشيوخ, النساء, المآذن, المتاريس, الطيور, الشعير, وما تطاله أيديكم, أو رصاصكم, أو بلطاتكم, أو حرابكم.
14
يبرد الزاد الذي زودتني به الدورية. ليست لدي رغبة بتناول الطعام. بل في القتل. لو شبح منهم كي أطلق عليه, لو هيكل عظمي لطفل يحبو, لو قامة لامرأة عذراء جائعة, خائرة. أفضّها برغبة همجيّة بعمود أظنه من الفولاذ. ثم أقتلها كالعادة بعد أن أفتعل بها في كل ثقوبها. ثم أقدّمها علفاً لكائنات الله الهلاميّة. لو شيئاً من هذا الحلم, أو ذاك الطموح يتحقق يا ربي.
15
أنتظرعبثاً
عبثاً أنتظر
أترك موقعي
أمضي قدما في الخراب الذي أمامي. لا أنف لي كي أشمّ رائحة التفسّخ, لاعين لي كي أرى الدود وهو يزحف, ويزحف في العيون على العظام. لا أذن لي كي أسمع ذاك الأنين, أو الصراخ, أو العويل, المنبعث من الأمس, من المقابر الجماعية. حسنا إنني فقدت تلك الحواس كلها دفعة واحدة.
16
الشمس
هاهي تشرق أيضاً
إذاعتنا المحليّة المذهبيّة. تبدأ في توقيتها المعتاد ببث الأغاني والأناشيد الوطنية. بين أغنية وأغنية, وبمقطع نثري أثيري يعرّفنا المذيع على بعض من هوية الآخر. الذي كان أخا ورفيقا بالقوة حتى سقوط آخر راية حمراء. عن آخر مدرسة. كأن يقول عنه: بأنه وفد إلينا من الشرق مع الغزاة الفاتحين مزوري التاريخ والدماء والجغرافية والديانات بقوة السيف والدبابة والصاروخ. هناك.. حيث العقل ينغلق على التقاليد والخرافة, ولا ينفتح على الجديد, والتجديد, أو المتغيّر.
17
الآن
من هذه اللحظة بالذات. لم يعد يهمني صوت المذيع ولا إيقاعات الأغاني الوطنية.. ثمة شبح, شبح حقيقي, يزحف بين ركام حجري, ما تزال عمامته على رأسه. يا إلهي كيف لم تسقط العمامة عن رأسه أقترب منه, أباغته صارخاً, ينتصب واقفا. سأتفنن في تعذيبه. ها هو يبتسم في وجهي, يباغتني أيضا.
ـ السلام عليكم يا أخي
ـ أخوك؟
ـ جرعة ماء لوجه الله.. ثم اقتلني
ـ جرعة ماء؟
ـ ترحمني ويرحمك الله
أفكّ مطرة الماء من حزام على خصري. أبتسم أيضاً. أمد يدي إليه بالمطرة, يمدّ يدّه مبتسما. فجأة, لا أدري كيف قلت: تركض بعد أن تأخذ المطرة فوق هذه الأنقاض.. مئة متر إن لم تقع تشرب ماء المطرة كلّه ولا تقتل. إن تعثرت لا تشرب منها قطرة واحدة. إلا في محاولة تالية ناجحة, عليك أن لا تموت.
ـ حيّاك الله يا أخي
ـ موافق؟
ها هو كعنز بري, يثب وينطّ فوق الركام, دون أن يلتفت إلى الخلف, وأنا أعد.1, 3,2 من بندقيتي يكر خيط من الطلقات, واحدة إثر أخرى. الطلقة التي لم تخترق رأسه.. اخترقت عموده الفقري بالتأكيد. رغم ذلك ما يزال يركض كعنز بري.
18
أقهقه
أغني
أصرخ, أطلق في الهواء, أرقص, أتذكر زادي, ما ان عدت بالمطرة من بين يديه. حتى أجلس فوق تلة من ركام. أخذت أزدرد طعامي بشهية مفتوحة, غير عابيء.. بجملة طيور تخونها الغريزة دائما.. مرة وإلى الأبد.
19
السماء تتلبد بالغيوم, أصوات رصاص تصلني من البعيد. أوغل قدماً فوق الركام, قطة بيضاء تفزّ من بين الركام وتقفز, رصاصتان, تنقلب القطة على ظهرها متخبطة بدمها. حتى قططهم يجب أن تموت. أداور طريقي, أذهب في ركام آخر. لشارع آخر أتأمل نوافذهم المهشمة, أبوابهم المخلّعة, نعالهم, آثار دمائهم على الجدران, على خشب السقوف, في كل مكان, في كل مكان. هنا بيوت دخلناها غرفة.. غرفة, فتشناها دهليزاً دهليزاً. أو سريراً سريراً, هنا مزّقنا الكثير من البكّارات بحراب البنادق لأن أعمدتنا خذلتنا من كثرة الاستخدام.
أتقدم بعض الشي, احتمالات الحياة لأحد ما, ما تزال قائمة إذن. أتوقف, أتبول على جمجمة ناتئة من بين الأنقاض. آخذ جرعة ماء, فعلا.. المجد لا يُبنى إلاعلى الجماجم تباً.. لمن يبني مجدّه على الرمال أو الهواء.
20
بندقيتي مثلي
متأهبة
ورهن إشارتي
عيناي, أصابعي, حواسي, لا تخذلني في التسديد التلقائي, أطلق بالغريزة.. وأقتل. جدير بي أن أقتل نفسي حين أطلق رصاصة خائبة على أحدهم. من موقعي حيث أنا أجد ركاماً فيه ما يشبه بوّابة الكهف, أتقدم نحو البوّابة, أتريث لا أطلق الرصاص. ها أنا قرب البوّابة تماماً. أنظر إلى يميني, إلى يساري, ماذا أجد؟ ما هذا؟ فضلات؟ فضلات بشرية طازجة؟ هل هذا معقول؟ لا بد أن أحدهم يعيش هنا.. أحد ما غفل عنه رصاصنا. ما هذا؟ أنين؟ صوت أنين؟
ـ اخرج
- ....
ـ عليك الأمان
ـ ....
ـ أمان أخ في الدين.. لأخيه في الدين.. اخرج
ـ ......
ـ لو لم أعطك الأمان لحولت جحرك هذا إلى مقبرة.. اخرج
أنين, تعقبه حشرجة, ثم سعال, صوت زحف كأنه لمخلوق قادم من باطن الأرض. بندقيتي مصوبة إلى البوّابة. لست خائفاً إلى ذاك الحد. رأس ملفوف بخرقة سوداء, جسد ناحل وطويل. عينان زائغتان مبهورتان. يا إلهي ما هذا؟ امرأة؟ من يصدق ذلك؟ ولا حتى في الروايات يحدث مثل هذا. حتى الله يتعقبهم إلى أقاصي جحورهم في الأرض, حيث يخرجهم ليلاقوا مصيرهم المحتوم على أيدينا. الله معنا, لا بد أن الله معنا في تنظيف أرضنا من آخر دم. من آخر حواء منجبة منهم, بورك السر فيك يا إلهي, يا من تمنحني شرف تطهير الأرض من آخر حواء منجبة منهم.
ـ ماء, أريد جرعة ماء يا أخي في الله
ـ ماء؟ ألا تريدين طعاماً؟
ـ أكلت ليلة البارحة
ـ أكلت؟ ماذا أكلت ؟
ـ آخر ما تبقى لي من لحم ابني الذي مات على زندي
ـ لحم ابنك؟
ـ كي لا تفوح منه الرائحة صدقني
ـ وحوش.. وحوش
ـ لا يا أخي
ـ حسنا.. خذي اشربي
ـ اقتلني بعد ذلك.. ترحمني ويرحمك الله
ـ لا تخافي
21
تأخذ المطرة من يدي, تشرب حتى ترتوي, أرمي بندقيتي جانبا. كأنها خمّنت ما الذي سيحدث, تفر هاربة بين الركام والأنقاض, بين الدخان والرعب, أتبعها, ألحق بها أقع فوقها, نتبادل العراك, ثم نتبادل التحت والفوق كأنها امرأة ليست خائرة القوى, نتبادل الصراخ, الرفس واللكمات, أمزق ثيابها الرّثة المخضبة بالدم و القذارة. جسدها أبيض وعار, رائحته زنخة حد القرف. أتمكن منها, أزرع عمودي الفولاذي بين فخذيها, أعضها في ثديها, أضغط بأسناني وأضغط, تتقاطع أسنان الفك السفلي مع أسنان الفك العلوي, أمزق لحم ظهرها.
22
في طريقي إلى بندقيتي كنت أمضغ كتلة لحم بين أضراسي, لم أتأكد من طعمها إلا بعد ابتلاعها. كان طعمها مرا, ربما حامضا, ربما مزا, ربما.. طعم أحال حلقي ومعدتي إلى نار, إلى جحيم لا يطاق. ها أنا أتلوى وحيدا بين هذه الأنقاض. أصرخ وأستغيث, لا أحد يسمعني. يا إلهي, يا من نصرتني كيف تتخلى عني؟ أمعائي تتقطع يا إلهي.
لا أصل إلى بندقيتي.. إلا زحفا
ترتجف يدي.. تسقط البندقية
ثم تسقط
لا بدّ أنها لعنة الله
أضع الفوهة في فمي
يا إلهي امنح يدي القوة.. كي تصل إلى الزناد وتضغط فقط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: في التسعينات من القرن الماضي.. في مقهى الروضة.. سألني زكور : بربك هذا النص عن كوسفو أم عن الشام كما تراها.. ياامامو علي
قلت له : كس امك .. رح خلينا نشرب كأس عرق ب فريدي