الحوارات تدور بين مجموعة من البشر وأخرى من الشجر، في بقعة ما من العالم، تُسمى سورية. هذا النص كُتب من وحي الحرائق فيها. حرائقِ النار للشجر، وحرائقِ النفوسِ الميتةِ من التقاعسِ وانعدامِ الأمل.
*****
هذه المرّةُ، النهارُ والليلُ مُشتعلان. برودةُ الليلِ لم تعدْ تَنفع. إشراقةُ النهارِ صارتْ مِحرَقة.
الأخضرُ ينصهرُ بالبرتقالي الحارق.
النتيجةُ: الطبيعةُ في سورية بين جمرٍ ورماد.
الأشجارُ لا تستغيث. وحدهم البشرُ ينوحونَ ويصرخون.
الأشجارُ صامتةٌ، تتفرج، وهي في عزِ أنينها، على تفاهةِ البشر، وحِقدِ البشر.
الذئاب تجوسُ حولها. الفؤوسُ مُتأهبةٌ. الناقلاتُ مُصطفةٌ لتُشيّعَ الجذوعَ المُتبقية. لكن الأشجارَ مُتسمرةٌ، في الأرض مُتجذرةٌ، بكبرياءٍ شامخٍ، ترثي حالَ البشر.
- منذُ أن قررتُم أن جذوعَنا وأغصانَنا تُقطَع، وفي جوفِ الموقدِ تُلقى، وباحتراقِنا تشعرون أنتُم بالدفءِ، ونتعرى نحن من شِدةِ الألم.
- ماذا بوسعنا أن نفعل، وقد أصبحنا لا حولَ لنا ولا قوة، ومن كثرةِ هزائِمنا لم نعُد نُحصي ما فقدناه. هل فقدنا مالنا، ومِتاعنا، وسلامنا، أم أننا فقدنا حالَنا، وعقلَنا، وكُلَّ ما فينا؟
- ((من هُم؟)) تسأل الأشجارُ عن أسماء وشخصياتٍ مُحددة، فهي لا تُفضل الاستعاراتِ المُبَهمة.
لكن البشرَ كعادتِهم يقولونَ رُبعَ قولٍ، أو رُبعَ حقيقةٍ، ويُخبئون ما تبقى في حُجراتهم اللاواعية، فإن حدث وتفوهوا بحقيقةٍ كاملةٍ، قيل إنهم مجانينُ، بغير وعيهم، والمجانين لا حُكمَ عليهم ولا حرجَ.
- لا نستطيعُ الإفصاحَ. في قولَنا هذا الرؤوس تُطاح.
- عجيبٌ أمرُكم يا بني البشر. من الخوفِ تخافون، ومن البوحِ تَرتَعِدون، وعن طريقِ التغييرِ تَحيدون، ثم تقولون إنهم ((هُم))، لا ((أنتم)). أتظنون أنهم سيعتبرون أي اعتبارٍ لوجودكم، وقد جعلتُم أنظارَكم موجهةً في خطٍّ مستقيم، تَحمِلُكُم وجوهٌ خاليةٌ من التعابير؟
- يتدثرُ البشرُ، في كل مرة يعجزونَ فيها عن مواجهةِ الواقعِ، بغطاءِ الدين، فيقولون: ((إن هذا ما طَلَبَه منّا الرب؛ أن نسيرَ في صِراطِ مُستقيم)).
- ألهذا الحد وصل فيكم البؤسُ والعجر؟ إن صراطَ الربِّ استقامةٌ وحقٌ. وما أنتم فيه هو صراطُ باطلٍ، توهمون أنفسَكم بأنّه حق.
يحاول البشر أن يجعلوا الأشجارَ تشعرُ بالمرارة التي في قلوبهم.
- لكِنكُم لا تعرفون المصيبةَ التي نحنُ فيها.
- أخبرونا إذًا ما أنتم فيه، علّنا نَمُدُّ لكُم العونَ، أو نشيرُ إليكم بما عليكُم فِعْله.
يتنهدُ البشر، فالقصةُ جذورُها قديمة، ويبدو أنهم لا يأملون حلًا، ولا يرون للنورِ منفذًا مهما بدا صغيرًا.
- في الماضي، مُنِعَ علينا الكلام، وهُدِّدنا، بأعناقِنا، إن أدرنا ألسِنَتنا للاعتراضِ والاستفهام، ونحن إلى الآن ما نزال بُكمًا، ونعتقد أننا هكذا سنَظل.
يثيرُ كلامُ البشرِ سخريةَ الشجر.
- يا سلام! وأنتم من فَرْطِ إعجابِكُم بعدمِ الكلام. قررتُم أن تُضاهوا الشيطانَ بمَكرِه وسطوَتِه، وصِرتُم عُميانًا وطُرشانًا!
- أتقصدون أن أعيُنَكم لم تعُد تلمعُ أو تَجحَظُ، وألسنَتَكم لا تبتل وتتدلى، وقلوبَكم لا تخفِقُ مثل راقصٍ رشيق، عندما ترونَ قطعةً من فخذِ خروفٍ أو جاموسٍ سمين؟
يضحك البشرُ مُستَهزئِين بسؤالٍ كهذا، ويزدادون إصرارًا على توضيحِ ما آلت إليه أحوالهم.
- في يومٍ من الأيامِ، قررنا أن نستَلِمَ زمامَ الأمورِ في البلد، فأصبحنا في جوعٍ وفَقرٍ وانكسارٍ إلى الأبد. السراويلُ صارَتْ بلا جيوب. الجميعُ أشهَروا إفلاسَهم، واعتادوا مذاقَ بقايا الطعامِ الموزعةِ فوق الأرصفةِ وبين الشَجَر. وهكذا، تمددتِ الخرافُ والأبقارُ في الحقولِ تستَمتِعُ بالكَسَل، وراحَ المدافِعونَ عَنْ حُقوقِ الحَيْوانِ، يَحتَفِلونَ بِنصرِ الطَبيعَةِ ومَوتِ البَشَر.
اعتلتِ الدهشة الشجر، غيرَ مصدقين روايةَ البشر. ثمة بشرٌ آخرون، في بقاعٍ أخرى من العالم، قد تَسَلّموا الزمامَ في بلادِهم، وها هم يعيشون في بحبوحةٍ ونعيمٍ، من دون هَمٍّ ونَكَد.
- أيُعقلُ أن يَحدُثَ هذا لَكُمْ مِنْ دونِ سبب؟ وما علاقةُ ذلك باختفاءِ وجوهِكُم والأمَل؟
- ربما بقي من وجوهِنا القليل، وربما أنَّها انمحتْ وتَبَدَلَتْ، لكنّ ذلكَ ليسَ بَسببِ تزاوجِ صينيٍّ من بِكين مع سوريّةٍ من شارعِ الأمين، بل بفعلِ الصواريخِ، وإحداثياتِ القتلِ والتهجير. لذلك، الوجوهُ كُلها تنظُرُ في خطٍّ مُستَقيم، متململةً، تقفُ في طابورٍ عظيم.
العالمَ كُله سَئِم من جهلِكُم وغبائِكُم، ولم يَعُد أحدٌ يَكتَرِثُ لأوجاعِكُم. لا نريدُ منكم أن تُشفِقوا علينا، السماءُ صديقتُنا ستعيدُ لنا ألواننا وخُضرتنا، نحنُ لسنا بحاجة إليكم. اتركونا وشأننا
- ((إنها الحربُ إذًا)). يُبدي الشجرُ قليلًا من التفهمِ لحالِ البشر، تهتزُ الأغصانُ الخشبيةُ الخاليةُ من الفروع الخضراء دلالة على تعاطفها معهم. بعد لحظاتٍ، تعاود الأشجارُ أسئِلَتَها بِنَبرَةٍ قاسية، لا تخلو من العتب. ((ألم تسمَعوا، أيها البشر، بمسيرةِ الملحِ لغاندي؟ وكيف مشى برفقةِ مَن معه مِن الهنود مدة أربعةٍ وعشرين يومًا، قطعوا في اليوم الواحد مسافة عشرة أميالٍ، احتجاجًا على احتكار البريطانيين للملح الهندي. خلال المسير، انضمَ إليهم ملايين الهنود، وشكّلوا عصيانا لاعنفيًا، وتمكّنوا، على الرغم من الاضطهاد الذي مورس ضدهم، من إنتاج الملح واستثماره، وتخلصوا من الضريبةِ التي كانوا يدفَعونها)).
- أجل، لقد استمدّوا فكرَتَهم من مبادئِ الاحتجاجِ السلمية ((ساتياغراها))، وهي تعني قوة الحقيقة.
- حقيقة الأمر أننا لم نسمع بمثلِ هذه المبادئ.
- هذا يدلُ على أنكم لا تقرؤون الكتبَ، ولا تستفيدون من تجاربِ غيركم من الأمم. والأكثر من ذلك أنّكُم تَهدرونَ وقتَكُم وطاقَتَكم بالهَرْجِ والمرْجِ، وتتقاذَفونَ فيما بينَكُم عباراتِ التشتتِ والتَفرقةِ، وتعيّرون بعضكم بعضًا بانتماءاتِكم وهوياتِكم المُختلفة، وهي أجملُ ما فيكم.
يكتفي البشرُ بالصمتِ، كأن في ذلك علامةُ رضا وقَبول، أو ربما عجزٌ عن الرد. ليس ممكنًا في لحظةِ كهذه، أن تتوضحَ حقيقةُ مشاعرهم. أيشعرون بالخَجَلِ من أنفسُهم؟ هل هم نادمون لأنهم نَسَوا قضيَتَهُم الكُبرى، وانشغلوا بسُبُل التفرقة؟ كُلُّ ذلك ممكن. وممكنٌ أيضًا أنّهم لا يشعرون بأيٍّ من هذا.
يتقدم واحدٌ منهم ليقولَ كلمةً أخيرة. ربما تفيدُ في إقناعِ الشجر أنَّ الخرابَ الذي حلّ بها، ليس بسبب ما فعلوه هم فقط. يبدو أن هناك متسببون كُثُر.
- لقد قُلنا في البدايةِ إنهم هم المسؤولون، ليسَ عن الحرائِقِ فقط، بَل عن كُلِّ شيء.
- نعرفُ ذلك جيدًا، لكن هذا لا يعفيكم من المسؤولية. أنتم إلى الآن لم تتعلموا شيئًا من الأخطاء التي ارتكبتموها، وكانت سببًا فيما أنتم عليه الآن.
- ((كيف ذلك؟)) يسأل البشر مُطالبينَ بمزيدٍ من التوضيح.
- أيُعقل أن يشمَتَ بعضٌ منكم بحريقِ الشجر؟ أيُعقلُ أن تَنسُبوا طبيعةً ربانيةً إلى طائفةٍ دينيةٍ بسبب حضورِها الأكبرِ في أماكنِ الحريق؟ هل للأشجارِ طوائفُ ومِلَل؟ هل تسألونَ الشجرةَ قبل قطعِها عن طائِفَتِها وانتماءاتها، فإن وافقتْكُم قطعتُموها، وإن خالَفَتْكُم بَحَثتُم عَن غَيرِها؟ هل كُنتُم تسألونها عن إيمانها بهذا النبي أو ذاك، قبل أن تجعلوها مَسكَنًا لَكُم بدلًا من بيوتِكُم المُهدمة؟ أتعرفون...
يحاولُ البشرُ مقاطعةَ الأشجارِ، والدفاع عن أنفسهم.
- لماذا كُل هذا التجني علينا؟ لماذا...
ترفض الأشجار الإصغاء إلى حُجَجِهم، وتعاودُ الكلامَ بنبرةِ تقريعٍ قاسية.
- أتعرفون ماذا؟ لقد مَللنا منَ الحديثِ مَعَكُم، حتى أنَّ العالمَ كُله سَئِم من جهلِكُم وغبائِكُم، ولم يَعُد أحدٌ يَكتَرِثُ لأوجاعِكُم. لا نريدُ منكم أن تُشفِقوا علينا، السماءُ صديقتُنا ستعيدُ لنا ألواننا وخُضرتنا، نحنُ لسنا بحاجة إليكم. اتركونا وشأننا. اذهبوا وتدبروا أمركم، وإن لم تفعلوا، عليكم بما قُلناه سابقًا: ((موتوا، ربما بالموتِ يكونُ لكم غدٌ أفضل)).
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...