فيروز في عيدها الخامس والثمانين: تجديد التكريس
عباس بيضون
2020-12-05
-
بلوغ فيروز الخامسة والثمانين في الواحد والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري كان مناسبةً ليتوقّف الجميع عندها. ليس ميلاد فيروز ولا عمرُها استوقفا هؤلاء. فيروز ليست من اللواتي يشاركن الآخرين في مناسبة كهذه، ولم يسبق أن احتُفل جماهيرياً بـ يوم ميلادها. هذه أمور خاصّة تبقى داخل جدران البيت، وليس معلوماً أنه مفتوح لكل مناسبة. المعروف أنّ فيروز تُغلق على مناسباتها الخاصّة وعلى حياتها الشخصية بكاملها، لذا يبدو أنّ الاحتفال ببلوغها الخامسة والثمانين يكسر هذا الحجر.
فوجئنا نحن الذين لا نعرف الموعد بهذا الاحتفال، لكننا فهمنا أنه، في هذا الوقت، نوع من التكريس. إنه؛ ليس عادياً فهو كسر للعادة، آن الوقت لنتعامل مع فيروز كمناسبة دائمة، أن تكون، باعتراف الجميع وإعلانهم، إرثاً وطنياً وقومياً، أن تدخل من الآن في التراث وفي المتحف، وأن يُحتفَل بها كجزء من الثروة الفنية اللبنانية والعربية.
ليست فيروز بالطبع نجمةً لبنانية فحسب، إنها، فضلاً عن ذلك إنجاز عربي. إذا أحصينا ماذا جرى في الحقل الموسيقي والغنائي فإن فيروز، من داخل الحركة الرحبانية وفي صدارتها، هي من الأهم في هذا الحقل، بل قد تكون، من زاوية نظر ما، الأهم بإطلاق. إن مكانها فيها هو مكان الحركة الرحبانية التي ضمّتها إلى الأخوين رحباني وكبيرهما عاصي. قد تكون الحركة الرحبانية فريدة في مجالها، بل هي، بمقياس ما، الأكثر فرادة في وقتها. لا يمكننا فقط أن نرد الأغنية الفيروزية إلى صوتها وحده، فالأرجح أنّ هذا الصوت، على النحو الذي وصل إلينا، هو أيضاً من خلق الحركة الرحبانية، ومن إنجازها.
هذا الصوت لم يكن غناءً فحسب، كما وصل إلينا الغناء وكما نسجنا عليه، بل هو ابتكارٌ اشترك فيه المغنّي والموسيقي والشاعر، ثلاثتهم في تبادُل وتناظُر فريدَين. كانت الكلمات تخلق الموسيقى والموسيقى تخلق الأداء، والثلاثة يصنعون في وقت واحد عملاً فريداً وخاصاً وجديداً ومتكاملاً. فأنت حين تسمع ترى الكلمات من خلال الصوت والموسيقى. لم يكن هذا التآلف وحده البارز، الأرجح أنّ الأهم من ذلك كلّه هو النقلة التي تمثّلها الأغنية. النقلة التي هي أيضاً في الكلمات وفي الموسيقى وفي الأداء. يمكننا في هذا المجال أن نتكلّم عن عالم، عالم تحويل الأغنية الفيروزية بمكوّناتها الثلاثة. هذا العالم فريد ومختلف وجديد إذا قارنّاه، على نحو ما، بذلك الذي تحويه الأغنية العربية. حتى حين كانت هذه الأغنية، في أفضل نماذجها، نوعاً من التجويد والترجيع.
آن أن نتعامل مع فيروز كمناسبة دائمة، كإرث وطني وقومي
كان الأداء، أي الغناء نفسُه، يملك لعبته الخاصّة التي تتفنّن وتتلوّن، في نوع من أوبرالية خاصة، محوّلةً الكلام إلى خدمتها، طاغيةً بذلك عليه مرتفعةً فوقه، بحيث تغدو الأغنية هي في النهاية ذلك التلوين والترجيع. هذا بالطبع تراث يُعتد به، وله، بطبيعة الحال ميزاته وتراثه. لكنه يبقى، مع ذلك تراثاً.
الحركة الرحبانية لم تتزامن بالصدفة مع حركة تحديث واسعة، كان الشعر عالمها الأساسي. لم توجد بالصدفة مع سعيد عقل وميشال طراد ومن بعدهما الشعر الحديث. قد يُقال إنَّ الموسيقى الرحبانية تأثّرت بالموسيقى والأغنية الغربيّتين، لكن هذا كان شأن التحديث بكامله. لا يمكنك أن تفصل حركة الشعر الحديث عن القراءات والترجمات للشعر الفرنسي والإنكليزي والأميركي. لا يمكن بالطبع أن تعزل الرواية العربية عن مراجعها الأجنبية وعن الروائيين الغربيّين. يمكننا لذلك أن نفهم هكذا ما نجده في الموسيقى الرحبانية من أثر غربي.
هكذا، ليست الحركة الرحبانية مجرّد تجديد في الغناء والموسيقى. إنها في أساس حركة التحديث، التي كانت هكذا في وقتها. حركة التحديث هذه لم تكن مجرّد تغيير في الأشكال والقوالب، لقد كانت أيضاً تجديداً في العوالم والمفردات والموضوعات. يمكن لذلك أن نعطي اعتباراً كبيراً للكلمات في الأغنية الرحبانية، بل يمكن أن نوازي بين هذه الكلمات وما تحمله من صوَر وانطباعات، وبين الأداء الغنائي والموسيقى التي يحملها هذا الأداء بالتجاور مع الموسيقى المصاحبة نفسها.
الغناء الفيروزي يُفرج عن الكلمات ويحرّرها من طغيان التجويد والترجيع والتلوين عليها. إنها موجودة بالموازاة مع الأداء، بل هي، كما يبدو أحياناً التي تفترض الأداء أو تستدعيه. الأداء هنا يُطلق الكلام ويردّ له أبعاده، أو يخلق له أبعاداً. الغناء الفيروزي يتوازى مع العالم الذي تنقله إليه الكلمات. إنه عالم يعد بشعرية تشمل كل مفرداته وتضيئها. الحب، الحنين، الذكريات، هذه في الأغنية الفيروزية حاضرة وشبه ملموسة وموجودة في القرارة وفي العمق في التضاعيف. إنها قائمة كتفاصيل من الحياة، لكن أيضاً كتكثيف ودمغ للحظات، لحظات وليست مجرّد خطاب عام، لحظات يمكن أن يكون لها واقع، بل هي ذات واقع أو ما بعد الواقع، ذات إمكان يفيض به الصوت والموسيقى التي فيه والتي تصاحبه.
* شاعر وروائي من لبنان