نوري الجراح.. القصيدة السورية المعلّقة
محمد الأسعد
2020-12-05
يستكشف الناقد مفيد نجم في كتابه "القصيدة المعلَّقة في شعر نوري الجرّاح" (المتوسط، 2018)، واحدة من تجارب الحداثة الشعرية اللافتة للنظر، أو للدقة، زهرة من الزهرات الشعرية النادرة التي لا يلتفت إليها النقد السائد بسبب أزمته، وربما أيضاً لتركيز هذه التجربة على النثر وسيطاً شعرياً طوال أكثر من ثلاثين عاماً، وتجنب الوسيطين الشائعين؛ قصيدة الشطرين التقليدية، وقصيدة التفعيلة الخارجة من معطفها.
وحسناً فعل الناقد في تكريسه لستة فصول من كتابه للسمات الأسلوبية في قصائد الشاعر، وكرّس الفصول الثلاثة الباقية لمضامين القصائد، لأن القيم الأسلوبية هي الكاشفة عن "شعرية" النص باعتباره معماراً، لا المضامين أو الموضوعات سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو تاريخية أو أسطورية. وفق هذا المنحى، وفي فصلين متواليين، نجد تحليلا لدلالة ما سماها "استراتيجية العنونة".
والعنوان كعتبة هو أحد المصاحبات النصية أو النصوص الموازية وليس كلها، مثل الملحقات والتنبيهات والتمهيد والحواشي والهوامش السفلية والتصديرات والرسوم، وحتى الإعلان عما سيصدر من كتابات المؤلف.. إلخ. وتظل هذه المصاحبات متعلّقة بالنص، أو جزءاً من بنيته، على الصعيد الجمالي والفكري. وهذا الأمر الأخير هو ما تناوله الناقد، وشدّد عليه في تفصيله المطول لاستراتيجية العنونة، وإيضاح تطورها لدى الشاعر وعنايته بها، و"ارتباطها ببنية النص الكلية دلالياً ولغوياً".
" تتعقد التجربة الكتابية وتتضاعف خطورة المغامرة الشعرية"
ولكن الناقد، بإعطائه أهمية كبرى للعنونة، يكاد يجعلها أحد شروط الشعرية، فماذا لو واجهنا تجارب شعرية لا يعتني أصحابها، وهم موجودون في الوسط الشعري، بالعنوان كمصاحب أو موازٍ لنصوصهم؟ هل سيعد هذا نقضاً لمبدأ شعرية النص؟ إن أشهر أشكال الشعر الياباني، الهايكو، لا تحمل عناوين على الإطلاق، فما هو حكمها؟
الفصول التي تتناول السمات الأسلوبية الأخرى، مثل التناص، والانزياح، والتكرار، والعالم الاستعاري، وتمظهرها في النص الشعري، ودلالاتها أو أثرها في التكوين الجمالي، هي الفصول الأكثر أهمية، والأوضح في إبراز جماليات هذه التجربة الشعرية المتميزة. صحيح هي سمات حداثية واضحة في قصائد الجرّاح، كما يبيّن الناقد ويجتهد في متابعتها، إلا أن أشهر من درسها (وهو أحد مصادر الناقد) هو الفرنسي جو كاوين (1919 - 1994)، الذي نشرت كتابه "بنية اللغة الشعرية" دار فلاماريون الباريسية في عام 1966، أي قبل نصف قرن تقريباً، فهل يصح أن نسمي خاصية "الانزياح"، الذي هو حسب الناقد "تحرير اللغة من مرجعيتها"، سمة أساسية من سمات ما سماها "اللغة الشعرية الجديدة"، ونحن نعرف أن نقاداً تناولوها بدءاً من منتصف القرن العشرين فصاعداً، من أمثال الألماني ليو سبيرز (1887 - 1960)، وجيرار جينيت (1930 - 2018)، صاحب كتاب "عتبات" (1978)، ولاحقها عدد من الشعراء والنقاد العرب منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، تارة تحت اسم "تفجير اللغة" وتارة تحت اسم "تحديث اللغة"، وعنت في ما عنته فصل الدال عن المدلول بتغييب المرجع، وتحويل القصيدة إلى بنية لغوية تتحدث عن ذاتها ومع ذاتها. معنى هذا أن هذه السمات ليست جديدة، حتى بالنسبة للشاعر الجرّاح، فهي أشد وضوحاً في أعماله منذ ثمانينيات القرن الماضي كما سنرى بعد قليل.
في الفصول المتبقية تحت عناوين "المكان الدمشقي: الرمز والأيقونة" و"شعرية القيامة السورية" و"شعرية المنفى"، ينتقل الناقد من تحليل السمات الأسلوبية إلى ما يشبه استكشاف ملامحها في مضامين القصائد. ومع أنه يرى أن الشاعر رغم انفعاله بالأحداث السياسية والاجتماعية والحربية في سورية، أو "الانتفاضة العظيمة للسوريين"، حسب تعبير الناقد: "استطاع أن يتخلّص من لغة الانفعال المباشر في التعبير عنها، عندما حاول أن يرتقي بها لغة ودلالة ومجازاً في إطار بناء ملحمي للقصيدة"، إلا أنه يحاول منذ سطور كتابه الأولى، وحتى السطور الأخيرة، أن يقرن فضاء القصائد التخييلي والجمالي الثري بالدلالات بهذه الأحداث كما يراها هو، ومن منظوره، فيختزل بذلك الفضاء الشعري الذي نعتقد - حتى في ضوء قراءة ما اقتطفه الناقد من القصائد - أنه يتجاوز الحدث إلى آفاق إنسانية أوسع وأعمق. ومن جانب آخر، نجد أن الشاعر ذاته يحرّر قصيدته من هذا الاختزال وما يجري مجراه، حيث يقول: "الكتابة ممارسة لاعلاقة لها بالزمن، إن لها زمناً خاصاً، والقصيدة قد أكتبها ولا أنشرها إلا بعد سنوات، أو قد أنشرها في وقت غير بعيد" (حديث خلال معرض الكتاب الدولي، الدار البيضاء، الدورة الحادية والعشرين، 13/ 22 فبراير/ شباط 2015).
بالإضافة إلى هذا، يرى الناقد أن أحداثاً من هذه النوع، وحسب رؤيته لها، شكلت "نقطة هامة وأساسية في تجربة الشاعر من خلال عوامل التحفيز المعنوية والفكرية التي جعلته يدفع بقصيدته من حيث اللغة والتشكيل وأدوات التعبير إلى طور آخر من الكتابة". بينما يشير التتبع الدقيق لمسار الشاعر إلى أن التحوّل الأساسي في تجربته سبق ذلك بسنوات طويلة، فبعد كتابه الأول "الصبي" (1982)، جاءت مجموعته الشعرية المهمة "مجاراة الصوت" (1988)، وفيها ودّع، كما تقول "عتبة" النص التي تصدرت هذه المجموعة، "عالمه الأول المفتوح على إشراقات الفضاء الخارجي، ليخوض في عالم أشد كثافة وأكثر تنوّعاً.. حيث تتعقد التجربة الكتابية وتتضاعف خطورة المغامرة الشعرية، ويمتنع النص عن منح مكنوناته من خلال منظور واحد للقراءة". أي أن تناص قصيدته مع كلمة "معلَّقة"، نسبة للمعلّقات الشهيرة، الذي استخدمه الناقد، كان قد حدث فعلا في الماضي مع أن لا أحد سجّله أو أشار إليه.
" يحلل الناقد السمات الأسلوبية ثم ينتقل لاستكشاف ملامحها"
ويمكن أن نلحظ متابعة لهذا التحول والخوض وتعدد دلالات النص أو تشظيه في قصائد "طريق دمشق" و"الحديقة الفارسية" (2004)، وهذا التحوّل هو بالتحديد ما يكتشفه الناقد مفيد نجم متأخراً.
ولعل في ما ذكره الشاعر الناقد عابد إسماعيل تفصيلاً أكثر دقة عن هذا التحوّل الجوهري في تجربة أي شاعر، والذي ينسب نقدياً إلى قوانين الفعالية الشعرية وتطورها لا إلى أي تعالق لها بأي ظواهر خارجية عابرة. يقول إسماعيل: "تعكس قصيدة الشاعر نوري الجرّاح تاريخاً مصوراً لتطور القصيدة الجديدة في سورية التي نهضت على أنقاض حساسية جيل الرواد الكلاسيكية، منتقلة من ضفة إلى أخرى، التي تمثلت في طورين جماليين رئيسيين، عبرت عنهما شفوية الماغوط الرومانطيقية، وبلاغة أدونيس الميتافيزيقية، لكن تلك القصيدة سرعان ما أعلنت عصياناً مبكراً على نفسها، وعلى هاتين المرجعيتين تحديداً.. لتنحو القصيدة في اتجاه آخر تجلّى في صراع محتدم بين نمطين شعريين يمثلان امتداداً للنموذجين السابقين، أحدهما يمجّد جماليات قصيدة الرؤيا، ويدور في فلك البلاغة الكلاسيكية، وآخر يحتفل بالمرئيات، ويستعيد جماليات السرد الشعري، عبر لملمة المهمل والمنسي في التجربة الشخصية (الحياة، 1 يونيو/ حزيران 2008).
ثم.. في أي مدار زمني/ مكاني يمكن لأي قارئ حسّاس أو ناقد بريء من فرض ما يراه على الشعر والشاعر، أن يضع هذه التنويمة الآسية:
"نم يا حبيبي
[...]
نم في خيال الحور، في ساقية البستان
ونم في فضّة القمر
نم في المطر
نم في هُيام الظِّل، خلفَ البابِ
نم في أسى الوديان
نم في القمح
محترقاً
ونم في فضة النوم
نم.. يا حبيبي.. نم
نم في حديث الجن، في كهف الحكاية
في كلام النهر للتُّفاح
ونم
في خمرة الرمّانْ"؟
________________________________
من 1982 إلى 2018
بتفحص عناوين مجموعاته وسنوات صدورها، نتلمس غزارة واستمرارية تجربة نوري الجرّاح الشعرية: "الصبي" 1982، "مجاراة الصوت" 1988، "نشيد صوت" 1990، "طفولة موت" 1992، "كأس سوداء" 1993، "القصيدة والقصيدة في المرآة" 1995، "صعود أبريل" 1996، "حدائق هاملت" 2003، "طريق دمشق" و"الحديقة الفارسية" 2004، "يوم قابيل" 2013، "يأس نوح" 2014، "مراثي هابيل" 2015، "مرثيات أربع" 2016، "قارب إلى لسبوس" 2016، "نهر على صليب" 2018.