“القصة الشاعرة” جنسٌ أدبي جديد؟
أحمد مصطفى الغر
2020-12-12
جنس إبداعي جديد، يجمع بين تقنيات الشعر والقصة معًا، ليشكل ما يُعرف بـ “القصة الشاعرة“، وهي ليست القصة الشعرية التي وردت منذ معلقات العصر الجاهلي، وليست بالضرورة حاملة لكل عناصر الحبكة القصصية المعروفة. هناك من يرى أنها مجرد سحابة صيف سرعان ما ستزول، فيما يشهد لها آخرون أنها قد أثبتت وجودها، وصار لها كتّابها وقراؤها على نطاق لا يُستهان به، فيما يشتكي آخرون من غياب النظريات النقدية التي تتناولها بالرصد وتواكبها بالبحث والتحليل، فهل هي ابنة الشعر والسرد معًا؟ وهل هي المقابل الأدبي لقصيدة النثر؟!
بدايةً، علينا أن نؤكد أن الجنس الأدبي يتحدد بتوليفة من الخصائص والسمات المعيارية التي يختلف باجتماعها فيه عن غيره من أجناس قد تحمل بعض تلك السمات، لكنها لا تجتمع فيها، وبذلك فإن الخرق في سمات جنس ما بتحوير في بعض خصائصه الجوهرية، أو باستعارة خصائص أجناس أخرى، يؤدي إلى ولادة فن أدبي جديد، قد يحقق قبولًا لدى المتلقي. والقصة الشاعرة مولودة عن مزاوجة بعض الخصائص الجوهرية لجنسي قصيدة التفعيلة، والقصة القصيرة والقصيرة جدًا، إضافة إلى بعض الخصائص ما بعد الحداثية وما بعدها، كالرمزية، والدوال متعددة الدلالات، والتكثيف، واستيعاب أدوات العرض الرقمي.. وقد أثبتت دراستها وتطبيق قوانين التجنيس عليها، استقلالها كجنس أدبي، واستحقاقها موقعًا خاصًا بها على خريطة الأجناس الأدبية، لكنها في الوقت نفسه -وإن كانت وليدة تلك الأجناس السالف ذكرها- تختلف عن القصة الشعرية أو الشاعرية والشعر القصصي أو القصيدة القصة، كما أنها تختلف عن قصيدة النثر كذلك، فهناك فروق كبيرة، كما أن هناك متشابهات لا تعني إلغاء الفروق المميزة لكل جنس أدبي، والقصة الشاعرة لا يكتبها إلا “شاعر قاص” متمكن.
وقد تناولت بعض مؤتمرات القصة الشاعرة خصائصها ومميزاتها والفروق بينها والأجناس الأدبية الأخرى القريبة منها، مع تناول الجهود المبذولة لاعتماد البنية الفنية للقصة الشاعرة، وتدويلها، ودور النقد البناء وأثر الحداثة وما بعد بعد الحداثة فيها، وإمكانية تضافر الجهود لتوكيد الحضور العربي الفاعل في المشهد الأدبي العالمي.
والقصة الشاعرة لها ظروفها الحضارية والنفسية، فمع رغبة المبدع في الانحياز إلى التحديث، قد يحتاج إلى قصّ إيقاعي، وفق نظام التفعيلة والتدوين العروضي والقصصي، وهي مُؤسسة على التكثيف والرمز والمرجعيات الثقافية؛ إذ تتشكل فيها الأحداث بطريقة فنية معقدة تجمع بين التداخل والتشابك، فلا تخضع لترتيب زمني، أو منطق تنامي الأحداث وتراكمها، بقدر ما تتواتر مفككة، والبناء يقوم على امتداد النفس المتصل بالحدث، مما يساعد على تدفق النص كتلة واحدة، تتمرد على الشكل الهرمي التقليدي، بأحداث محتشدة وعاطفة مشحونة تتميز بخروق عمودي القص والشعر، مع التفعيلة الخليلية، لإنتاج نص سائل ومتحرر، مركب وبنيوي، أصيل وما بعد حداثي.
هناك قول مأثور يقول: “لا يبني العالمَ إلا المنحازون”، وأظن أن الأدباء المنحازين إلى التجديد هم أصحاب الفضل في كل جديد، في الشعر كما في القص والرواية وغيرها من فنون الأدب، لكن أصحاب ومناصري التقليدية والانغلاق يتصدون دومًا للفكر الإنساني غالبًا، ولكل جديد، بالرفض الاستباقي قبل معرفته، والقصة الشاعرة -بوصفها ثورة في الشكل التعبيري وجنسًا أدبيًا جديدًا- تواجه من التقليديين ما واجه غيرها في انطلاقته الأولى، لكن غالب ظنّي أن هذا الرفض الاستباقي لن يُوقِف يومًا مسيرة القافلة، ولا نجح مرة في وأد الجديد ومنع وجوده واستمراره. والقصة الشاعرة يتبنى ريادتها الآن بعض الشعراء العرب، على رأسهم الشاعر المصري محمد الشحات محمد، والشاعرة الأردنية د. ربيحة الرفاعي، وللشاعر الراحل فاروق شوشة، وقد قام بهذه التجربة في إطار سرد قصصي موزون، استدعى فيه علاقاته مع الآخرين، ولكنه لم يسم ما كتبه “قصة شاعرة”. فالعلاقة بين السردية والشعر العربي علاقة قديمة قِدم الشعر العربي، وإن لم تقع في دائرة الضوء النقدي إلا في الآونة الأخيرة، على سبيل المثال نجد ذلك عند صلاح عبد الصبور، في “الناس في بلادي”، وأحمد عبد المعطي حجازي، في “مدينة بلا قلب”.
تاريخ نظرية الأدب يعترف بخلق أجناس أدبية من رحم غيرها حينًا، وباستقلالها حينًا آخر، لكن هل القصة الشاعرة هي المقابل الأدبي لقصيدة النثر؟! غالب الظن أن هذا غير صحيح؛ إذ تقوم الأخيرة على تعرية القصيدة من موسيقاها، بينما تأتي القصة الشاعرة لتصب موسيقى التفعيلة الخليلية في السرد القصي، وبينما يزعم البعض أن الضوابط الموسيقية في الشعر تقيد الشاعر، وتحد من أفق انطلاقه تصويرًا وترميزًا، تقف القصة الشاعرة لتقول إن شعرنا العربي واسع المدى، حمّال للرمز والصورة الشعرية والجماليات الحداثية التي يتغنون بها، قادر على مواكبة التغيير في البناء الفوقي للإنسانية، حتى حين ينثال في سردية قصية، وهي مناسبة كاستجابة لمطلب العصر الحاضر الذي تتسم معظم أعماله بالسرعة والشمولية في معالجة الأمور، وتقدم مفاهيم جديدة عن الموسيقى النصية، وعن الروح العامة المتحدة للنص بإشاعتها مفاهيم التدويرين العروضي والموضوعي في النص السردي، وهى تملك في خزانتها وفرة من النصوص الإبداعية التي قصد بها أصحابها إغناء رصيدها، وتملك من المتحمسين لها مبدعين مؤمنين بقضيتها، وتملك رصيدًا من المحاولات النقدية المتابعة، وتسعى لتحرير مفهومها والعكوف على فحص خصائصها الجمالية، وهذا كله يمنحها شرعية الميلاد جنسًا تحتاج إليه النفس الإنسانية لتعبر من خلاله عن كثير من شواغلها.
ختامًا؛ يمكننا القول إن القصة الشاعرة نجحت في إثبات أن للشعر حياة في السرد، كما أن له حياة في الغنائية والوصف، ومع تطور الأشكال الشعرية العربية من داخل الشعر عبر تاريخه؛ تفردت أشكال تكاد تكون جنسًا أدبيًا مستقلًا، كالمسمطات والرباعيات والموشحات، حتى غدا الإيقاع قابلًا للتطور اللهجي فكانت الأزجال، أما القصة الشاعرة ؛ فإنها ومضة تجمع بين جلال الكلمة الشاعرة، وتناغم الإيقاع في الحكاية السردية، القصة الشاعرة هي ابنة شرعية للشعر والسرد معًا، وهي -على الرغم من دلالها- لا تغني عن الرواية أو القصة القصيرة أو القصة القصيرة جدًا، كما لا تغني عن الشعر الحر أو قصيدة النثر، إنها مثال للتوالد الذاتي من رحم روح الشعر وموضوعاته الأثيرة؛ فما من متذوق للشعر إلا هو يتلهف على القصة داخل الشعر؛ إنها صورة مزيجها الكلمة والجملة والإيقاع والخيال وجلال التلقي، يتحقق فيها تعريف الناقد الإنجليزي سيسل دي لويس: “رسم قوامه الكلمات المشحونة بالعاطفة”، كل قصة مشحونة بعاطفة ما، فما بالنا بقصة في بناء شعري، وليس البناء هنا في هيئته العامة، بقدر ما هو بناء حي له جذور وسوق وأغصان، وثمرته وردة يانعة بالحرف والنغم والحكاية.