جميع اللاجئين يخترقهم سيف هذه المأساة: الأرق. بعضهم ينام في النهار، ويمضي الليل كله صاحياً، وبعضهم الآخر، يلجأ للحل المتاح: حبوب المنوم الصناعي، أو المخدرات.
وقلة منهم، لم يتغير روتينها الطبيعي، فقط لأنهم يكدحون في المزارع، وما إن يصلوا حدود الساعة التاسعة مساء، حتى يتلبسهم نومُ القتلى، لكي يستيقظوا في الفجر، ويسرحوا لعملهم الشاق.
جميع اللاجئين، يعانون من اختراق سيف ثان، هو مُسبب أرقهم وقلقهم: الانتظار الطويل المرير.
انتظار أن يقرر مصيرك، موظف مجهول، فإما الرفض، وتجربة جحيم الشارع، أو القبول ـ وهو نادر ـ فترتاح أخيراً من وطأة عامَي انتظار أو ثلاثة، وتنام قابضاً على طيف أمل عزيز، يبدو أخيراً وكأنما صار حقيقة ممسوكة في اليد، ولحظتئذ تبتسم ابتسامة "عالمثالثية"، صعبٌ الفوز بها، وتبتكر لنفسك أحلاماً شديدة السخاء، حتى يمر عنك الواقع القادم، ويطامن جميعَ شواشيها، حدَّ أن تقتنع أخيراً، باللقمة والسقف، جزاءَ سنوات وسنوات من آمال غريرة.
ومع الوقت تعرف: الحياة هنا سِجِلّ للأذى كث الصفحات ـ لكنه سجل أقل سوءاً من سجل حياتك في بلدك.
فلا يوتوبيا بالحد الأدنى مع سيستيم رأسمالي. ولا نشيد صبوة، إلا ويعتوره التخريب.
جميع اللاجئين يعرفون، بعد وقت ولأي، أنهم واقعون كالصيد السهل في الشبكة الحرجة.
وجميعهم يكتشفون، بعد وقت ولأي، أن اكتشافهم للمنفى، هو اكتشاف الأماكن المهجورة التي لا تخفي أبداً تلك القصص الرائعة والعيش السحري الذي ظنوه.
■ ■ ■
جاء وزير الهجرة الجديد، من أصل عراقي، فزاد طينة اللاجئين بلّةً.
لم يتفاءل به أحد منهم، كونَ والدهُ كان لاجئاً. قالوا سيكون أسوأ من الوزيرة السابقة ماغي، وأنا، كنتُ ظننت أنه يساري، فعارضتُهم جميعاً وقلت: لا تقرأوا ملامح وجهه، بل كتاب حزبه. آنا
كيف يمكن أن يحدّق المرء في بياضك سنوات ولا يصرخ؟
والآن فقط عرفتُ أنه ينتمي لحزب مسيحي (يمين وسط)، وأنه منذ أوّل يوم له في الوزارة، بدأ ينكّل باللاجئين، ويبني لهم مخيّمات مغلقةً، توطئةً لترحيلهم إمّا إلى بلادهم الأصلية، أو إلى بلد الدخول الأول.
وهو نفسه صرّحَ فقال إنه سيكون صارماً لكن مع مزيد من الإنسانية! فهل يجتمع النقيضان؟ سامي مهدي، خسارة فيك اسمك، الذي هو اسم لشاعر إنساني نبيل، من بني ربعك. لقد بنينا عليك آمالاً، وها هي بسرعة تخيب. وها أنت تحوّل حياة جميع اللاجئين، إلى بؤس، إنما بدون اختصارات.
■ ■ ■
نُفكّر في الفظائع التي بلوناها وما نزال، ونسكت. في العراء الشديد لأعصابنا، ونسكت. في الذين يضطرّون للهجرة أملاً في حياة آمنة، ونسكت. في أشكال الفقر المسيئة لكرامة كل شخص، ونسكت. في عدالة الرب التي تُشبه عدالة الحكومات، ونسكت. في أغنى 500 وحش، يبدأون عام 2021 وهُم أكثر ثراءً من أي وقت، ونسكت. لقد حقّقوا معًا 2.1 تريليون دولار زيادة، ليصل إجمالي ثرواتهم إلى 5.9 تريليونات دولار، ونسكت. نسكت، حتّى لا يُتبَيَّن ليلٌ من نهار. حتى لا يُميَّز حمارٌ وحشي عن آخر، ولا روائيٌّ عن شاعر، ولا يُعرف شرقٌ من غرب، حتى نجد أنفسنا في أنبوب أو بَلَم أو علبة، في مكان ما من قارّة تعبد السنت. قارّة أسعار أسّست كل مصائب العالم القديم والحديث. يا جدران مخيّمات اللاجئين، أنتِ، يا جدران اللامبالاة. كيف يمكن أن يحدّق المرء في بياضك سنوات ولا يصرخ؟ ثم، من أين لنا براوٍ كلّي العلم، كي نكتب صراخنا؟ لقد جاء الصراخ إلى فمنا عندما ـ للمرّة الأولى ـ رأينا هذا العالم. وبين وقت وآخر، يعودنا الصراخ، كي نبقى شهود مآسي الناس وهي تتوالد من خصية شيطان. نأمل ألّا نحتاج للصراخ، على فراش الموت، لكن من يضمن؟ نأمل ألّا نحتاج إلى الصراخ يومياً، لكن من يضمن؟ لقد حاولنا ألّا نصرخ، لكن خيالنا اليوم، غير سعيد. إلى ذلك، يتلبّسنا الحنين إلى قدامى الصارخين. إلى ما تمّت قراءته قبل ألفيّات وقراءته قبل نصف قرن، من صراخ. إلى 72 عاماً من ثاني أكسيد الصراخ، أو تلك الخسائر التي لا يمكن تعويضها أبداً، وأشياء من هذا القبيل.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...