(طفلة شانغهاي) روائية صينية ترش الملح على جرح الجسد
هيفاء عجيب
2006-04-07
قلما يتاح لنا متابعة حكاية شائقة مع أبطال يحملون أسماء ( تيان تيان – زوشا – آه ديك ... ) وتبدو الفرصة أقل إذا كانت واسطة تعارفنا اليهم شابة صغيرة تسمى ( كوكو ) , ففي رحلتها عبر اكتشاف ذاتها تأخذنا الكاتبة الصينية ( وي هيوي ) عبر شوارع مدينة شانغهاي. لنتواصل مع الأدب الصيني المجهول لأكثرنا . رواية ( شانغهاي بيبي ) نوع من السيرة الذاتية تعبر فيه الكاتبة عن تفتح يقظتها الروحية والجنسية كأنثى تعيش في وسط عائلي محافظ فهي ابنة ضابط وقد قضت ثلاثة أعوام من طفولتها في معبد احتله الجيش وشرد منه رهبانه خلال فترة الثورة الثقافية في الصين . وفي بداية نشاطها الأدبي قام الاعلام الرسمي بتنصيبها نجمة صاعدة لجيلها في هذا المجال , أما الآن فإنها أديبة محاربة اعلامياً في الصين على المستوى الرسمي وقد تم وصمها بأنها كاتبة منحلة منبوذة وعبدة للثقافة الأجنبية , وتعرضت رواية ( شانغهاي بيبي ) للمنع والمصادرة من قبل السلطات الصينية وتم احراق أربعين ألف نسخة علناً أمام الرأي العام .
وما بين السطر الأول الى السطر الأخير من الرواية يرصد القارىء التطور الداخلي للبطلة التي تعرف نفسها بداية بأن اسمها ( نيكي ) وأصدقاؤها يدعونها ( كوكو ) أسوة بكوكو شانيل مصممة الأزياء المعروفة باعتبارها قدوتها في الحياة بعد هنري ميلر , ثم نعرف أن الصحفية السابقة تعمل حالياً نادلة مقهى وتخطط لكتابة رواية حول شانغهاي على حافة القرن الجديد , هذه المدينة الأسيوية الخاصة التي تميزت منذ حقبة الثلاثينيات وحافظت على ثقافة حميمة تجمع بين الصين والغرب تتطور وتتمازج , وخصوصاً بعد دخول تلك الثقافة موجتها الثانية من التغريب . وفي أجواء المدينة التي تتصاعد منها فقاعات السعادة والتي يسودها جو من الفوقية بتأثير توالي الهيمنة الأجنبية عليها , تتفتح ادراكات الشابة التي تضج بالطاقة والحيوية وترى العالم فاكهة معطرة بانتظار أن تلتهم , فتقع في حب ( تيان تيان ) الرسام الهش الشخصية والانطوائي الذي تبدو له الحياة كعكة مدهونة بالسموم , ورغم التناقض بين الشخصيتين – أو بســبب هذا التناقض – ينمو بينهما حب صادق فتغادر بيت أبويها وتعيش معه , إلا أن عجزه عن التواصل معها جسدياً بسبب عقده النفســـــية وخصوصاً علاقتــــه المتوترة بأمه , يدفع بها الـــى أحضان ( مارك ) الشاب الألماني الذي يعمل في شركة استثمارات متعددة الجنسيات , ما يحرض تيان تيان على ادمان المخدرات . وسط الفوضى الداخلية التي يسببها هذا الوضع المعقد , إضافة الى تأثير الوسط الشبابي الصاخب الذي تعيش فيه والذي يمثل شريحة متناقضة وغريبة تجمع بين أرملة تعتزل عمل القوادة بعد ثرائها المفاجىء , وشباب جامعيون يتعلمون اللغات الأجنبية ويتسللون لتخريب برامج الكمبيوتر ,و محترفات دعارة صينيات متخصصات في السـوق العالمية , وما تصادفه في دائرة علاقاتها من مثليي الجنس والسحاقيات و المحتالين . وسط هذه الأجواء وفي الأوقات المستقطعة بين سهراتهم وحفلاتهم تحاول إمساك القلم والبدء بروايتها التي تصفها بأنها عبثية فوضوية اباحية كاشفة وممتلئة بالأفكار الميتافيزيقية والجنس النيء .
وهذا العالم التلقائي والمزعج هو ضروري من وجهة نظرها وتعجب لماذا لا يفهم والداها ضرورته بالنسبة اليها , فعندما يدفعها ولعها بالرجال المثقفين للوقوع بين يدي مهووس ديني وجنسي, مدعي وكاذب ومهرج مجنون بجمع المال يقوم عمله على سرقة أجزاء كثيرة من مقالات لكتاب آخرين وإعادة كتابتها في عمل ينشره باسمه , تعتبر أن هذه التجربة مذلة لها , إلا أنها ضرورية لروايتها ولحياتها . وموضوع حرب البلقان تفهمه عندما تنقلب حفلتها الماجنة الى ساحة عراك بسب سوء الفهم بين صديقهم الأمريكي ( جونسون ) وضيف الحفلة الشاب الصربي ويصبح العراك معرض آراء عامة , فالأرملة عشيقة جونسون تتهكم عندما يبدي إعجاباً علنياً بإحدى جميلات الحفلة قائلة : ( ما من مشكلة, إنك مواطن أمريكي حر في اختياره وله الحق في أن يغرم بمن يعجبه ) بينما يقول له الصربي : ( أنتم الأمريكيون مجرد التفكير فيكم يدفعني للمرض والغثيان , إنكم تدفعون أنوفكم وتحشرونها في شؤون وقضايا الجميع , إنكم بلا حياء أو خجل جشعون بما يتجاوز المنطق أنتم سوقيون أغبياء غير أنكم شديدو المباهاة والغرور ) وتلاحظ البطلة أنه من وجهة نظر أخلاقية كانت جميلات الحفلة يساندن الصربي ولكن من وجهة نظر جمالية كن متعاطفات مع الامريكي شبيه ليوناردو دي كابريو . ففي دائرة أصدقائها المشاغبين الغير منسجمين مع محيطهم ( البعض يدعوننا بالمنحلين وآخرون يرون بأننا زبالة , البعض كان يتوق للانضمام إلينا ويحالون تقليدنا بكل طريقة يستطيعونها من الملابس وتسريحات الشعر الى طريقة الكلام وممارسة الجنس ) واحتكاكها اليومي بهم تبدأ أسئلتها حول ذاتها وحول محيطها , وتصبح النزهة الى حديقة عامة مناسبة للشعور بالتهديد المباشر الذي يمسها وجيلها من شباب الصين في صميم كرامتهم ومكانتهم الذاتية , فالاصطدام مع السيدة الأمريكية التي تحاول منعهم من الجلوس في الحديقة المقابلة لمنزلها بدعوى أنهم يفسدون السلام والهدوء فيها تكن فرصة لتذكر الاشارة القديمة في شانغهاي بالفرنسية ( الصينيون والكلاب ممنوعون من الدخول ) وتدرك البطلة أن الوضع الاقتصادي للأجانب في بلدها يمنحهم احساساً بالأفضلية والفوقية وخصوصاً بعد تسارع هرولة الشركات والمؤسسات المالية المتعددة الجنسية الى شانغهاي ,وتبدأ بتقييم علاقتها بمارك ( أحياناً عندما أكون مع مارك أشعر عميقاً بالخجل والعار خوفاً من أن يظنون عن طريق الخطأ بأني امرأة رخيصة تلقي بشباكها على العشاق الأثرياء من الأجانب ذلك أنهن أي النساء قد يفعلن أي شيء مقابل الخروج من الصين ) . مقابل التقييمات السياسية لوالدها البروفيسور وتلامذته المهذبين الذين يجتمعون في الأمسيات ويناقشون الاخبار العالمية كما لو أنهم شخصياً في البيت الابيض أوالبلقان ويعرفون عن تطورات الأوضاع في العراق وكوسوفو مثلما يعرفون خطوط باطن أكفهم , ترى هي في القصف الأمريكي للقنصلية الصينية في يوغسلافيا وما تبعه من مظاهرات واحتجاجات شبحاً يهدد السلام والانسجام داخل دائرتها الخاصة , حيث ان والدة حبيبها مواطنة اسبانية, وعشيقها ألماني , إضافة الى عشاق وأصحاب صديقتهم ( مادونا ) من محبي اللذة من الأمريكيين البسطاء .
أجمل ما في الرواية أنها العالم الخاص والعفوي لشابة في الخامسة والعشرين من عمرها , لم تحاول ارتداء الثوب التقليدي للكاتب والمثقف ( ثوب الواعظ الوقور ) ,بل انها تعترف بصدق أن كلمة غزل قد تحرك المرأة أكثر من تعبير :( الرواية الأفضل لهذا العام ) ,و تنقل ببساطة رأي الطبيب النفسي الذي يعالجها ( التضارب بين طبيعتي كأنثى وككاتبة تدفع بقدري الى الفوضى والضياع ) , ولم تسمم روايتها بالتعليقات السياسية الجافة , وسواء أخذنا الرواية وأبطالها بما تمثله من حياة وتجربة لبشر من عالمنا , أو عمدنا الى إنهاك أذهاننا بالسعي وراء رموز قد تكون خطرت ببال الكاتبة كأن نقول بأن حبيبها تيان تيان بعجزه ومن ثم موته الذي يترك البطلة في حالة فقدان كلي يمثل الجانب الروحي للصين , بينما عشيقها مارك الذي تعجز عن الاستغناء عنه يمثل الجانب المادي للحضارة , ففي الحالتين تستطيع أن تستمتع بالرواية التي تلامس هموماً تشبه همومنا , وترش الملح على جروح تشبه جروح جيلنا , دون أن نخفي دهشتنا لما فيها من صراحة وصدق نادرين .
وبخلاف اليقين حيال شخصيتها في السطر الأول للرواية , تختمها أمام سؤال الســـيدة العجوز : ( من تكونين ؟) بالجواب المتسائل : ( من أنا ؟ بالفعل من أكون ؟ ) .
طفلة شانغهاي
وي هيوي
ترجمة : ظبية خميس
منشورات الجمل
الطبعة الاولى /2005/