مغامرة إستحضار شخصية اليهودي للرواية العربية
2007-09-22
"يوميات يهودي من دمشق" لإبراهيم الجبين:
الكاتب السوري إبراهيم الجبين يدخل عالما شبه محظور في الرواية العربية إذ يجعل شخصيات يهودية تتحرك في فضاء روايته خارج حضورها التقليدي والمألوف اليهودي في الرواية العربية يحضر في صورة العدو ، وغالبا في ساحة المعركة أو داخل المعتقلات الإسرائيلية بوصفه الصريح كمحتل يمارس القمع، فيما يقدمه إبراهيم الجبين مواطنا سوريا يعيش في دمشق ، ويقدم من خلاله صورة الحياة اليومية لليهود السوريين وبالذات في "حارة اليهود" ذلك التجمع السكاني في المدينة القديمة بكل خصوصياته وعلاقاته مع المحيط الإنساني0 إنها قفزة فنية-فكرية تحسب لهذه الرواية التي تتأمل الصراع العربي-الإسرائيلي من زوايا أخرى من أجل قراءة وعي هؤلاء المواطنين العرب الذين يعتنقون الديانة اليهودية وقراءة تلك الإلتباسات الفكرية والميثولوجية التي تحيط بهم وتضعهم في "حالة خاصة" يجدون أنفسهم معها لا ينسجمون تماما مع مواطنتهم ولا ينفصلون تماما عنها ، وهي الأزمة الوجودية التي شكلت باستمرار جوهرالمسألة اليهودية" في بلدان العالم كلها وكانت الأرضية الفكرية التي دخلت من خلالها الحركة الصهيونية إلى وعي يهود العالم لإقناعهم بالتميز أولا ، ثم للتعبير عن هذا التميز بصورة وحيدة هي أن يكونوا بقواسمهم الدينية المحضة شعبا له شخصيته الواحدة ومصالحه وتاريخه أي بما يدفع الى إقامة دولة يهودية يستطيع اليهودي وقت شاء أن "يعود" إليها بوصفه مواطنا كامل الحقوق بمجرد أن تطأ قدماه أرض مطارها0هي فكرة "أنا" و "الآحر" إذ تتحرك وفقها شخصيات من هنا وكأنها من "هناك" أي هناك فالذي يحدد مسار الحركة هو الوعي أو اذا شئنا الدقة الوهم ، وهم الإنتماء ووهم الإختلاف الذي يذهب في محاولة تعبيره عن نفسه الى حدود قصوى من محاولة بلورة رؤاه وتصوراته والتعامل معها بوصفها حياة حقيقية وواقعا موجودا0
رواية إبراهيم الجبين" تناوش" ذلك أو هي تستحضره الى شاشة وعي القاريء في لحظة تاريخية حاسمة هي لحظة امتحان الشخصية اليهودية مع "وعيها" ذاك وكيفية اختيار مصيرها وانتمائها ، لحظة منحها حرية المغادرة أو البقاء في سوريا وهي ليست بالتأكيد قضية بقاء أو هروب لأن كل واحد من الخيارين النقيضين يعني بالتأكيد حسم التردد التاريخي مع مفهوم و"محنة" المسألة اليهودية مرة والى الأبد :إما اختيار المواطنة والإنسجام معها وإما المغادرة الى العالم الخارجي بما في ذلك اختيار الدولة العدوة والإندماج في إطاراتها أي اختيار الشخصية النقيضة للوطن الأم والإنتماء الحقيقي0
يصعب في رواية كهذه الإحاطة بالشخصية الروائية بوصفها نموذجا "قطعيا" أو نهائي الدلالة لأننا في النهاية نتحدث عن رواية وعن شخصيات روائية حدد لهم الكاتب خطوط وعيهم ، ولكننا مع ذلك نقف أمام "إخاد" الشخصية اليهودية الرئيسة في رواية إبراهيم الجبين طويلا لنتأمل جاذبية السبك الروائي وشفافية الكاتب في استحضاره لصورة وملامح اليهودي الدمشقي وما يدور في خلده من أفكار0 يحسن إبراهيم حين يرى هذه الملامح ويرى معها صور الآخرين من أطياف المجتمع السوري وبالذات "محمد شوق" الأصولي الذي "يجيد اللعبة" في زمن تصاعد الأصولية والتطرف والحملة الأمريكية على الإرهاب0
هي لوحة تنتظمها كتابة تأخذ شكل اليوميات فيما يشبه حيلة فنية جميلة لتقريبها من الواقع أو بالأدق من "الحقيقية" التي تسمح بملاحظة الجزئيات والتفاصيل الصغيرة بوصفها نثار وعي ونتف ثقافة تتحرك هنا وهناك في مناخ إنساني يقبع في خلفيته ولا يغيب طاغوت جبار كلي القوة هو الصراع العربي-الإسرائيلي بكل تأثيراته المباشرة وغير المباشرة على الجميع من أبطال الرواية حتى تلك المرأة التي تذهب الى "هناك" كي تعود الى المغادرة وقد أضاعت أنوثتها وبددتها ولتكتشف استحالة العودة الى اللحظة الأولى لحظة الوجود الحقيقي هنا والحب الذي كان والذي هو في الرواية كما في حياتها دلالة رمزية بالغة التعبير عن اندماج أو إمكانية اندماج في مجتمعها الأصلي بكل ما يزخر به من حقيقية0
في "يوميات يهودي من دمشق" ذهاب قصي نحو الميثولوجيا في محاكاة موفقة لإحدى أهم وأخطر مفردات الصراع أو إذا شئنا العنوان العلني للصراع كما تفهمه وتفسره الحركة الصهيونية وإسرائيل وهي ميثولوجيا تستبدل بقصدية فكرة رؤية العالم بفكرة أخرى مهووسة بالبحث في التراب بل في أعماق التراب على أمل الوصول الى ما يمكّن الميثولوجيا من الإمساك بتلابيب الواقع وأخذ دوره ومكانه0 الحفر في أعماق الأرض هو بمعنى ما تدمير ما هو قائم فوقها أي بوضوح أشد تدمير الحضارة الإنسانية في سبيل ذلك الوهم الميثولوجي الذي يتحول في وعي أصحابه الى فكر له صفة القداسة0
هنا نحن أمام قداسات تتعارض بل تتناقض وتذهب بالصراع الى مدياته النهائية ، ومع ذلك تذهب بنا الرواية الى فكرة بالغة الحقيقية تقول إنه رغم كل ما حدث ليس هناك ما هو حقيقي أبدا في علاقة الميثولوجيا بالتاريخ أو بالراهن ذلك أن المدن والمجموع البشري الذي يسكنها ويشكل مجتمعاتها ينتمي في الواقع الى الحياة ولا ينتمي الى الميثولوجيا0
أهم ما في رواية إبراهيم الجبين "يوميات يهودي من دمشق" هو في تقديري تخلّصه الصائب من النظرة التقليدية لليهودي ليس في الأدب العربي وحسب ، ولكن أساسا في ذهن الإنسان العربي وهي النظرة التي رسمت لليهودي ملامح ثابتة ونهائية لا تأخذ خطوطها من الحياة ولكن من رصيد الألم والمعاناة الذين عاشهما الشعب العربي بسبب العدوانية الصهيونية وبسبب اختلاط النظرة حد التطابق بين مفهومي اليهودي والصهيوني وهو اختلاط قام أساسا بسبب من غياب الوعي الحقيقي لأبعاد الصراع العربي-الإسرائيلي وأيضا بسبب إزدياد نفوذ الأفكار التكفيرية خلال سنوات العقد الأخير0 ملامح اليهودي في "ثقافة" تقليدية بل نمطية كهذه لا تكتفي بالجوهر السياسي بل تذهب الى منح اليهودي قسمات خاصة ، بشعة ومنفرة ناهيك عن منح صاحبها طباعا وعادات لا تتغير وفي كثير من الأحيان سجن الشخصية اليهودية في عدد محدود من المهن ذات العلاقة بالحالة الربوية دون التمكن من الخروج عن هذا التنميط الى رؤية واقعية تستطيع رؤية اليهودي كإنسان ومن ثمّ ملاحظة سلوكه وانتمائه بعد ذلك من أجل رؤية وتحديد دوره في الصراع سلبا أو إيجابا0 إبراهيم الجبين يحقق في روايته هذه قطيعة كاملة ونهائية مع هذه النظرة ويحسن رؤية شخصياته اليهودية في إطار انتمائها الإجتماعي ووعيها الثقافي أيضا0
أحسن إبراهيم الجبين صنعا إذ ترك لروايته "ملحقا" بالغ التكثيف يقول فيه:"لم تنته اليوميات ولكن تدوينها النهائي يكتمل في مكان آخر" في دلالة لا تخفى الى استمرارية الصراع0
إبراهيم الجبين كاتب يعشق المغامرة ويذهب في دروبها الى حدود قصية ولكننا مع ذلك نقرأ في روايته مغامرة أدبية مفعمة بالرشاقة والتشويق و"حقيقية" الشخصيات ، الحقيقية الطالعة من تمكن واضح من رسم تلك الشخصيات وتخليصها من "الصناعة" التي تعودنا في الروايات العربية السياسية أن تكون ذريعة مكشوفة من الكاتب لتوزيع أفكاره ، وهي هنا أيضا أفكار ابراهيم الجبين بالتأكيد ولكن في براعة فنية تستحق التحية لأنها تستحق القراءة وتحرض عليها0هي رواية تزدحم بالأفكار ولكن الجبين يحسن تقديمها في بنائية روائية فيها الكثير من الإنتباه للمكان بما هو فضاء حركة الشخصيات وبما هو دلالات روحية على موضوع الرواية وحدثها0 هنا يلاحظ القاريء أن "يوميات يهودي من دمشق" تستفيد من لغة "المونتاج" السينمائي فتنتقل بالقاريء دون فواصل مكشوفة ولكن مع القدرة على إبقائه قادرا على ملاحقة الحدث الروائي وتتبعه ، وهي فنية تساعد على إضفاء مشروعية للمحاولة الروائية كلها0مشروعية تدفعنا في ختام الرواية للتفكير في حدث زلزل ولا يزال أركان حياتنا منذ ستين سنة ويزيد0
08-أيار-2021
06-حزيران-2020 | |
16-شباط-2011 | |
"كثيرة أنت" للشاعرة السورية سوزان ابراهيم وحيدة ولي ما لـيس لهنّ |
27-تموز-2010 |
23-تموز-2010 | |
09-أيار-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |