الأدباء الشهداء في العصر التركي: لمحمد حامد شريف
2008-07-05
قراءة في كتاب الأدباء الشهداء في العصر التركي على يد جمال باشا السفاح لمؤلفه الدكتور: محمد حامد شريف
الشهادة والشهداء موضوع مهم في الآداب العالمية والعربية، فلقد اعتادت معظم الأمم على تخليد أبطالها وشهداء حروبها، باعتبار الشهداء منارة جمالية وإنسانية شامخة للأجيال التي تأتي.
ووفاء لهؤلاء الذين ضحوا بأرواحهم ليعيش أبناء شعوبهم بأمان وكبرياء، فقد كُتِبت الأعمال الأدبية التي تخلد هؤلاء الشهداء، سواء أكانت هذه الأعمال استجلاء تاريخياً لحياتهم، ومناقبهم ودورهم في الدفاع عن كرامة أوطانهم، أو ملاحم أو قصائد تمجدهم، وتشيد بأدوارهم الإنسانية البطولية. وقديماً عرف الأدب اليوناني عبر كلاسيكياته المشهورة، "الإلياذة والأوديسا" لهوميروس، "الانيادة" لفرجيل كيف يخلّد أبطاله المشهورين في الحروب، إذ قدّمهم بعد وفاتهم في أبهى صورة جمالية وأخلاقية.
وفي الملاحم والسير العربية قدّم الأدب الشعبي أبطال هذه السير الشهداء، على أنهم مثال حقيقي للشجاعة والتضحية، إذ بكى شعراء ورواة سير سيف بن ذي يزن والأميرة ذات الهمة، وبني هلال، والزير سالم، والظاهر بيبرس، أبطالهم الذين ماتوا في سبيل إعلاء كلمة الحق والعدل.
وفي الأدب العربي قديمه وحديثه، نثره وشعره، نجد هذا التخليد لهؤلاء الشهداء، إمّا بالقصائد الشعرية، وإمّا بالبحوث والدراسات، وفي الأدب الحديث نجد أن هذه الدراسات عنيت بدراسة خصائص هذا الأدب وعلاماته الفنية والجمالية.
ومن الدراسات الجديدة التي جمعت ورصدت أخبار الشهداء، الذين كانوا شعراء وأدباء مهمين في تاريخ أوطانهم قبل استشهادهم، وتناولت أعمالهم بالتحليل والدراسة الموسومة بـ: "الأدباء الشهداء في العصر التركي على يد جمال باشا السفاح" للدكتور محمد حامد شريف، الأستاذ بجامعة الأزهر بدمياط الجديدة (1).
وإذا كان كثير من الباحثين والدارسين قد تطرقوا إلى هذا الموضوع، من الناحية التاريخية والتسجيلية، فإنَّ الكتاب الذي بين يدي هو عمل تجميعي توثيقي لمعظم ما قيل في رثاء الشعراء الشهداء على يد جمال باشا السفاح، وهو لا يبتعد كثيراً عن المنحى التاريخي ذي الطابع الوصفي في تعامله مع النصوص الشعرية، ومع ذلك فهو محاولة جادة لإزاحة الغبار عن كثير مما كان مخفياً من حياة هؤلاء الشهداء، وما كان طي النسيان من النصوص الشعرية التي رثت هؤلاء الشهداء وأرّخت لنكبتهم المأساوية، إضافة إلى دراسته لهذه النصوص خصائصها وسماتها الموضوعية، وبعض جوانبها الفنية، وبهذه المحاولة التجميعية يكون الباحث الدكتور محمد حامد شريف قد أعاد إلى النور هذه القصاصات الشعرية، والتي تكاد تكون قد نُسيت أوغُيبت لدى الأجيال المعاصرة، وفي الدراسات المعاصرة. ويعلل الباحث سبب اختياره لموضوعه قائلاً:
".. وقد وقفت على من وجدت له أثراً أدبياً، وبدهي أيضاً لم يكن العثور على تلك الآثار سهلاً ميسوراً، اللهم إلا شذرات متفرقة هنا وهناك، ورأيت في جمعها ترسيخاً للروح الوطنية بين الأجيال، ووفاء لأرواح أولئك الشهداء، ولعل هذا كان من وراء اختياري لموضوع (الأدباء الشهداء). وإنه لمن الخسارة أن تضيع هذه الآثار الأدبية، أو يلتهمها التراب كما التهم أصحابها" (2).
وهنا في هذه القراءة السريعة أعرض بعض ما جاء في كتاب "الأدباء الشهداء في العصر التركي على يد جمال باشا السفاح"، ونظراً لحجم الكتاب الكبير (200 صفحة من الحجم الكبير)، فإني سأكتفي بالإشارة إلى أهم الأفكار الرئيسية، تاركاً قضايا كثيرة ومهمة، لا تستطيع هذه القراءة الإحاطة بها.
يتكون هذا الكتاب من ثلاثة أبواب وستة فصول، الباب الأول بعنوان: الأحداث التركية في مطلع القرن العشرين، وصداها في الأدب العربي، ويقع في فصلين: الفصل الأول بعنوان: تضارب النزعات الأدبية بين المدح والذم، ويقدّم الباحث لهذا الفصل برؤيته الخاصة حول التباينات الأيديولوجية بين الحكم العثماني للعالم العربي والإسلامي ، وبين الاستعمار الأجنبي والأوروبي، من حيث أن الأتراك مسلمون وقد دافعوا عن الديار الإسلامية، وعملوا على انتشار الإسلام وزرع تعاليمه في بلدان أوروبا الشرقية الشاسعة، وكان من مظاهر الطابع الديني عند الأتراك تطبيقهم للشريعة الإسلامية في أحكامهم، وتشييدهم للعديد من المساجد الكبرى، وحفاظهم على التقاليد الإسلامية، وكانت البنية العامة لمدنهم بشكل عام هي بنية إسلامية في مختلف توجهاتها، وعلى المستوى الشكلي كان من ألقاب السلطان العثماني "خليفة المسلمين"، في حين كان الاستعمار الأوروبي يرتكز على فلسفة غربية تكرّس سياسية العدوان والاعتداء واجتياح القوي للضعيف، يزعم لنفسه حق تمدين الشعوب المستضعفة، ولو اقتضى الأمر اللجوء إلى الحديد والنار.
ومن التوجه الأيديولوجي للدولة الإسلامية وتركيزها على تشييد المساجد ونشر الإسلام والفتوحات الإسلامية، فقد صوّر لنا الأدب العربي وبخاصة شعره، كثيراً من مظاهر تعاطف العرب مع الدولة العثمانية والعجيب كما يقول الباحث "أنك لا ترى في الشرق العربي منذ أيام إبراهيم باشا المصري حتى أواخر القرن التاسع عشر حركة جدّية للانفصال عن السلطة العثمانية!. ورغم أن مصر أسبق البلدان العربية إلى إنشاء وحدة إدارية ذاتية. وهي أول مكان بُعثت فيه الروح الاستقلالية ـ ومع ذلك ـ ظلت تشايع تركيا ولا تدعو إلى الانفصال عنها، كما ظلّ الأدب فيها عثماني الروح، والذي يراجع نفثات الأدباء المصريين في القرن الأخير ـ يتجلى له ذلك. ونجد ذلك عند أبي النصر علي، والشيخ علي الليثي، ومحمد سامي البارودي، وعبد الله النديم، وغيرهم". ص 11.
ومن يطالع ديوان الشعر العربي في تلك الفترة سيلاحظ أن هنالك قصائد باركت احتواء السلطنة العثمانية لدول الوطن العربي، وطبعها بتوجهاتها السياسية والأيديولوجية، وهاهو شاعر النيل حافظ إبراهيم ـ يبارك خطوات السلطان عبد الحميد ويمدحه قائلاً:
أثنى الحجيج عليك والحرمان وأجل عيد جلوسك الثقلان
أرضيت ربك إذ جعلت طريقه أمنا وفزت بنعمة الرضوان
وجمعت بالدستور حولك أمة شتى المذاهب جمة الأضغان
فغدوت تسكن في القلوب وترتعي حباتها وتحلّ في الوجدان. (17)
ولما حدثت الفتنة العثمانية عام (1909 م) والتي أدّت إلى خلع السلطان عبد الحميد من قبل مناوئيه الدستوريين في 17 نيسان (إبريل) عام 1909 م، ستعمّ الفرحة عند الأدباء الشعراء الذين كانوا يكنون له العداء، وسنسمع أصواتاً شعرية جديدة في سورية (سوريا والأردن ولبنان وفلسطين) والعراق وبلاد المهاجر تهلل وتندد بالسلطان عبد الحميد، مباركة خلعه، واصفة إياه بالظالم، ومستبشرة برحيله، وبأن صرحاً من صروح الظلم قد هوى، فهاهو الشاعر السوري فارس الخوري يقول مستبشراً بهذا الخلع:
الله أكبر فالظلام قد علموا لأي منقلب يفضي الألى ظلموا
لقد هوى اليوم صرح الظلم وانتفضت أركانه وتولّت أهله النقم (ص 21)
كما ستستبشر جريدة مرآة العرب، وتهلل لخلع السلطان عبد الحميد، وتنشر قصيدة لأحد شعرائها، تصفه بالغدر والاحتيال، تقول القصيدة:
مضى عبد الحميد إلى مكان رمت فيه أم قشعم الرحالا
مضى وله بفعل الشر ذكر محا ذكر الأولى كانوا مثالا
مليك قد تسربل بالمخازي وعمّ الأرض غدراً واحتيالا
أمير المؤمنين دعوه زورا فكان الذئب لم يعرف حلالا (ص 21)
وهكذا تباينت الرؤى والمواقف بين المدح والهجاء لطبيعة التوجهات السياسية والفكرية للدولة العثمانية على الساحة العثمانية، لكن الغالب على هذه المواقف، رفضها فيما بعد لسلوك السلطة العثمانية ومواقفها.
أمّا الفصل الثاني فهو بعنوان نكبة الأحرار على يد جمال باشا السفاح، ويحاول هذا الفصل أن يعرّج تاريخياً وسياسياً على فترة تولي جمال باشا حكم بلاد الشام بعد أن سطع نجمه في الآستانة، حتى استلامه منصب الخلافة. وما خلفته هذه الفترة من مآس إنسانية، ومجازر فظيعة، ارتكبها جمال باش ضد شعب بلاد الشام، استحق على أثرها أن يخلده التاريخ تحت اسم "السفاح" وتذكر المصادر أن جمال باشا "كان خالياً من كل مزايا الرجال، حيث غلبت عليه العسكرية القاسية، لكنه تظاهر في البداية بمناصرة العرب، والعطف على قضاياهم الاستقلالية، لهذا ساعده الأحرار الاستقلاليون في قدومه وتمكن حكمه في البلاد، ولم يدر بخلدهم ما انطوى عليه من لؤم وبطش حيث كان يراقبهم، ويطلع على أسرار تنظيماتهم تمهيداً للبطش والتنكيل بهم". (ص 34.)
وقد كمم جمال باشا الأفواه، ومارس ظلماً وبطشاً على عباد الله بشتى طوائفهم الإسلامية وغيرها، ففي يوم السادس من أيار (مايو) من عامين متواليين 1915 ، و1916 م، قام جمال باشا بإعدام 32 رجلاً من خيرة أدباء ومفكري بلاد الشام، إذ عمد إلى شنقهم في بيروت ودمشق، وهم حسب ترتيب إعدامهم:
عبد الكريم الخليل ـ الشقيقان محمود المحمصاني ومحمد المحمصاني ـ عبد القادر الخرساء ـ نور الدين القاضي ـ سليم أحمد عباس الهادي ـ محمود نجا عجم ـ محمد مسلم عابدين ـ نايف تللو ـ صالح حيدر ـ علي الأرمنازي، وهؤلاء هم شهداء القافلة الأولى ببيروت يوم 6 / 5/ 1915 م.
أما شهداء دمشق فهم: شفيق بك المؤيد ـ عبد الحميد الزهراوي ـ الأمير عمر الجزائري ـ شكري العسلي ـ عبد الوهاب ـ رفيق رزق سلوم ـ رشدي الشمعة.
أما شهداء القافلة الثانية الذين أعدموا ببيروت في يوم السادس من أيار (مايو) عام 1916 م، فهم: باتروباولي ـ جرجي الحداد ـ سعيد عقل ـ عمر حمد ـ عبد الغني العريسي ـ الأمير عارف الشهابي ـ الشيخ أحمد طيارة ـ محمد الشنطي اليافي ـ توفيق البساط ـ سيف الدين الخطيب ـ علي محمد حاج النشاشيبي ـ محمود جلال البخاري ـ سليم الجزائري ـ أمين لطفي الحافظ. (ص 37).
وبعد أن تولى هذا السفاح أمر الشام، امتدت صلاحياته المطلقة، ومارس قسوة وسادية، عمّت جنوب طوروس شمالاً حتى وصلت إلى اليمن جنوباً. وفي عهده فاض الكيل مظالم ونكبات، وزاد الناس فقراً ومرضاً وعاش الناس غرباء في أوطانهم، وقد ركزّ الباحث في هذا الفصل على المواضيع، والأحداث السياسية والتاريخية الآتية:
1 ـ مؤتمر باريس الذي عقده الشباب الأحرار، مطالبين بحقوق بلادهم في ظلّ الحكم العثماني.
2 ـ السفّاح، حياته، وآثاره.
3 ـ قيام الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين.
4 ـ مصرع جمال باشا السفّاح.
ولم ينس الباحث الدكتور محمد حامد شريف أن يقرن الحوادث التاريخية، بالقصائد الشعرية التي تدين السفّاح، والتي ترثي هؤلاء الشعراء والأدباء الشهداء. وهاهو الشاعر اللبناني نعمان نصر يرثي هؤلاء الشعراء والمفكرين قائلاً:
شهداء الظلم قوموا وانظروا ناشرات الحق تطوي الجور طيا
هذه الأرض سقاها دمكم فبحق أنبتت عدلاً جنيّا
إلى أن يقول:
ما جمال غير نذل ظالم وشقيّ ترك العصر شقيّا
ما ذكرناه ولم نجزل له جمل اللعن صباحاً وعشيّا. (ص 40)
ويدعو الشاعر الشيخ عارف الحر في قصيدته المعنونة بـ "يا شهيد"، وفي ذكرى استشهاد هؤلاء الأدباء 1939، يدعو العرب إلى التماسك والوحدة، لتشكيل دولة حرة مستقلة ومنفصلة عن الدولة العثمانية، وما جاء في دعوته:
يا بني العُرب وهذي دعوة تصل الشام بأنحا يثرب
تمزج الدجلة في النيل كما تربط الشرق بأقصى المغرب
هي ذكرى شهداء جاهدو والأماني مثل برق خلّب. (ص 41)
وينهي الباحث فصله بالتأريخ لحادثة مصرع جمال باشا السفاح على يد أحد أبناء بلدة (تفليس) اللبنانية، واسمه "أسطفان زاغبيكيان"، إن انتقم هذا الفدائي لأهل قريته الأرمن، الذين دبر لهم جمال باشا السفاح مكيدة سنة 1921، ثم أعدمهم جميعاً، هذا ويجدر الإشارة أن الأرمن هم الذين ساعدوا جمال باشا السفاح إلى الوصول إلى سدة الحكم في الآستانة.
أما الباب الثاني المعنون بـ "الأدباء الشهداء"، حياتهم وآثارهم"، فهو مكّون من فصلين، الفصل الأول بعنوان من شهداء دمشق، ويغلب على هذا الفصل الطابع التأريخي، إذ تناول هذا الفصل ثلاثة أدباء من دمشق، وهم الشيخ عبد الحميد الزهراوي، وشكري بك العسلي، ورفيق رزق سلوم، إذ عرض الباحث لهؤلاء الشهداء بالتفصيل عرضاً متشابهاً، يتمثل في أصولهم ونشأتهم وبيئتهم، وتحصيلهم المعرفي، ونشاطاتهم الفكرية، وآثارهم الأدبية من مؤلفات ومقالات، ومجمل الأفكار التي كانوا يدعون إليها، والوظائف التي تقلدوها سواء في الصحافة أو في القضاء والمحاماة، أو في مجلس النواب وظروفهم السيئة في سجونهم، والتهم الموجهة لإدانتهم، تمهيداً لإعدامهم، ثم أثبت الباحث بعضاً من نصوصهم الشعرية، التي تدعوا الأمة العربية إلى رفض الذل والتبعية.
أمّا الفصل الثاني من الباب الثاني فهو بعنوان: من شهداء بيروت، وقد تناول الباحث خمسة أدباء شهداء من بيروت، وهم على التوالي: سعيد عقل ـ عمر حمد ـ عبد الغني العريسي ـ الأمير عارف الشهابي ـ الشيخ أحمد طيارة، وهذا الفصل لا يختلف كثيراً عن الفصل السابق، من حيث طريقة الدراسة ومنهجها، وترتيب فقرها، إنه (ببليوغرافيا) مفصلّة لحياة هؤلاء الشهداء، من حيث أصولهم ونشأتهم، واغترابهم والميادين الفكرية التي انخرطوا فيها، ومنحهم وسجونهم، وظروف محاكمتهم وإدانتهم، ومواقفهم البطولية، وآثارهم الأدبية، وبعضاً من نصوصهم الشعرية، مشفوعة بآراء الباحث وتعليقاته، ونأخذ من هذه النصوص على سبيل المثال مقطعين شعريين للشاعرين الشهيدين عمر الحمد والأمير عارف الشهابي، فهاهو الشاعر عمر حمد في قصيدة له بعنوان: "وجهلتهم أنكم نسل الأمين"، يناشد العرب النهوض من واقعهم المذل، وإصلاح أحوالهم، تمهيداً لصحوتهم الحضارية والفكرية، يقول:
يا بني يعرب يا أهل العلا يا أباة الضيم والظلم المشين
ما لكم أصبحتم طوع الردى تحملون الذل والذل مهين
أنسيتم أنكم من يعرب وجهلتم أنكم نسل الأمين؟
فانهضوا من مرقد الذل ولا ترهبوا في الحق لوم اللائمين
واطلبوا الإصلاح من معدنه وعلى الله نجاح المصلحين (ص 91)
وهاهو الأمير عارف الشهابي يدعو شباب وطنه إلى عدم اليأس ونبذ واقع التراخي والكسل، فهم أبناء أمة عريقة، عرفت حضارة مليئة بالعلم والمعرفة، والعزة والكبرياء، مطلوب منهم أن يسهموا من جديد في إعادة هذه الأمة إلى مسارها الحضاري الصحيح، يقول:
تذكّر ـ زادك الرحمن مجداً ولا تيأس ففي اليأس البلاء
تذكّر عهد أندلس ومصر وبغداد وفاخر ما تشاء
تذكّر شامنا والعلم فيها ليالي تحسد الأرض السماء
مدارس تستضيء بها البرايا وقد أخنى على الغرب الثواء
بني وطني دعوا هذا التراخي فلا يجدي التنادب والبكاء
إلى العلم الصحيح نسير سيرا حثيثاً لا يلّم به رخاء. (ص 119)
أما الباب الثالث فهو بعنوان: رثاء الأدباء الشهداء (عرض وتحليل)، وهو يمهد لهذا الباب بشكل هام بما يلي: "من الجدير بالذكر أن أحداً من الشعراء لم يجرؤ على رثاء هؤلاء الشهداء ـ أحرار العرب ـ وإظهار فضلهم خلال هذه الحقبة إلا بعد إخلاء الترك عن بلادهم مخافة اتهامه بالتواطؤ ومعاداة السلطنة.. ولكنه الشعراء ما لبثوا ـ بعد أن وضعت الحرب أوزارها وانحلت السلطنة ـ أن وفوا الشهداء حقهم ـ وصاروا يعددون مآثرهم وذكرياتهم التي رفعتهم إلى مصاف الأبطال". ص 131.
وقد قسّم الباحث هذا الباب فصلين، الأول بعنوان "رثاء الشهداء في شعر المشرق العربي"، والثاني بعنوان "رثاء الشهداء في شعر المهجر"، ويغلب على هذا الباب طابع الدراسة التجميعية ثم التحليلية، إذ يجمع الباحث القصائد التي قيلت في رثاء الشهداء، والتي أدانت في آن ظلم جمال باشا السفاح، ثم يقوم بتحليل بعضها من حيث موضوعاتها وأفكارها، ثم يعلق عليها، ويشير إلى الاقتباسات فيها، كان يقول مثلاً في تعليقه على البيت الشعري الآتي من قصيدة بعنوان "معلقة الشهداء" للشاعر جميل صدقي الزهاوي:
علاها وما غير الفتوة سلم شباب تسامى للعلا وكهول
يعلق على الشطر الثاني منه بقوله: "هذا الشطر مقتبس من قصيدة السموؤل المعرفة، وقد اقتبسه الشاعر لمناسبته المقام" (ص 133). ثم يشرح بعض مفرداتها ومعانيها، ويشير إلى الأعلام الأدبية الواردة فيها، مبيناً علاقتها بفضاء النصوص الشعرية، ثم يترجم للشعراء أصحابها بتراجم مختصرة.
وقد أثبت الباحث في الفصل الأول من هذا الباب اثنتي عشرة قصيدة لشعراء مختلفين جاءت على النحو الآتي:
1 ـ قصيدة "الناتجة أو معلقة الشهداء" للشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي (1863 مـ 1936 م) ومطلعها:
على كل عود صاحب وخليل وفي كل بيت رنة وعويل
وفي كل عين عبرة مهراقة وفي كل قلب حسرة وغليل (ص 133)
والقصيدة طويلة جداً (مائة وستون بيتاً)
2 ـ قصيدة "ساحة الشهداء" للشاعر حليم دموس (1888 م ـ 1957 م)، وهي القصيدة التي ألقيت في النادي العربي بدمشق، بمناسبة مرور السنة الثالثة على استشهادهم، ومطلعها:
ذكريني بعهدهم ذكريني فنواهم أثار نار شجوني (ص 140).
3 ـ أرواح الخالدين للشاعر حليم دموس، وفيها يقول:
يا هداة الروح طبتم سكنا وعليكم نفحة الروح الأمين ( ص 145)
4 ـ الشهداء للشاعر خير الدين الزركلي، ومطلعها:
نعى نادب العرب شبانها فجدد بالنعي أحزانها ( ص 147)
5 ـ العرب والترك للشاعر خير الدين الزركلي، إذ يشير فيها إلى نقض الأتراك لعهودهم، واضطهادهم للعرب، وفيها يقول:
عتا أحفاد جنكيز فساقوا سلائل يعرب سوق العبيد
هم عقدوا العهود على ولاء وهم عمدوا إلى نقض العهود (149)
6 ـ قصيدة (دون عنوان) للشاعر اللبناني فؤاد الخطيب (1880 ـ 1957 م)، وفيها يدين الأتراك أيضاً، إذ يقول:
أرهقتم الشعب ضرباً في مفاصله حتى استفاق وسلّ السيف منتقما. (ص 150).
7 ـ قصيدة الشاعر السوري خليل مردم بك يرثي فيها الشهداء في ذكرى استشهادهم الثامنة، سنة 1924 م، وفيها يقول:
في مثل ذا اليوم ـ لا جاد الزمان به ـ
على الجذوع علت أرواحهم صعدا. (ص 151).
8 ـ قصيدة بعنوان (ذكرى الشهداء) للشاعر السوري فارس الخوري (1873 م ـ 1962 م) وفيها يقول:
ضاق الفؤاد بآلام تبرحني وفاجعات بنار الوجد تكويني (ص 153).
9 ـ قصيدة بعنوان "جزّار سوريا" للشاعر اللبناني أمين ناصر الدين (1875 م ـ 1953 م)، وفيها يقول:
شعب يُضام وغاشم لا يرحم ونوائب تَغشى الوليد فيهرم
ودم يطل على الثرى ومشانق بحبالها وصل القضاء المبرم (ص 159).
10 ـ قصيدة بعنوان "ذكرى وعبرة" للشاعر الفلسطيني محمد العدناني (1903 م ـ 1981 م)، وفيها يقول:
رماها جمال بالأسى يصرع المنى
وأرهقها ما شاء للغاشم الضّر. (ص 163)
11 ـ "نشيد الشهداء" للشاعر محمد العدناني، ومطلعه:
غسلّوه بدموعي وادفنوه في ضلوعي. (ص 166).
12 ـ "أتانا جمال يا ثريا" للشاعر اللبناني وديع عقل (1882 ـ 1933 م)، ومطلعها:
أتانا "جمال" يا ثريا بهوله ففي أي غور عنه أخفي جمالك
ويا روعتي إن بلّغوه وشاية وبتّ سجينا لا أقيم حيالك (ص 168)
أما الفصل الثاني من الباب الثالث، المعنون بـ "رثاء الشهداء في شعر المهجر"، فيقدم له الباحث قائلاً: "هناك في المهجر الجنوبي ـ حيث قصرت يد الأتراك عن أن تنال المناهضين لهم ـ استطاع الشعراء أن يعلنوا عن ثورتهم، وأن يرثوا لأخوانهم الشهداء في قصائدهم الحماسية، فقد دأب أبو الفضل الوليد، وإيليا أبو ماضي، ورشيد سليم الخوري، والياس فرحات وغيرهم على استنهاض قومهم في كل مناسبة". (ص 171).
وهذا الفصل لا يختلف عن الفصل الذي سبقه من حيث طريقة العرض والتحليل، والرؤية المنهجية في تناول النصوص والتعليق عليها، وترجمة شعرائها، وقد تناول المؤلف في هذه الفصل سبع قصائد من ديوان الشعر العربي في المهجر، وقد جاءت هذه القصائد مرتبة على الشكل الآتي:
1 ـ قصيدة "الشهداء" للشاعر اللبناني رشيد سليم الخوري "القروي" الذي كان مقيماً في البرازيل، ومطلعها:
خير المطالع تسليم على الشهدا أزكى الصلاة على أرواحهم أبدا
فلتنحني الهام إجلالاً وتكرمةً لكل حرّ عن الأوطان مات فدى (ص 171)
2 ـ قصيدة "ليحي العرب" للشاعر اللبناني عبد الله طعمة، الملقب بـ (أبي الفضل الوليد) (1889 / م ـ 1941 م) وفيها يقول:
بلاد الشام غادرك الكرام فعيش الحر فيك إذن حرام
لقد كثرت من العرب الضحايا ولم يهتزّ في الغمد الحسامُ
وقد قام الباحث بدراسة مقارنة بين القصيدتين (الشهداء) و(ليحي العرب) بيّن فيها أوجه التقارب في الدلالات التي يطرحها الخطاب الشعري.
3 ـ (يا بني الترك لستم مسلمينا)، للشاعر أسعد رستم الذي كان مقيماً في واشنطن، وفيها يهجو جمال باشا السفاح هجاء لاذعاً، إذ يقول:
بجمال سمّوه وهو قبيح قذر الكفّ بيننا واللسان
ذلك المجرم العظيم الخطايا العديم الشعور والوجدان (ص 177)
4 ـ قصيدة بعنوان "في رثاء الشهيد عبد الحميد الزهراوي" للشاعر السوري الحمصي جورج أطلس، الذي كان مقيماً في الأرجنتين، وفيها يقول:
تبكيك حمص وما تحويه من نزه
يبكيك "ميماسنا"*، يبكيك عاصينا. (ص 178)
5 ـ قصيدة دون عنوان للشاعر اللبناني يوسف عساف، الذي كان مقيماً في البرازيل، وفيها يخصّ قومه للنهوض والأخذ بثأر هؤلاء الشهداء، إذ يقول:
للترك فيكم كل يوم وثبة يُردى الذكور بها وتُسبى المرهق
كم جندلوا من قومكم، كم أبعدوا من أهلكم، كم جوّعوا، كم أرهقوا (ص 180)
6 ـ "الشعب الذي لا يفيق" للشاعر السوري نسيب عريضة (1888 م ـ 1940 م)، والذي كان مقيماً في أمريكا الشمالية، وفيها يستثير الشعب العربي للنهوض عن طريق خطاب السخرية:
كفنوه
وادفنوه
اسكنوه
هوة اللحد العميق
واذهبوا، لا تندبوه، فهو شعب
ميت ليس يفيق. (ص 181).
7 ـ قصيدة بدون عنوان، للشاعر اللبناني بشارة الخوري (الأخطل الصغير)، (1885 / ـ 1968 م)، وفيها يمجد تضحيات الشهداء قائلاً:
كتلة من لهب في سماء العرب
ولواء من هدى وشعاع من نبي. (ص 182)
ثم ختم الباحث الباب الثالث، مستنتجاً، ومن خلال تحليله للقصائد الخصائص العامة لشعر الرثاء الذي قيل في هؤلاء الأدباء الشهداء، وقد تكون هذه الخصائص أكثر اقتراباً من منهج البحث العلمي الأكاديمي، إذا ما قارناها بما جاء بقية فصول الدراسة الأخرى، ونظراً لأن هذه الخصائص على درجة واضحة من التفاصيل الدقيقة، فإنني أكتفي بالبعض منها:
1 ـ أخذ الرثاء في هذه الحقبة طابعاً قومياً يلائم متطلبات الحياة أو الواقع، لهذا استحال الرثاء إلى: الإشادة بموقف الشهداء وعظماء الأمة الأوفياء.
2 ـ لم يكن حدث استشهاد الشهداء على يد جمال باشا السفاح حدثاً محلياً، ترددت أصداؤه في دمشق وبيروت فحسب، بل كل مصاب العرب قاطبة، إذ أثار قرائح الشعراء في الوطن العربي والمهجر الأقصى.
3 ـ تجلّى في تلك المراثي جمالية التصوير الفني التمثيلي، الذي يعتمد على الإيقاع الحركي، إذ تتداعى الصور البصرية والحركية تداعياً فنياً.
4 ـ إن هذه المراثي موسومة بنبرة خطابية حماسية، ومعظم القصائد المدروسة تبتدأ بنداء أو استفهام، أو بقسم أو بتحية سلام.
5 ـ معظم القصائد تدور في فلك الأسلوب التقليدي الكلاسيكي، الذي يعتمد وحدة البيت الشعري، والقافية والواحدة.
6 ـ معظم القصائد المدروسة يغلب عليها خطاب إيديولوجي، يدعو إلى حرية العرب، وانفصالهم عن الدولة العثمانية، ويحضّهم على الانتفاضة في وجه الأتراك والثورة عليهم، ومردّ ذلك بالدرجة الأولى إلى إقدام جمال باشا السفّاح على إعدام نخبة من المفكّرين والشعراء الأحرار في دمشق وبيروت، وعلى مجازر أخرى جماعية، مات فيها الكثير من الأبرياء.
هذا ويجدر الإشارة، إلى أن الباحث قام بالإشارة إلى بعض الأخطاء العروضية واللغوية، واقترح بديلاً عنها أكثر دقة وصحة، ولاسيما في البابين الثاني والثالث.
إن موضوع الشهادة والشهداء بالرغم من كثرة ما كتب فيه، يبقى قابلاً لمزيد من الدرس والتحليل، ولمزيد من الرؤى والنتائج القابلة للتقارب أحياناً، وللتباين والاختلاف أحياناً أخرى، ومحاولة الأستاذ الدكتور محمد حامد شريف إحدى هذه المحاولات الجديدة التجميعية في آن، والتي أضفت على موضوع الشهادة والشهداء إضافات مهمة. وإذا كانت الظاهرة التجميعية قد وسمت الكتاب الذي تناولت بعض جوانبه في هذه القراءة، وطغت في أحيان كثيرة على التحليل الأكاديمي المعرفي، فإنَّ ذلك لا ينفي كون بالباحث بذل جهداً واضحاً في ترتيب هذه المادة العلمية، وجمعها من مصادر ومراجع كثيرة، وإخراجها في كتاب يمكن أن يعدّ مرجعاً مهماً في إضاءة جوانب عديدة من حياة هؤلاء الشهداء، ويكتشف عن كثير من جماليات القصائد التي قيلت تخليداً لذكراهم العطرة.
الهوامش:
ـ د. محمد حامد شريف، الأدباء الشهداء في العصر التركي على يد جمال باشا السفّاح، دار التركي، طنطا (مصر)، الطبعة الأولى .
(2) ـ نفسه ص 6، وجميع الإحالات إلى الاقتباسات والشواهد ستوضع بعد الآن في متن الدراسة بجوار الاقتباس.
*العاصي نهر مشهور في حمص وحماة، والميماس أحد المنتزهات الجميلة في حمص.
قراءة ودراسة د. محمد عبد الرحمن يونس
باحث وقاص وروائي وأستاذ جامعي
08-أيار-2021
07-أيلول-2009 | |
08-شباط-2009 | |
01-شباط-2009 | |
كتاب: الحب بين المسلمين والنصارى في التاريخ العربي.لعبد المعين الملوحي |
24-كانون الثاني-2009 |
28-تشرين الأول-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |