أبو الطيب المتنبي
2009-02-08
كان الأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي عليه واسع الرحمةوالمغفرة علما من أعلام الفكر والمعرفة في العالم العربي ، وقد جمعتنا جامعة صنعاء حيث كان الراحل الكريم يعمل في كية الآداب ، وكنت أعمل في كلية مركزاللغات , وجمعتنا صداقة نبيلة وعميقة، وانتقل إلى رحمة الله تعالى في عمّان بعد أن غادرجامعة صنعاء، وقد أضاف إلى المكتبة العربية أكثر من أربعين كتابا في اللغة والأدبوالتحقيق والترجمة والشعر والنقد والسيرة الذاتية، وقد أشرف على عشرات رسائلالماجستير وأطروحات الدكتوراه، وعمل في جامعات عربية عديدة، وكان رحمة الله عليهعضوا في مجامع اللغة العربية العديدة في الوطن العربي، ووفاء لهذا الرجل النبيلالعالم، أقدّم عرضا ودراسة لكتابه المسمّى: " في مجلس أبي الطيب المتنبي" .
أبو الطيب المتنبي (( أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي، ( 303ــ 354هـ/ 915ــ 965م)،(( مالئ الدنيا وشاغل الناس )) ، أول شاعر عربي استطاع أن يحتل مكانة مرموقة في ديوان الشعر العربي القديم والحديث والمعاصر، لم يصل إليها أيّ شاعر عربي آخر ، وأول شاعر عربي نالت أشعاره حظاً وافراً من الدراسة والتحليل والمقارنة. وعلى الرغم من كثرة الدراسات الأكاديميّة التي درست بنية خطابه الشعري ، وعلاقته بأوضاع مجتمعه، فإنّ هذا الخطاب لا يزال قابلاً لمزيد من الدرس والتحليل، نظراً للقيمة الفنيّة الجماليّة التي وسمت هذا الخطاب، و نظراً للقيم الإنسانيّة التي دعا هذا الخطاب إلى تكريسها من شموخ وعزٍ وكبرياء، وإحساس بالعظمة قلّما نجد له مثيلاً في تاريخ الأدب العربي شعراً ونثراً.
ومن أحدث الدراسات التي حاولت أن تبرز بعض سمات الخطاب الشعري عند المتنبي دراسة الشاعر والباحث الدكتور إبراهيم السامرائيّ الموسومة بـ (( في مجلس أبي الطيّب المتنبي)) . وتأتى هذه الدراسة عبر سجال نقديّ يديره السامرائيّ، مستحضراً أبا الطيّب المتنبي، وشخصية أخرى لتحاوره، ويطلق عليها أبا الندى، ويجلس الثلاثة جلسة شعرية ليتحاوروا حواراً قوامه شعر المتنبيّ، وموضوعات هذا الشعر. يحتدم الحوار تارة، ويبدو ودياّ حميماً تارة أخرى، يهدف في النهاية إلى تقديم شعر المتنبي بنزعاته الإنسانيّة حيناً، والمتعالية على غيرها حيناً آخر. يقول السامرائي: (( وها أنا أعود إلى شعره باحثاً أتفقّد فيه حاجة تقيم صلة جديدة ليست صداقة ولا عداوة، ولكنّها صلة الإنسان بالإنسان يعاشره فتنعقد بينهما وشيجة رحم مادتها الإنسان . وسأجعل هذه الصلة بيننا قائمة أسأل منها أبا الطيب مستحضراً ما قاله في شعره فألتمس الجواب فيه . وستكون هذه الصلة في مجالس يحضرها أبو الندى يتلو شعر المتنبي، وأنا أسمع فأسأل أبا الطيب فينعقد الحوار. وقد يكون الأمر في غير حوار فيبدي أحدنا ما يراه ويعرضه إلى صاحبه بين يدي أبي الطيب ، فإمّا أن يوافق أبو الطيب على ما رأينا وإمّا أن يكون منه موقف خاص.)). ص6.
وفي مجلس أبي الطيب المتنبي الذي يعقده السامرائيّ تتلاقى ثلاث رؤى نقديّة تمثّل ثلاثة تيارات فكريّة تحاول أن ترصد مظاهر شعر المتنبي. وهذه التيارات تنتمي إلى ثلاثة أزمنة: زمن معاصر يمثّل الخطاب النقديّ بتياراته المختلفة، ومواقفه المتباينة من شعر المتنبي، يحاول السامرائيّ من خلاله أن يوضّح توجه هذا الخطاب ، وأهم أسسه المعرفيّة، وطبيعة رؤيته وتقييمه لأشعار المتنبي، وزمن آخر تمثّله شخصية يطلق عليها السامرائيّ (( أبا الندى))، تقوم هذه الشخصيّة بدور الراوي، أو السارد الذي ينشد أشعار أبي الطيب المتنبي، ثمّ يبثّ رؤيته النقديّة حول هذه الأشعار، ويمكن أن تمثّل هذه الرؤية التيارات والمواقف النقديّة التي تزامنت مع شعر المتنبي، سواء أكانت متعاطفة معه، واضعة إياه في أعلى قمم الشعر العربي، أو معادية له، منقصة من قيمته الفنيّة والإنسانيّة. وزمن ثالث يمثّله المتنبي ، ويبرز من خلاله صوت الأنا الشعري الفاعل الذي يدافع عن نفسه، معتبراً أنّ كل الأصوات المعادية الأخرى هي أصوات تؤسس رؤيتها انطلاقاً من الغيرة والحسد والحقد الدفين على عظمة هذا الصوت الشعريّ وتفرّده.
إنّ مجلس السامرائيّ وأبي الطيّب المتنبي وأبي الندى هو الصورة النديّة للمجالس الأدبيّة الكثيرة عبر العصور التاريخيّة، إنه أشبه بندوة أدبيّة يتحاور فيها ثلاثة أدباء حول شعرية المتنبي، ويمثّلون حركة النقد العربيّ وتياراته ابتداءً من العصر العباسيّ حتى العصر الحالي، فالسامرائيّ وأبا الندى يستضيفان أبا الطيب المتنبي، ويستنطقانه ليبثّ أحزانه، وإحساسه بالغربة، وعبقريته الشعريّة، وتفرده في آن، ويحاولان من خلال هذا الحوار أن يطرحا مجموعة من الأسئلة التي تحاول أن تنتزع اعترافاً من أبي الطيب يفصح عن ذاته المتعالية، ولماذا هذه الذات الفرديّة متعالية على (( النحن الاجتمــاعيّة )) أو على (( الموضوعي الآخر)) ، ومن خلال الحوار نستنتج أنّ تضخم (( الأنا)) عند أبي الطيب يجعلها أحياناً تلغي الآخرين ، وتتجاوزهم وتسمو عليهم، وأمام هذه (( الأنا)) المتشعبة في الزمان والمكان والمالئة لهما، باعتبارها ذاتاً متعالية متفوّقة ونتشويّة، ليس أمام الآخرين إلاّ أن يُغمروا في أمكنة وأزمنة جدّ محدودة.
إنّ تعالي هذه(( الأنا)) هو الذي سبب له المتاعب طيلة حياته، مع ملوك وسلاطين عصره، ومع مدينته، وحتى مع ذاته نفسها، وهو الذي شرّده ، وطوى به الصحارى والقفار، وهو الذي دفعه ــ بشكل تدميريّ ومتوثب ــ لأن يطمح في أن يكون صاحب إمارة أو ولاية، فلماذا لا تكون هذه(( الأنا)) على سدّة الإمارة، أو الولاية الكبيرة طالما هي متفوقة على عشرات السلاطين والأمراء الذين يعاصرونها، وعلى بني البشر جميعاً. هذه(( الأنا)) المتعالية تعالياً نرجسيّاً . يقول المتنبي:
أيّ محــــلّ أرتقــــــــي أيّ عظيـــــم أتقــي
وكلّ ما قد خلــــق الله ومـــا لــــم يخــــلق
محتقــر في همتــــــي كشعرة في مفرقي . ص 15.
إنّ (( الأنا المعرفي)) عند المتنبي، الطموحة إلى الثراء والسيادة والسلطة، تتعالى على الشرائط الاجتماعية والإنسانيّة والحضارية التي سادت الزمان الذي عاشه المتنبي، وهي تتفوّق معرفياً وفناً شعرياً على كل بني البشر، وليمت من مات غيظاً :
أنا ترب الندى وربّ القوافي وسمام العدى وغيظ الحسود. ص 14.
وتصبح هذه الذات رائيّة ، عالمة عارفـــــة ، معرفة الأنبياء. هذه الذات التي تعايش مجموعــــــــة من الأجلاف الرعاع تحاول جاهدة أن تخلصهم من خطاياهم وهمجيتهم ، وبالتالي فإنّها غريبة غربة روحيّة ومعرفيّة وإنسانية، إنّها كغربة المسيح بين اليهود :
ما مقامي بأرض نخلة إلاّ كمقام المسيح بين اليهود . ص 15.
ولا يرضى المتنبي لغربته أن تكون أقلّ معنى، وقيمة إنسانيّة عن غربة الأنبياء، إنّها كغربة النبي صالح بين قومه :
أنا في أمّة تداركــــها الله غريب كصالح في ثمود. ص 14.
هذه الغربة الروحيّة، وشعوره بتفوّقه على أبناء زمنه كله، جعلته ــ على غير المألوف ــ متيقناً من أنّه هو الأصل وقومه جميعاً هم الفرع ، ولذا فمن الواجب أن يفخروا به بدلاً من أن يفخر بهم، فمصدر اعتزازه بنفسه لا يأتي من الإرث المعرفيّ الإنسانيّ الذي خلفه الأجداد، بل هو متأصل في ذاته المتعالية قبل انتمائه إلى ذوات اجتماعيّة وقبليّة وقوميّة أخـرى :
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي وبحسبي فخرت لا بجدودي . ص 13.
وها هو يرثي جدته، مستنفراً عظمة (( أناه الفرديّة)) ، يقول:
ولو لم تكوني بنت أكرم والد لكان أباك الضخم كونك لي أمّا . ص 13.
وأمام بروز هذه (( الأنا)) وتعاليها على قومها، يشير السامرائيّ إلى مواقف بعض نقاد المتنبي الذين عابوا عليه هذه النرجسيّة، ويستجمع هذه المواقف قائلاً : (( ألا ترى معي، أبا الطيب، أنك تجاوزت الحدّ وجعلت الشرف لك وحدك، وأنّ قومك عيال عليك، وأن آباءك، وأجدادك ليغرفون من بحرك ويقيمون مجدهم من مجدك. وكأنّ أبا الندى قد وقف على ((أنا)) في هذه القصيدة، وأحسّ أنك قد تجاوزت فيها الحدود، فاحتشم في حضرتك فطواها وأبى أن يتلوها.)). ص13.
والسؤال الذي يمكن أن يُطرح : ما هي أهم أسباب غربة ((أنا)) المتنبي داخل الموضوعي الجماعي؟ هـــل هي الغربة الروحيّة أم الاجتماعيّة أم السياسيّة ؟ أم كانت هذه الغربة نتيجة للإحباطات والخيبات الكثيرة التي رافقت مسيرة المتنبي؟ . إنّ ذات المتنبي الطامحة لم يُقدر لها أن تُوضع في المكان اللائق بها نتيجة لظروف سياسيّة كانت أقوى منها، في حين أنّ الآخرين الذين لا يرقون إلى مستواها هم الأقوياء والسادة والحكام والأغنياء، وبأيديهم مقاليد كل شيء .
لقد كان المتنبي يعتقد أنّه أفضل من أيّ خليفة أو ملك أو أمير من أمراء عصره، فقد كان يشعر وأنّه في مجلــــس سيف الدولة الحمداني ــ صاحب حلب ــ (علي بن عبد الله بن حمدان التغلبي الربعي، 303ــ 356هـ / 915 ــ 967م)، وفي مجلس كافور الإخشيدي ــ صاحب مصر ــ (292 ــ 357 هـ / 905 ــ 968 م)، عظيماً مثلهما، بل أكثر منهما، فلماذا لا يكون الأمير المتوّج فوق عرش مدينة أو ولاية؟ ولماذا لا يتوّج إمارته الشعريّة بالإمارة السياسية التي تمكّنه من استلام مقاليد السلطة . وهنا يمكن القول: إنّ سرّ عذاب المتنبي الدفين، وحزنه الراعف هو إحساسه بالاستلاب السياسي، وحرمانه من كرسي السلطة، ولو أنّ المتنبي لم يستنفر كل طموحه لأن يكون أميراً أو صاحب ولاية لكان أكثر عظمة إنسانيّة، ولكانت صورته التاريخيّة أشدّ إضاءة . هو يعتقد أنّه عظيم ، ولم ينكر أحد عليه ذلك، حتى أعداؤه كانوا في قرارة أعماقهم يعترفون بقامته الشعريّة المديدة، ويحسدونه على هذه القامة الشامخة، لكن أن يوظّف قسماً من طاقاته الشعريّة الجماليّة ، ويقف أمام أبواب السلاطين مستجدياً علّهم يمنحونه إمارة أو ولاية، فإنّ ذلك سيقلل من اعتزازه الإنسانيّ، وسيحطّ من عظمته، وسيرفع من شأن هؤلاء السلاطين في آن، وهنا تكمن نقطة الضعف التي سمحت لأصدقاء المتنبي وأعدائه وحساده معاً أن يوجّهوا سهام نقدهم إلى صدره من خلالها ، ويتساءلوا: هل يحقّ له أن يزهو بأثواب التيه والفخار على بني قومه ويحتقرهم في آن ؟ وهل يبقى قوله الشعريّ الآتي صحيحاً ؟:
وكلّ ما قد خلق الله وما لــم يخلــــــق
محتقر في همتـــــــي كشعرة في مفرقي
وهاهو المتنبي يمدح أحد الأمراء مستعطفاً:
أرجو نداك ولا أخشى المطال به يا من إذا وهب الدنيا فقد بخلا . ص 27.
ولقد كرّس المتنبي كثيراً من قصائده الشعريّة لمدح أشخاص قد يكونون عاديين ولم يقدّموا لأمتهم شيئاً يذكر، وربمالا يستحقون مدحاً، ومن هؤلاء الممدوحين: (( عبيد الله بن خلكان، وأبو المنتصر شجاع بن محمد المنبجي الرضي الأزدي، وعلي بن أحمد الطائيّ، ومحمد بن زريق الطرسوسي، وعبد الله بن يحي البحتري، ومساور بن محمد الرومي، ومحمد بن إسحاق التنوخي، والحسن بن إسحاق التنوخي .)) ص 20، وآخرون كثيرون.
وإذا كان المتنبي قد مدح أشخاصاً بما ليس فيهم، ومدح بعض الط
08-أيار-2021
07-أيلول-2009 | |
08-شباط-2009 | |
01-شباط-2009 | |
كتاب: الحب بين المسلمين والنصارى في التاريخ العربي.لعبد المعين الملوحي |
24-كانون الثاني-2009 |
28-تشرين الأول-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |