الطريق إلى قصيدة النثر «وحيداً كذئب الفرزدق» مختارات لأمجد ناصر
2008-03-29
خاص ألف
ليست هذه المختارات الشعرية الأولى التي تحتفي بتجربة الشاعر الأردني أمجد ناصر، فقد صدرت بالعربية من قبل (أثر العابر) و(تعويذة لدخول البيت)، كما صدرت لقصائده مختارات بلغات أخرى.. لكنّ الذي يعطي لهذه المجموعة الصّادرة حديثاً عن دار ممدوح عدوان بدمشق أهمية ومكانةً بين المختارات الأخرى للشاعر، هو أن معدّها الناقد صبحي حديدي قد اختارها على أسس تستند إلى تقديم الملامح العامة لشعرية صاحبها، منذ (مديح لمقهى آخر) عام 1979، وحتى (حياة كسرد متقطع) عام 2004. مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه التجربة ما تزال مستمرة. ويرى حديدي في تقديمه للكتاب تحت عنوان (هاجس الشكل وشعرية الاتقاء) أنه اختار ما رأى أنه يجسد بنيات مسعى ناصر المركزي وهو:(أنه يجهد للانتقال بشكل قصيدة النثر العربية المعاصرة إلى مصاف أخرى أشد رقياً، وأكثر مشقةً وتعقيداً) صفحة 24. يأخذ حديدي العنوان (وحيداً كذئب الفرزدق) من قصيدة (رعاة العزلة) حيث يقول الشاعر: (أرأيتموه/ وهو يدخل في العواصم/ وهو يخرج منها / ناحلاً/ ومبتلاً كريش الحمام/ هائماً كنبيٍّ/ وحيداً كذئب الفرزدق؟) ص 97. إنَّ هذه الجملة، كعنوان، تعبّر بدقةٍ وحذقٍ عن حالة صاحب (حياة كسرد متقطع) الذي انطلق بميراثٍ بدويٍّ منشداً، وفق معطيات حداثية، التّوحدّ والعزلة والقلق والتّرحال. فأمجد ناصر، بالاسم الشعريّ، ويحيى النعيمي، بالاسم الأصليّ، في تمزقه بين اسمين وعالمين، عمل على تأليف حياةٍ لا تعاش إلا في القصائد، حياةٍ وجد لها اسماً عنون به ذروة إنتاجه حيث جعلها (كسرد متقطع).. فالكتابة الشّعرية، على الدوام، كانت لديه محواً على أنَّ المحو تأليف آخر. هكذا استبدل الاسم الأوّل، والمكان الأوّل، والسّماء الأولى... إلخ. واستبدال، أو إسقاط، هذه الأشياء ليس بمعنى التخّلي عنها، بمقدار ما هو إدخال لها في نسيج النّصّ وكأنّها لم تكن موجودة من قبل، فالنّص وحده الوجود، وكلّ ما يقع خارجه لا يكون واقعاً إلا حين يدخل في أتونه. وما أكدّ هذا أنَّ الشاعر في لقاء تلفزيونّي في برنامج (روافد) قال بأنّ عنوان مجموعته الأخيرة هو حياة كسرد متقطع، بقدر ما هو سرد كحياة متقطعة.. وكأنه كان يرمي إلى ذلك الاشتباك بين العيش والكتابة.
في السّطر الأخير من مقدّمة (الأعمال الشعرية) لأمجد ناصر، كتب عبّاس بيضون: (ولا بّد أنّ هذا الكتاب نوع من اكتمال، ولا بّد أنَّ الشاعر في سبيله إلى رحلة أخرى). يومذاك كان رصيده خمس مجموعاتٍ، تختلف وتأتلف، فإذا كانت الخيوط الواصلة بين (مديح لمقهى آخر) و(منذ جلعاد كان يصعد الجبل) و(رعاة العزلة) تنطلق من مفردات (العالم الأردني) بألفاظه ومناخاته وبدواته، مع حيوية تعبيرية في تشكيل نص ذي غنائية خاصة، بلغة أرضية، نابعة من ذات تتقاطع مع الجماعة في صيرورات التحول والانتقال. فالبدو العشيرة، أبناء الصحراء، تريفوا، واستقروا كمزارعين، وبات فيهم الموظف والتاجر والمهرّب. فكرة التحول المنطبعة بقسوة في الوجدان، ستنضخ في القصائد، حين يعبّر عنها على شكل ومضات تلمع بها ذاكرة لا تكف عن التوهج، لاحقاً، ولتكن قصيدة (قرفصاء) مثالاً على ذلك: (ليس لأنهم غادروا القرى/ والمضارب المجنحة افتقدوا الحنين/ إلى جلسة القرفصاء/ قرفصاء:/ نصب لأجسام تحلم على ساقين/ في هيئة زاوية منفرجة/ العيون مغارف الكلام/ والتبغ يدور على الأيدي التي تخض الهواء/ مساومات ونوادر مغلقة بشمع المساء المسهب/ نزاعات على النسب الأوّل للقبيلة المحاورة/ والجد الثالث للحصان المحجل/ شاي بالقرفة يفض الاشتباك/ آهة مطعونة بشبرية الوله/ تشلع القهقهات من الحنايا/ وفجأةً تهب رائحة المرأة/ وتطقطق العظام/ قرفصاء:/ يمكنك أن تفعل ذلك/ على أبواب المسارح/ وأقسام الشرطة/ في البعيد المضبب/ في قاعات الترانزيت/ وأمام رجال مكافحة الإرهاب/ بوجهك المقطوف من حقل شعيرٍ/ تجلس القرفصاء أنى شئت/ ولكن../ أكل القرفصاء/ قرفصاء؟!) ص 109.
بعد ذلك، كما يقول صبحي حديدي في المقدمة (منذ مجموعته الرابعة (وصول الغرباء) شرع ناصر في تكريس تقليد يعذر أن نعثر عليه ـ بهذه الدرجة من الصفاء والقصدية وحسن التنفيذ ـ في معظم المشاريع المكتملة التي تصنع مشهدية قصيدة النثر العربية المعاصرة: تكريس مجموعة بأسرها لموضوعة واحدة، أو لسلسة تنويعات ضمنة موضوعة واحدة جامعة) ويتابع منحازاً إلى هذا التوجه: (فضيلة هذا التقليد أنه يمنح الكتابة الشعرية طابعاً (غائيّاً) وتعاقدياً) في مستوى التنفيذ الجمالي للنص الشعري، أو بالأحرى: الترجمة الفنية للمعنى). ففي (وصل الغرباء) أخذ بكتابة فصول التغريبة اللندنية، بالسرد، واستدعاء الذاكرة البدوية في أرضها الأولى، وباللغة الصلبة، لمواجهة وحش التيه.
بعد ذلك، في (سر من رآك)، أفرد مجموعة كاملة للحب، محتفلاً بالجسد ورغباته وشهواته. ثم، في (مرتقي الأنفاس)، كانت المغامرة مزدوجة، فناصر الذي يكتب قصيدة نثر حداثية، يذهب إلى موضوع كلاسيكي شائع، هو سقوط غرناطة. لكن الذي حدث أن المجموعة حققت نجاحاً فنبياً متميزاً، بتماهي الشاعر مع أبي عبد الله الصغير، حيث جعل منه نموذجاً تراجيدياً يمثل الخسران، نافضاً عن صورته الغبار الذي أحاطته به مدونة التاريخ العربي. الأهم هو نجاح هذا المشروع في تحديه (غناء الذات وملحمة الجماعة).
بعد هذه المجموعات التي صدرت في مجلد (الأعمال الشعرية) كتب (كلما رأى علامة)، لكنه لم ينشره إلا بعد (حياة كسرد متقطع) رغم أنها مكتوبة لاحقاً، وذلك نتيجة لظروف النشر. وهنا نعود إلى جملة عباس بيضون السابقة، والتي رأى فيها ضرورة الخوض في منطقة أخرى، وفعلاً هذا ما سيكون مع مجموعة(حياة كسرد متقطع) المجموعة التي لاقت ترحاباً نقدياً كبيراً آن صدورها، ففيها شكل مختلف تماماً لقصيدة النثر التي ألفناها لدى جيل أدونيس وأنسي الحاج، إذ لا يختلف الشكل العمراني عن شكل قصيدة التفعلية إلا من حيث التخلي عن الوزن. فالقصيدة ههنا كتلة طباعية واحدة، يمتد سطرها من أقصى يمين الصفحة إلى أقصى يسارها ونلاحظ، في (وحيداً كذئب الفرزدق) شدة اهتمام المعدّ بهذه المجموعة بالذات، خصوصاً وأنه كان كتب مقدمة نظرية للمجموعة نفسها.
في ملف شديد الأهمية عنوانه (هذه هي قصيدة النثر العربية المطلوبة) كتب الشاعر عبد القادر الجنابي منبهاً إلى الفارقين الشكلي والمضموني بين قصيدة النثر والقصيدة الحرة: (من الخطأ الكبير أن يسمي شاعر قصيدته قصيدة نثر، وقد اعتنى بتقطيعها موسيقياً متوسلاً كل المحاسن الشعرية باستثناء التفاعيل، ما يجعلنا نقول إنه لم يبق من النثر شيئاً فيها) وفي الملف نفسه يميز بدقة بين الاصطلاحات في الشعريات الغربية ليصل إلى نتيجة مفادها أن شكل الكتلة النثرية الصرف، هو غير من يعبّر عن مصطلح قصيدة النثر عالمياً، وهو ما ينطبق على هذا العمل الشعري. أمجد ناصر لا يتخلى عن مشاغل الشاعر، بسرد لحظات جوانية، وربط الصوفي والسيري بالواقعي والمشهديّ، واصلاً إلى الشعر عن طريق النثر، بما فيه من ربط وعطف ووصف وجر، مع تخفيف للاستعارة والبلاغة اللغوية الخارجية. هكذا يتسنى له أن ينضح ذاكرته بسلاسة وهدوء، وأن يصنع حبكات درامية لا تخضع لشروط كأن يتحدث عن (رقم طينية) رآها في الطفولة في ساحة شعبية بعمان، وحملها بيديه فسمع أصوات الأسلاف، ورأى الملوك، والقصور وأسرى الحروب... إلخ، ليعود ويراها ثانية بعد عشر سنين في متحف ببرلين، وحين سيحملها كما في السابق سيأتيه هاتف يدعوه إلى رميها والصوت يصرخ: (أرمه. ليس باليد التي سيأكلها الدود تحمل عبء الأبد) صفحة 234.
(وحيداًً كذئب الفرزدق) فرصة ثمينة للاكتواء بلهيب شعري، يؤججه بدوي ما يزال يواصل مغامرته في البحث، ولكن دون الوصول إلى مستقرٍ.. وهذه ميزه هذا السندباد الشعري.
08-أيار-2021
30-تشرين الثاني-2019 | |
16-تشرين الثاني-2019 | |
09-تشرين الثاني-2019 | |
02-تشرين الثاني-2019 | |
30-أيار-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |