رحلة إلى جيفرني
2008-05-08
يرتبط اسم قرية جيفرني باسم كلود مونيه وكأنه رديف له. اكتشف معلّم الانطباعية الأكبر هذه القرية الصغيرة في عام 1883 فافتتن بها واقتنى منزلا وحديقة شكلت صورهما مادة تشكيلية غنية استعادها في أعماله الفنية على مدى أربعة قرون من الزمن. في السبعينات من القرن الماضي، رُمّم منزل مونيه المهجور وأُعيد تأهيل حديقته، وتحوّل المقرّ إلى متحف يقصده سنويا ملايين السياح. منذ افتتاحه في عام 1981، يقيم هذا المتحف بشكل متلاحق تظاهرات تشكيلية ترتبط ارتباطا عضويا بهذا الموقع، أحدثها معرض عنوانه "رحلة إلى جيفرني" يلقي الضوء على تجارب فنية استلهمت صورها وألوانها من هذه القرية، منذ زمن مونيه إلى بداية القرن الحادي والعشرين. نشأ كلود مونيه في مدينة لو هافر، شمال غرب النورماندي، بالقرب من نهر السين. في الحادية والعشرين من عمره، سافر إلى الجزائر ليؤدي فيها الخدمة العسكرية، وعاد منها بعد سنتين ليستقر في باريس حيث دخل كلية الفنون الجميلة. بدأ طالب الفن بمتابعة الدراسة الأكاديمية، غير أنه سرعان ما ابتعد عنها، متخذا من تجربة الرسام الهولندي يوهان يونكيند مثالا له، فخرج من المرسم، وبدأ بمزاولة الرسم في الهواء الطلق. في تلك الفترة، تعرّف مونيه الى مجموعة رسامين هجروا مثله غرف المراسم المغلقة لينقلوا تحولات الصور وانعكاسات الأنوار والظلال مباشرة، "من العين إلى اللوحة". في عام 1874، أقام هؤلاء الفنانون الشبان معرضا جماعيا في قاعة خاصة على هامش "الصالون" الرسمي، غير أنهم لم يحصدوا النجاح الذي كانوا ينتظرونه. سخر صحافي فرنسي يدعى لوي لوروا من هذه الجماعة وأطلق عليها هازئا لقب "الانطباعيين"، في إشارة إلى لوحة من توقيع مونيه تصوّر ميناء لو هافر، وعنوانها "انطباع: شروق الشمس". زنابق الماء كان الفنان في الرابعة والثلاثين من عمره عندما قدّم مع رفاقه خلاصة هذه التجربة التشكيلية الجديدة في هذا المعرض، وثابر معهم في اختبار هذا الأسلوب الذي شكل مفصلا أساسيا في ولادة الحداثة، وتميز بغزارة إنتاجه المتواصل حتى وفاته في عام 1926. كرّس مونيه نفسه للرسم، وخلت حياته من أي عنصر "مثير"، على عكس المشاهير من الفنانين "الملعونين"، أمثال فان غوغ وغوغان. ويمكن القول إن التجربة الأليمة الوحيدة التي صوّرها كلود مونيه خلال حياته تمثل كاميليا دونسيو، قرينته ورفيقة دربه، على فراش الموت. تعرّف الفنان على كاميليا في شبابه، وأحبّها وتزوّجها، وعاش إلى جانبها إلى أن توفيت في عام 1879 قبل أن تبلغ الأربعين. بحسب تعبير بول سيزان الشهير، لم يكن مونيه "سوى عين، ولكن أي عين!". تفوّق صاحب هذه العين على رفاق دربه، وكُرّس في نهاية حياته كأكبر الانطباعيين كافة، وهو لا يزال متربعا على هذا العرش إلى يومنا هذا. أراد مونيه التقاط تحوّلات الأشياء والعناصر المرئية، وتسجيل هذه التحولات على لوحته، رافضا كل ما يخرج على حدود هذا الميدان. تجلى هذا التوجه في لوحات جاءت على شكل مجموعات تصوّر المشهد نفسه في ساعات مختلفة من النهار، أشهرها سلسلة "كاتدرائية روان" التي أنجزها بين 1892 و1894، وسلسلة "زنابق الماء" التي صوّرها في سنواته الأخيرة في قرية جيفرني التي جعل منها "حديقة" خاصة به. اكتشف الفنان هذا الموقع للمرة الأولى في النورمندي، ربيع عام 1883، وكان يومذاك أرمل في الثانية والأربعين من عمره. في هذه القرية التي يقيم فيها أقل من ثلاثمئة فرد، استأجر مونيه منزلا صغيرا واستقر فيه مع صديقته أليس هوشيديه، برفقة أولاده وأولادها. افتتن الرسام بطبيعة القرية وبدأ باستعادة صورها وعناصرها في سلسلة من الزيتيات. في تلك الفترة من حياته، ذاق مونيه طعم النجاح، وازداد اهتمام الذوّاقة بإنتاجه التشكيلي. في عام 1893، اقتنى الفنان قطعة أرض في جيفرني وشيّد منزلاً وحديقة مائية من الطراز الياباني، في زمن انبهار الكثير من فنّاني عصره بالفنون الآسيوية الآتية من الشرق البعيد. جعل مونيه من حديقته مرسما خاصا به، فبنى فوق البحيرة الصغيرة جسراً يربط بين ضفتيها، وزرع فيها طائفة من زهور البنفسج المائية. على مدى أربعة عقود من الزمن، استمر الفنان في تصوير حديقته الخاصة حتى آخر رمق من حياته. في السنوات الأخيرة من عمره، شحّ بصره، غير أنه استمر في الرسم بشكل متواصل، ولامس في إنتاجه الأخير حدود ما عُرف لاحقا باسم "التجريدية الانطباعية". التحفة الكبرى تحولت حديقة مونيه إلى عالم خاص بالفنان لا يدخله إلا القليل من أهل الحظوة. في معرض "رحلة إلى جيفرني"، نتعرف الى أعمال فنانين أميركيين لحقوا بالحلم الفرنسي وعملوا إلى جواره في هذه الحديقة التي جعل منها "تحفته الفنية الكبرى" بحسب تعبيره. أبرز هؤلاء الرسامين جون ليسلي بريك وفريديريك فريسكي، وهما من أشهر الانطباعيين الأميركيين. دخل بريك جيفرني في نهاية الثمانينات، وأنجز فيها لوحات تنتمي إلى الرومنطيقية الإنطباعية المحافظة. أما فريسكي، فقد وصل إلى هذا الموقع السحري في مطلع القرن العشرين، وصوّر فيها لوحات تبدو كلاسيكية بالمقارنة مع إنتاج مونيه في تلك الفترة. إلى جانب أعمال بريك وفريسكي تحضر أسماء أخرى تنتمي إلى هذا المسار المحافظ. نشاهد زيتيات من توقيع تيودور روبنسون وتيودور باتل تقارب انطباعية مونيه في سنواته الأولى ومهنية بيسارو المنضبطة. بعد رحيل مونيه، سكن بعض أعضاء عائلته في جيفرني إلى أن اندلعت الحرب العالمية الثانية. هُجر البيت وجفّت بحيرته الصغيرة، وفي مطلع الستينات عهد ابن الفنان الراحل بهذه التركة الكبيرة إلى متحف مارموتان. في مطلع السبعينات، بدأت أعمال الترميم، فاستعاد الموقع مجده الأول، وفُتحت أبوابه أمام الجمهور في عام 1980. على رغم ما أصابها من إهمال في الخمسينات، ظلت حديقة جيفرني حية في ذاكرة الفنانين، وقصدها البعض منهم، فأقاموا فيها لفترات قصيرة، وصوّروا معالمها بأساليب جديدة تشهد لتحولات الحداثة في الخمسينات. أشهر هؤلاء الفنانين الأميركية جوان ميتشل، وهي من رواد التعبيرية التجريدية، عاشت بين نيويورك وباريس حتى رحيلها في عام 1992. اشتهرت هذه الرسامة بزيتياتها ذات الأحجام الجدارية، وتميزت بأسلوبها الغنائي الصارخ. مثل ميتشل، أحب إلثورث كيلي باريس، وفيها أكمل دراسته في الأربعينات، ولعله أوّل من "عاد" إلى جيفرني في مطلع الخمسينات. من الأعمال التي أنجزها الرسام في هذا الموقع التاريخي، يعرض المتحف "لوحة خضراء"، التي أُنجزت بالأخضر فحسب، وتصور بحسب صانعها "الأعشاب في عمق المياه"، مما يُعيد إلى الذاكرة المشهد الذي استعاده مونيه مرارا في سنواته الأخيرة. المعلّم الأكبر بعد تأهيلها في السبعينات، عادت جيفرني لتستقطب الكثير من الفنانين المعاصرين، ويبدو أن غالبيتهم العظمى من الأميركيين. ندخل عالم ما بعد الحداثة عبر أعمال تمثل توجهات متعددة الآفاق. يرسم مارك تانسي الزهور المائية باللون الواحد مذيبا معالمها في محيطها. في المقابل، تقدم نيرندا ليشتنستاين من خلال الصورة الفوتوغرافية مساحات تجريدية تقارب اللغة التشكيلية الصرفة. تلتقط الكاميرا تفاصيل الشتل المتلألئة، وتعيد الفنانة إبراز تقاسيم هذه الشتل بأسلوب يجمع بين الميراث الياباني والروحية الانطباعية الخاصة بمونيه. يجرّد إريك وولف جسر البحيرة من تفاصيله ويجعل منه إشارات مخطوطة بالحبر الأسود. على العكس، يمعن ويل كوتون في تصوير الطبيعة الصامتة بأدق تفاصيلها، مقاربا في محاكاته الصورة الفوتوغرافية. على هامش كل هذه الأسماء الأميركية، يقدم البريطاني دان هايز صورا فوتوغرافية تماثل إنتاج الانطباعية الكلاسيكية. وسط هذه الأعمال، تتوهّج زيتيات المعلّم الانطباعي الأكبر وتبدو في توهّجها الأعمق أثرا والأكثر حداثة. هي عين مونيه: "ليست سوى عين وليس أيّ عين!" |
08-أيار-2021
قولوا للثوّار يضلّن ثوّار/تدمر انتهت من الأرض/صارت الصرخة وصارت النار |
16-حزيران-2015 |
29-آب-2011 | |
06-حزيران-2008 | |
08-أيار-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |