ثمة حديث عربي مروي يقول: "الواحد شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة نفر". كما يروى عن معاذ بن جبل، في السياق ذاته،
أنه قال: "عليكم بالجماعة فإن الذئب إنما يطمع في الشاة القاصية". هذه الفكرة كانت أقرب إلى سلاح مقيم في يد معظم السلطات الممتدة على مر التاريخ الإنساني، وبها استطاعت أن ترهب النزعة الفردانية التي من الممكن أن تشتهيها روح الإنسان الفطرية. فالقطيعية، بمنطق تلك الفكرة، هي الحماية في حين تكون الفردانية هي الخطر!. وبالتالي عزفاً على، وتطبيقاً لـ غريزة البقاء، الغريزة الإنسانية الأقوى، سينصاع الإنسان إلى الجهة التي تضمن له الأمان الأكبر لاستمرار وجوده لينضوي بالتالي ضمن الحشود والقطيع ويبتعد عن الفردانية والتفرد، وبهذا تضمن السلطات المتعاقبة والمختلفة، المستفيد الأكبر من ذلك، ألا تنم أية حركة تفكيرية، أو عملية، خارجة عن قطيعها الذي يُقاد بعصاها ذات المتظهرات المختلفة والمتبدلة حسب مقتضيات العصور. (طبيعة الأشياء) هو الكتاب/ القصيدة التعليمية المشهورة للشاعر الروماني لوكريت، وقد كتبها في العام 55 ق.م. يحاول لوكريت أن يشرح فيها فلسفة أبيقور (الفيلسوف اليوناني المعروف 342- 271 ق. م) حول تحرير عقول الناس من المخاوف (الدينية). وتلك القصيدة، برأي الكثيرين، هي التي استطاعت نقل وشرح نظرية أبيقور للعامة. حيث يقول لوكريت في الخلاصة: (سيريس أعطت الناس القمح، ليبير أعطاهم النبيذ، وأبيقور أعطاهم علاجات الحياة). وعلاجات الحياة تلك التي أتى بها أبيقور تتلخص في البنود الأربعة التالية: أولاً الغيب لا يخشى منه، ثانياً الموت لا خطر منه، ثم إن السعادة يمكن الوصول إليها ثالثاً، ورابعاً وأخيراً كل ما يخيف يمكن احتماله. هذه العلاجات الأربعة تتكثف حول فكرة أساسية يكمن كنهها في أن الإنسان الذي يتجنب الفردانية ويخشى التفرد، بسبب خوفه الغريزي، ينبغي عليه أن يتخلص من خوفه هذا، فالميتافيزيقيا الغيبية التي تشكل الخشية الأولى (الواعية) للإنسان،لا يخشى منها، حسب أبيقور بالطبع، والخوف الثاني الذي هو النهاية (الموت)، أي غريزة البقاء التي تحدثت عنها آنفاً، الذي يحيل الإنسان إلى القطيعية لا خطر منه أيضاً.
والسعادة التي تحققها الفردانية يمكن الوصول إليها، فيا أيها الإنسان لا تخف، فكل ما يخيف يمكن احتماله!، ومرة أخرى حسب أبيقور بالطبع. إذاً، وبعبارات أخرى، يرى أبيقور أنه من الواجب التغلب على الخوف من الموت بجنون الحياة اللحظي، ذلك الجنون الذي لا يزعزعه شيء، وهو إن استطاع أن يتخلص من سيطرتنا الأزلية عليه يكون أقوى من رعب الموت. لذلك كانت فلسفة أبيقور فلسفة اللذة المادية (المادة كوجه للحقيقة)، الفلسفة المبنية على عصمة الحواس عن الخطأ، أي أن أي شيء تخبرنا به حواسنا صحيح، ويجب علينا قبوله. والنظرية الأبيقورية، التي عرفت بالنظرية الذرية، ترى أن كل الأشياء يمكن تقسيمها إلى الذرات المكونة منها (الذرة المكانية والذرة الزمانية). نموت فتتحلل أجسادنا إلى الذرات المكونة لها، والذرات لا تفنى بل يمكن جمعها ثانية لتكوّن أجساداً جديدة، وكذلك الأرواح ينطبق عليها الشيء ذاته. هذه الفكرة/ النواة التقمصية ربما استطاعت أن تريح الإنسان من مخاوفه الناجمة عن الموت/ الفناء وعن العقاب في العالم الآخر الذي أتت به الأديان لاحقاً. إذ ليس هناك سوى رؤى ولحظات (لحظات الحياة ولحظة الموت) وكثافة اللحظة هي العلاج الوحيد للخوف البشري. من الممكن ملاحظة أن هذه الأفكار تصبّ بشكل أساسي في تقوية القاعدة الذهنية الذاتية التي يقوم عليها إيمان الفردانية، فالإنسان المتسلح بهذه الشجاعة، التي تهبه إياها الأفكار السابقة، يغدو متحرراً من أي خضوع تلزمه به القطيعية للنجاة والخلاص. هو لا يخشى الغيب أو السلطة أو الفناء ويمكنه أن يمسك بسعادته الأبدية مسك اليد. فالفردانية على هذا هي الخلاص الأكبر والأجمل والأكثر متعة وحرية. خصوصاً وأن أهم مبادئ القطيعية أو الحشود الأساسية تتركز في مزج الفرد بالجماعة بطريقة غير قابلة للفصم. فالفرد مثلاً يعاقب بجريرة الجماعة، وتعاقب الجماعة بالتالي بجريرة الفرد، مما يزرع في داخل كل فرد من الجماعة عقدة الذنب، فإن هو أخطأ وفكر في فردانيته فإنه يجني على الجماعة كلها، ولربما غير معطيات مستقبلها وتاريخها!. والفرد على هذا أيضاً يستطيع التغلب على موته الجسدي بأن يرتفع إلى مستوى الوعي الكوني عبر التأمل العقلي. وهذه الفكرة الكونية (أو وحدة الكون والوجود والكائنات) تكلم عنها الكثير من الكتاب والفلاسفة والمبدعين (طاغور، غوته، والت ويتمان، ابن عربي والصوفيون عموماً... إلخ). ربما لتلك الأسباب كان تلامذة أبيقور، بوصفهم ذرات زمنية وذرات اجتماعية مكانية، يفضلون الوحدة أو التجمعات البشرية الصغيرة على الحشود والمدينة، خصوصاً وأن معلمهم كان يقول: (إن كل حشد هو عاصفة). ومن نافل القول التركيز على تبعات العاصفة من تشويش وغوغائية وقطيعية تذهب بكل ما يأتي في طريقها. فالأفراد الفخورون والمستقلون هم نقيض للحشود برأيه. بالانتقال إلى الحقل اللغوي من فلسفة أبيقور فقد عمل المذهب الأبيقوري، الذي هو في الواقع مذهب ابن سينا ذاته، على جعل اللغة شيئاً دون ثقل، ترف فوق الأشياء كغيمة، كما رأى أيتاليو كالفينو في معرض حديثه عن أشكال الأدب، أو ربما بدت اللغة عندهم مثل غبار ناعم أو حقل من نبضات مغناطيسية. هذا النوع من الكتابة (الذرية إن صح التعبير) تعارض اتجاهاً مخالفاً في الأدب يحاول أن يجعل للغة كثافة وثقلاً (ثقل التعابير والأفكار والإيديولوجيات والشخصيات والمشاعر والعواطف وما إلى ذلك) ويجعل للأشياء والأجساد والأحاسيس ملمساً بالتالي كلغة دانتي، على سبيل المثال، والتي رآها كالفينو تعارض اللغة (الأبيقورية) معارضة تامة. هل من الممكن أن ننظر إلى الفكرة الأبيقورية في اللغة باعتبارها قادرة أولاً على تخليصنا من خوفنا، الذي يرتبط برقيب مقيم في عقولنا المبدعة لتلك النصوص؟! وباعتبارها قادرة أيضاً على وهب نصوصنا حقنة من الشجاعة التي وهبتها قبلاً لأرواحنا؟!. ولنا أن نتخيل كم ستكون لغتنا حرة عندها ومتخلصة من رعب الموت/ الفناء الإبداعي وعبئه المكبل، كما أنها، بالدرجة الثانية، ستهب اللغة الخفة الذرية ذاتها التي تهبها لأجسادنا، وحينها ستمر على عقل القارئ خفيفة، ولكنها مؤثرة بعمق، دون ثقل اللغة المقعرة ولا خطاباتها ولا تلقينها، ثم أنها ثالثاً ستحيلنا إلى المنطقة الأكثر إبداعاً: الفردانية، بعيداً عن الصوت الواحد للحشود والخطوة الواحدة للقطيع، وهنا ستتمايز اللغة، ذلك التمايز الذي يخلق التنوع والتلون والتراكمية والطفرات... إلخ، وتختلف الشخصيات السردية والأفكار المبتكرة المتوالدة وما إلى ذلك. هل تعود علاجات أبيقور لإنقاذنا على مستوى فهمنا لذواتنا وتصالحنا معها؟ وهل تعود لتجعلنا أكثر فهماً للنص وأشد قناعة بتفرد اللغة في إنتاجها/ إبداعها أو في تفكيكها/ قراءتها؟ أعتقد إن حدث ذلك (وسأسمح لنفسي بالحلم) أننا سندخل حينها في مناطق أخرى مغايرة نكون فيها أكثر سلاماً مع أنفسنا ومع الآخر، وأكثر اعتداداً بفردانية مغمورة، وأغنى بكثير إبداعياً.
ملحق ثقافي
15/7/2008
روزا ياسين حسن