منزلة المِثليين في خطاب الإسلاميين القرضاوي نموذجا
2006-10-23
حين سئل الشيخ القرضاوي عن المساحقات والعقوبة التي حددت بشأنهن اكتفى بعرض أقوال القدماء معتبرا أنّ ممارسات النساء أقلّ خطورة من ممارسات اللوطيين لكونها لا تقوم على استدخال عضو في آخر وإنّما هي مجرد ملامسات. وكالعادة لم يكلّف الشيخ نفسه عناء البحث والاستدلال ولم يحاول أن ينظر إلى الموضوع من زاوية جديدة فيها إلمام بالعوامل المؤدية إلى ظهور مثل هذه الممارسات وإنّما كان همّه إبراز رأي "الشريعة" في اللوطيين. وعبّرت بعض الآراء التي قدّمها القرضاوي عن تصوّر محدّد للجنسانية مفاده أنّ اللذّة قائمة على فعل الجماع وحده، أي على الجنسانية السائدة ولا يمكن أن تتأتى من أشكال أخرى من الممارسات الجنسية. ولئن عرضنا في المقال السابق موقف السلف من اللوطيين فإنّنا ارتأينا أن نبيّن كيف تعامل القدامى مع السحاقيات وكيف واجهوا هذه الممارسات؟
تختلف نظرة المجتمع إلى الجنسانية باختلاف الجنس. وقد عكست النصوص هذا التمييز بين الرجال والنساء حينما توسّعت في الإخبار عن اللوطيين، فتلك مهارات ذكورية تومىء إلى تفجّر طاقة شهوية تفنّد ما استقر في الأذهان من أنّ غلمة المرأة تفوق شهوة الرجل. وفي المقابل سكت أغلب الرواة والمؤرخين عن ممارسات النسوان الجنسية فلا نكاد نعثر إلاّ على بعض النتف من الأخبار المبثوثة في ثنايا كتب اهتمت بمواضيع ذات وشائج بالأدب والتاريخ والتصوف وغيرها. ولعلّ الثقافة العالمة، بهذا التهميش، قامت بعملية حجب كلّ ما له علاقة بحياة المرأة الجنسية. وهو أمر يبيّن الصلة المتينة بين الذَكَرِ والذِكْرِ. فما دوّن له، في الغالب علاقة بالذَكَر، أي بالرجل لا بالمرأة.
ورغم تهميش العلماء السحاق، فإنّ الدلائل تثبت أنّ هذه العادة عرفت في المدينة وفي بغداد وفي الأندلس وفي غيرها من الأمصار واستشرت، بالخصوص في قصور الخلفاء بين النساء، سواء كنّ من الجواري أو الحرائر. وفي مقابل ذلك ندر وجود السحاق في البادية. ومازالت الممارسة حاضرة في الواقع المعيش، حتّى وإن حاولت الذاكرة الجماعية تجاهلها أو التقليل من شأنها. وربّما يعود السبب في ذلك إلى أنّ السحاق مخيف فهو يتحدّى الفحولة في العمق ويستفزّ السلطة الاجتماعية ويتحدّى نظمها ومؤسساتها.
غرابة أن يهمل الفقهاء النظر في هذه الممارسة وأن لا يفردوا لها مبحثا خاصّا لبيان الأحكام الخاصة بالسحاق، غاية ما يعثر عليه الباحث بعض الإشارات التي لا تتعدّى التنديد بالظاهرة والتحذير من خطر العدوى والدعوة إلى ضرورة إحكام السيطرة على النساء وقصرهنّ في البيوت ومنعهنّ من دخول مواضع الشبهة نحو الحمامات. فقد أقرّ التلمساني والونشريسي وغيرهما ب"مفسدة" تفشت في العصر وجعلت منع النساء من دخول الحمام أكيدا وهي "تحرّك شهوة التفاعل الذي يختار بعضهنّ لذته عن مباضعة الرجل".
وهكذا تمارس الثقافة الوأد بتقنينها للمجالات المعرفية. فالسحاق من المواضيع التي لا يجب الخوض فيها حتّى على مستوى التخيّل لأنّ ما يمكن تصوّره نكاح الرجل للمرأة أو نكاح اللوطيين أمّا أن يتحوّل الجسد الأنثوي إلى موطن لذّة المرأة نفسها فذاك أمر لا يسوّغه مسوّغ. فهذا ابن قيّم الجوزية يعدنا بتقديم "الجواب الشافي" ولكنّه حين يتطرّق إلى السحاق سرعان ما يطلق العنان لنفسه ليتحدث عن حكم تلوّط الرجل مع مملوكه الذي سبق أن خاض فيه في مواضع أخرى من كتابه. ولكن أهو الاستطراد أم الحرج الذي يصيب الفقيه أم هو الإقصاء المتعمّد؟
لقد حاول الأطباء تفسير علّة السحاق فاعتبر بعضهم أنّ أصل "الداء" خلقة في النساء بينما رأى فريق آخر أنّ السبب راجع إلى تأذي المرأة من ذكر الرجل أو كراهتها له. ورأى آخرون أنّ "السحق يتولّد من تغذّي المرضعة الكرفس والجرجير والحندقوق، فإنّها إذا أكثرت منه وأرضعت صار عادية ذلك إلى شفري المولودة. فتتولّد هناك الحكّة". وانتبه التيفاشي إلى العوامل الاجتماعية المتخفية وراء هذه الممارسة، فذكر أنّ السحاق عادة تتمكنّ ببعض الجواري منذ الصغر "حتّى يبلغنّ عليه، فيبقين يشتهينه". ولكنّه لم يصرّح بالأسباب الخفية التي تدفع الجواري إلى السحاق مثل قرب الفراش، ونعني بذلك جمع آلاف الجواري في قصور الخلفاء وهجرهنّ شهورا طوالا فيكون السحاق في مثل هذه الحالة سدّا لحاجات جنسية ضاغطة في مجتمع جعل الخليفة يعدد الحرائر ويتسرّى بعدد لا يحصى من الجواري. وكثيرة هي النصوص التي تشير إلى شكوى النساء قلّة الإتيان وعيشهنّ على الهامش. وبذلك كان السحاق في كثير من الحالات، شاهدا على البؤس الجنسي.
وأرجع الجاحظ علّة السحاق إلى جهل عدد من الرجال مواطن اللذة لدى المرأة، الأمر الذي يدفعها إلى البحث عن البديل، والبديل هنا هو المرأة التي تعرف أسرار الجسد الأنثوي. قال الجاحظ: "ومن أكثر ما يدعو النساء إلى السحق إذا ألصقن موضع مَحزّ الختان وجدن هناك لذّة عجيبة، وكلّما كان ذلك منها أوفر كان السحق ألذّ، قال: ولذلك صار حذّاق الرجال يضعون أطراف الكمر، ويعتمدون بها على محزّ الختان، لأنّ هناك مجتمع الشهوة ".
ونرجّح أنّ مفهوم السحق قد اختلف من عصر إلى آخر ومن وسط إلى آخر. فإذ اهتممنا بالمساحقات اللواتي عشن في قصور المماليك، تبيّن لنا أنّ سلوكهنّ كان يتماثل مع سلوك الرجال. فقد وصفنّ بأنّهنّ كنّ فارسات يتقنّ شتى أنواع الرياضة ويمارسنّ عددا من الألعاب، كما أنّهنّ عرفن بكثرة مجونهنّ. ومن ثمّة كان سلوكهنّ سلوك المترجلات ولعلّ السحاق، في مثل هذه الحالة، علامة على تماهي المرأة مع شخصية الرجل رغبة في الانفلات من الضغوط النفسية والاجتماعية ولذلك فإنهّ اقترن بالتذكّر.
لئن كانت المباضعة بين الرجل والمرأة قائمة، في الغالب على العنف، فإنّ المساحقة ترسي نظام جنسانية أنثويّة مغايرا. فالعلاقات التبادلية التي تجمع المساحقة ببنات جنسها مختلفة عن المألوف ومعبّرة عن رغبة في البحث عن الأليف المُشاكِل وعن حرص على التآزر بين بنات حوّاء. ولعلّها لم تكن تخلو من العواطف والمشاعر التي تخفّف من وطأة ما كانت تعانيه بعضهنّ من ظلم. وقد استنكر الوزّان عند الحديث عن العرّافات بفاس تجاهرهنّ بالعشق. قال:
" فإذا كانت امرأة جميلة من بين اللواتي أتين لاستشارتهنّ عشقنها كما يعشق شاب فتاة وطلبن منها قبلات غرامية". وما من شكّ في أنّ الظلم الذي عاشته الحرّة والقهر الذي شعرت به الجارية قد خلق لحمة بينهما فتلمست كلّ منهما في السحاق المتنفّس فإذا بالمساحقة تعطف على معشوقتها وتوفّر لها الحبّ والحنان. ولم يكن المجتمع ليتقبّل تحدّي المساحقات لسلطة الذكور لأنّ هذا الحبّ يخدش كبرياءه ويمثّل تطاولا على سلطته. فلا غرابة أن يعمد الخليفة موسى الهادي إلى قتل جاريتين بلغه أنّهما تحابتا واجتمعتا على "الفاحشة" ثمّ يعود إلى الشرب والاستمتاع مع الندماء.
لقد تجاهل أغلب العلماء أمر المساحقات، قد يكون ذلك عن قصد أو عن غير قصد، ويرجع السبب- في نظرنا- إلى كونهم لم يعتبروا السحاق استيلاء على خصائص الذكورة ما دام تدالك النسوان غير مكلّل بالولوج، وهو رمز السلطة، كما أنّ لا صلة للسحاق بقيمة النسب. فهو من منظور العلماء، شبيه بالاستمناء، خاصّة وأنّ المرأة تستمر في الاضطلاع بدور الإنجاب وتذعن لأوامر الزوج في الفراش. ولكن حين تعزف المساحقة عن الاقتران بالرجال وتتعمّد النهوض بدور مخالف لوضعها "الطبيعي" فإنّ الموقف يختلف. فإذا بالفقهاء يصرّحون بمقتهم لهذه الفئة من النساء ويحذّرون من عواقب الاختلاط بهنّ باعتبار أنّ "المساحقة زانية".
وتكمن خطورة المساحقة في رأينا في خلخلتها لنمط علاقات التبادل وزعزعتها لبناء الجنسانية المهيمنة. فبدل أن تكون المرأة مفعولا بها "تحت" الرجل تتحوّل إلى فاعلة، بل إنّها تحتلّ موضعه متشبّهة به لا في الهيئة أو الأقوال، وإنّما أيضا في الجنسانية متقمّصة دوره في الجماع وملغية بذلك حضوره، ومعنى ذلك أنّ العاشقة تنكشف وتعبّر عن رغباتها وهو أمر لا يتماشى مع مبدأ الحجب والستر الذي تتأسّس عليه الأنوثة. وهي حين تقدم على ذلك تدّعي أنّها تشبع حاجتها ولكنّها، في الواقع تتعمّد قلب التصوّر الذكوري للجنسانية لتثبت أنّ الرغبة الجنسية الأنثوية شبيهة بالرغبة الذكورية وأنّ بوسع المرأة أن تحصل على اللذّة مع المثيل.
ولم يكن المجتمع الذكوري ليقبل بمثل هذه التحولات في نظامه وبناه الذهنية ولذلك تعدّد احتماء الفقهاء بالأحاديث التي تصوّر مخاوفهم. "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله: "ثلاثة لا يقبل الله شهادة ألاّ إله إلاّ الله: الراكب والمركوب، والراكبة والمركوبة، والإمام الجائر".[13] ويصبح السحاق شارة دالة على قرب الساعة مادامت المرأة تزيح الرجل عن موضعه ودوره الطبيعي لتكتفي بالمرأة.
يتضّح إذن أنّ السحاق تحريف لوظيفة الجسد وللهدف المنشود من ورائه. فالمساحقة تجنح إلى إرضاء شهوتها متوهّمة أنّها ذكر فتوقف بذلك دورة الحياة وتهدّد الجنس البشري بالانقراض. ونستشف من وراء السحاق رغبة في التسلّط وتثويرا لجوهر الجنسانية الأنثوية التي لم تعد مقترنة بالقيام بوظيفة الإنجاب فقط، وإنّما أضحت مرتبطة باللذّة. ولذلك لجأت المساحقات إلى استعمال الأدوية التي تحبّب إليهنّ السحق لتقوية الباه تماما كما يفعل الرجال. وأعلنت أغلبهنّ عن مقتهنّ للأدوار النسائية وللأعباء الملقاة على كاهل الأنثى وما يترتّب عليها من نتائج سلبية على الجسد والنفس.
تفضي ممارسة السحاق إلى انقلاب في الأدوار، فالمساحقة تتشبه بالرجال في الجماع. وإن كُلّف الرجل بالإنفاق على المرأة، فإنّ الظريفات المعروفات بالسحق كنّ لا "يتعاشقن كما يتعاشق الرجال، بل أشدّ. وتنفق إحداهنّ على الأخرى كما ينفق الرجل على عشيقته، بل أكثر أضعافا مضاعفة". ومعنى ذلك أنّه بوسع الحرّة الغنيّة أن تمتلك الجواري وأن تتخذ إحداهنّ خليلة شأنها في ذلك شأن الرجال وبإمكانها أن تستقلّ بحياتها وأن يكون لها نشاط جنسي خاصّ. وهو أمر يحدث انقلابا في منازل كلّ من الرجال والنساء وفي منظومة أحكام المعاملات.
وإن سلّمنا بما جاء من أخبار بخصوص المساحقات، فإنّ المسألة تعدّت مجرّد رفض الجنسانية "الطبيعية" بين الذكر والأنثى لترتبط "بفلسفة" حياة كاملة وبنمط عيش مخالف للمألوف. فالمساحقات أرسين عالما خاصّا بهنّ. فمن "عادتهنّ أن لا يتناولن ما فيه مشابهة من هزّ الرجال، فلا يأكلنّ القثاء والجزر والباذنجان لأجل ذنبه، ولا الفالوذج لأنّه يتخذ للوالدات منهنّ، ولا يشربن في الكأس لطوله، ولا يشربن من القناني لعنقها، ولا من الأباريق، ولا يتناولن المراوح لذنبها، ولا يقعدن في مجلس فيه ناي ولا طنبور لعنقه، ولا يأكلن العصب ولا المبعر المحشي، والكبار منهنّ لا يصلين لأجل الركوع، ولا يتخذن الديوك ولا الحمام لفساده ولا يكتحلن لدخول الميل".
إنّ ما يسترعي الانتباه في هذا الخبر، شدّة انتباه المساحقة إلى الرموز المتخفية وراء الأشياء المحيطة بها وإلى البعد الجنساني المهيمن عليها، كما إنّنا نلاحظ مدى تحكّم المساحقة في حركاتها وإشاراتها ممّا يدلّ على شدّة انضباطها وكرهها لكلّ ما يذكّرها بعالم الرجال والقضيب في مقابل عشقها لعالم الأنوثة الخالصة ولذلك عرف عن المساحقات استعمالهنّ العطور بكثرة خارجة عن الحدّ وولعهنّ بالنظافة ولعا زاد على المألوف واهتمام بكلّ مظاهر الجمال في الملبس والأثاث والمأكل وغيره. وهذه المبالغة في استعمال العطور مخبرة عن التحوّل الطارئ على عادات النساء إذ تمّ تجاوز الأوامر والنواهي التي ضبطتها الشريعة ليصبح العطر وسيلة من وسائل استدراج المعشوقة وتحريك شهوتها: إنّه استعراض لكلّ مقومات الفتنة من ثوب إغوائي ونظافة وعطر وزينة غير أنّ هذه الاحتفالية لا تخصّ الرجل لأنّها موجّهة إلى المثيل وبذلك تضع المرأة جسدها على المأدبة ليستهلك أنثويا.
تبدو المساحقة امرأة متمرّدة على النظام الرمزي مزعزعة للتصوّرات الخاصّة بالذكورة والأنوثة راغبة في قطع صلتها بالرجل. أمّا سلوكها، فإنّه مضاد للتنشئة الاجتماعية التي يتلقاها الفرد، والتي تجعله مذعنا لسلطة المجتمع متقبّلا للقيم السائدة في عصره. فالصبيّ يدرك، منذ الطفولة اختلاف موقع كلّ من الرجل والمرأة وينتبه إلى أنّ جسد المرأة فضاء لممارسة الفحولة الذكورية خلاف الجسد الذكوري الذي كان الفاعل على الدوام. بيد أنّ المساحقه تعصف بالبنيان الذي شيّده التهذيب والتدبير لتركّز مفهوما مغايرا للأنوثة متنكّرة بذلك لما تلقته من نصائح وأوامر وقيم. ولعلّها بذلك تعبّر عن حلم دفين يتمثّل في جزيرة نسائية تحقق فيها ذاتها بعيدا عن مراقبة الرجل ووصايته وتشرّع لعالم مختلف يعاد فيه الاعتبار إلى الكيان الأنثوي المهدور.
بالإضافة إلى ذلك يخلخل نموذج المساحقة التمثلات الخاصّة بالمرأة ويحدث اضطرابا في ما ترسّخ في المتخيّل بشأن مفهوم الأنوثة، ذلك أنّه لم يعد بالإمكان تصوّر المرأة على أنّها انقيادية وخاضعة للأيديولوجية الذكورية، كما أنّه لا مجال للقول: إنّ المرأة لا همّ لها سوى البحث عن إشباع غلمتها ممّا يبرّر قَصرها في البيت. فمن النساء من أظهرت بالبيّنة أنّه لا رغبة لها في الرجال وأنّ رؤيتهم لا تحرّك شهوتها، إنّما يكفيها حبّ المشاكِلة لها في الطباع والخلق والخُلق.
وهكذا يفصح الميل إلى المثيل عن توتّر في علاقة الفرد بالجماعة وفي علاقة الجنسين ببعضهما البعض. فثمّة مشاعر كره أو حذر أو غيرة سائدة بين الجنسين في مجتمع تأسّس على التمييز بين الرجال والنساء، الأحرار والعبيد، الخاصة والعامة، الأغنياء والفقراء، الأسوياء والشواذ.
يعبّر الميل إلى المثيل عن موقف من النظام الجندري فهو يقوّض تركيبة الجنسانية التي تقوم في جوهرها على علاقة بين جسدين مختلفين جنسيا، كما أنّه يهدم ما انبنت عليه من آراء خاصّة بالذكورة تعلي من شأن القضيب. فالمساحقة تلغي أهمية الأير والتباهي بقيمته تماما كما يفعل اللوطي حين يحوّل رحله من القبل إلى الدبر فيلغي أهمية الفرج والولع به. وحين تتحوّل المساحقة من امرأة ذات جسد مستمتع به ووعاء للإنتاج إلى امرأة باحثة عن إشباع شهوتها بعيدا عن قيم الجماعة ومؤسساتها، فإنّها تثبت أنّها شخص مستعص على التأطير رافض للنظام الاجتماعي. وهي بذلك لا تختلف عن اللوطي الذي يحوّل الأير من آلة حرث وعنصر إنتاج تناسلي مكلّف بتكثير عدد الأمة إلى أداة متعة لا تتحقق إلاّ مع المثيل. وهذا يدلّ على أنّنا إزاء فهم مغاير للنظام ولقانون "الطبيعة" ولانتظام الكون. فثمّة نماذج يمكن أن تكون داخل النسق وأخرى لا يمكن أن تكون إلاّ خارجه ولذلك فإنّها تهمّش.
تسيطر الجماعة على مشاعر الفرد وتوجهها بدقّة باتجاه الآخر وتراقب الميول وتهذّبها أخلاقيا واجتماعيا ودينيا، كما أنّها تنظّم ممارسة الجنسانية وتوزعها بتفاوت كبير بين الرجال والنساء وتحولّها إلى نماذج معيارية، ويفضي ذلك إلى شدّة إحساس الأفراد بالضغوط وسعيهم الحثيث في سبيل الانضباط. ولكن تشبّ فئات عن الطوق لتعبّر عن رغبتها في كسر الحدود بين الذكورة والأنوثة، الحلال والحرام، .... ولتتحرر من الوصاية المضروبة عليها.
ولئن كانت الرغبة في التحرّر من هيمنة الجماعة والعمل على إثبات الفردانية من أبرز نقاط الائتلاف بين اللوطيين والمساحقات وغيرهم من النماذج، فإنّ ما يفصل بين الفئتين هو أنّ اللوطيّ، في الغالب، ليس شخصا متردّدا بين الذكورة والأنوثة ولا رافضا لذكورته أو راغبا في التماهي مع الجنس الآخر، إنّما هو مفتون بالذكور. ولكنّنا نرى أنّ انتقاءه لشريحة عمرية محدّدة: الأحداث والمردان والغلمان يبرهن على أنّه كلف بذكورة مختلفة ومتعلّق بجسد لم يتخلّص من شوائب الأنوثة ولم تظهر عليه أمارات التفحّل، أي بجسّد له صلة وثيقة بالأنوثة، إن لم نقل إنّه متأنّث.
وليس بوسعنا أن نشير إلى ما يشدّ المساحقة إلى بنات جنسها هل هو الجمال أو الانتماء الطبقي أو تجارب الحياة المشتركة أو المشاعر المضطربة؟ فالنصوص التي تطرّقت إلى المساحقات لم تشر -على حدّ علمنا- إلى الصفات التي يشترط توفّرها في المعشوقة ممّا يجعلنا غير قادرين على الإجابة عن سؤال هامّ هل إنّ ما يشدّ المرأة إلى المرأة عشق الأنوثة الكاملة والخالصة أم الاشتراك في نفس الهموم ومكابدة نفس الآلام؟
لقد استنكر المجتمع هذه المحاولات الفردية ناعتا إياها بالنقصان: نقصان الذكورة في الرجل المتشبّه بالمرأة أو اللوطي المفعول به، ونقصان الأنوثة في المرأة المتشبّهة بالرجال. ويعود سبب التحامل -في نظرنا- إلى ما تلوّح به هذه الفئات من انقلابات في البنية الاجتماعية. فهذه النماذج تدعو إلى إعادة النظر في طبيعة العلاقات الاجتماعية، كما أنّها تستفزّ الجماعة فتفنّد تمثلاتها حول كلّ جنس، وتكذّب ادعاءاتها المزعومة بشأن الجنسانية المنمّطة. ولعلّ الجمع بين خصائص الذكورة وخصائص الأنوثة يشي بفكرة المساواة ومن ثمّة اعتبرت الرغبة في التماهي مع الجنس الآخر علامة على وجود إرهاصات التمرّد لدى الفرد وتوقه إلى الخروج من وضع الانقياد إلى الأوامر إلى وضع يختار فيه بمنتهى الحرية مظهره وسلوكه وصنيعه.
تشير هذه الأصناف الجندرية إلى وجود اضطرابات تعود إلى مرحلة الطفولة المبكرة وتكشف النقاب عن خلل في التنشئة الاجتماعية وتوتر في نمط علاقة الفرد بأهله ومحيطه كما أنّها تبرز ردود فعل مختلفة تجاه النظام الاجتماعي الذي أفرزها. فثمّة تغيير حاصل في نظرة الفرد إلى جسده وإلى ذاته وإلى الحياة. وما من شكّ في أنّ هذه الفئات التي حادت عن الطريق المرسوم هي بشكل أو بآخر صنيعة اجتماعية دالة على علاقة الفرد بالنظام، وعلى علاقته التبادلية، كما أنّها توضّح مدى تدخّل الثقافة في كافة أنشطة الفرد، وخاصّة الجنسانية منها وحرصها على إخضاع جسد الفرد لشروط الثقافة.
تكشف هذه التجارب النقاب عن تفاعل المرء مع النظام الاجتماعي ومدى تقبّله للمعايير والقوانين الضابطة لمظهره وسلوكه ونمط عيشه. كما أنّها تعبّر عن البؤس الاجتماعي والضغوط النفسية والكبت الجنسي وغيرها من الأمراض التي تعاني منها أكثر المجتمعات.
أمّا تصدّي مؤسسة الضبط لهذه الأصناف، فإنّه يبرهن على مدى تمسّكها بجنسانية قائمة على تصوّر أحادي ورفضها الإقرار بوجود نظام جنسيّ ثنويّ، وبالمزاوجة الجنسية وإصرارها على تجاهل وجود ممارسات جنسية متعددة. فالتجاهل شكل من أشكال تهميش فئات فارقت الصمت و صارت تطالب بالاعتراف بوجودها ضمن المجتمع المسلم وترفض أن تلفظ خارجه فكم من جمعية للمثليين تصر على هويتها الإسلامية وتمسكّها بالانتماء إلى الدين الإسلامي. فهل أنّ التجاهل والسكوت و"إسدال الكساء على عورات" المثليين هو الحل؟
إنّ حملة الأئمة على المجاهرين بالتشبّه بالنساء والمتمسكّين بحبّ المثيل من الرجال أشدّ من ردود فعلهم تجاه المساحقات وهو أمر مفهوم باعتبار أنّ سلوك اللوطيين طعن المجتمع الذكوري في العمق لأنّه تشبّه مرذول يقوّض التصوّر الشائع لما ينبغي أن يكون عليه الرجل من اعتزاز بانتمائه إلى الفحول. فلا يعقل أن يغادر عن إرادة، مجتمع السيادة والقوامة والدرجة الرفيعة ليصبح في رحاب مجتمع النساء. فلا غرابة حينئذ أن تعتبر المنظومة الفقهية المخنّث أو اللوطي، مجسّدا للوهن والضعف في مجتمع منح الذكر امتيازات كبرى. ولعلّها حين تأمر بنبذه أو الحذر من صحبته، إنّما تعلن بذلك عن نعيها الفحولة في زمن صار فيه الرجال يفرّطون في خصائص الذكورة ويتنكّرون للأصول ويتشبهون بالأمم الضالة. إنّهم أشباه رجال لأنّهم لم يرتقوا في نظرها إلى منزلة الذكورة الخالصة ولم يعبّروا عن أنموذج المسلم الذي تتباهى به خير أمّة أخرجت للناس.
08-أيار-2021
01-آذار-2008 | |
23-تشرين الأول-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |