وصايا الكبار للصغار: من طه حسين إلى حنا مينة
2006-04-09
في عددها الصادر يوم الخميس 5/1/2006 نشرت جريدة (الحياة ـ لندن) رسالةً لطه حسين كان قد وجّهها إلى كاتبٍ لبنانيّ شابّ (هنري غالب الأشقر) عام 1947، "يعرب فيها عن رأيه في روايةٍ مخطوطةٍ عنوانها (وداد أو المرأة) كان الأشقر قد أرسلها إليه. إلا أنّ الرواية والرسالة نامتا بعد ذلك إلى أن صدرت الرواية قبل وقتٍ قصير في طبعةٍ أولى متضمّنةً رسالة طه حسين".
ويوم الثلاثاء 17/1/2006 كتب الأديب السوريّ المعروف (حنا مينة) في جريدة (تشرين ـ دمشق) زاويةً بعنوان (رسالةٌ إلى برعمٍ يتفتّح حرفاً) يخاطب فيها كاتبةً ناشئةً (مايا منذر حنا)، مسدياً إليها جملة نصائح يعتقد أنها ستكون عوناً لها وهي تبدأ حياتها في عالم الكتابة.
والرسالتان ليستا متفرّدتين في موضوعهما، فثمّة نظائر لهما كثيرةٌ في أدبنا العربيّ وفي سواه من الآداب الأخرى، ويمكن للمرء ها هنا أن يشير على وجهٍ خاصّ إلى الألمانيّ (رينير ماريا ريلكة) في رسائله إلى شاعرٍ شابّ (السيد كايبس) وقد نشرتْ مجلّة (نزوى ـ عُمان) ترجمةً لها في أحد أعدادها، كما يمكن أن يشير إلى رسالةٍ مشابهةٍ للألمانيّ الآخر (هرمان هسة) نُشرتْ ترجمةٌ لها في أحد أعداد (البيان الثقافيّ ـ الإمارات) المحتجب.
وبالعودة إلى رسالتي (طه حسين) و(حنا مينة) فإنّ مجرّد صدورهما عن هذين الكاتبين الكبيرين يكسبهما قدراً خاصّاً من الأهميّة، إلاّ أنّ الأمر لا يقتصر على ذلك، فالفترة الزمنيّة التي تفصل بينهما (تسعٌ وخمسون سنة) تجعل منهما وثيقتين جديرتين بالاهتمام، نظراً لما يمكن أن يُستخلص منهما من إشاراتٍ ودلالاتٍ تتعلّق بطبيعة الخطاب الفكريّ والثقافيّ الذي ساد كلاً من المرحلتين اللتين ينتمي إليهما النصّان.
العالم يتغيّر:
وحقاً، فإنّ المرء سيجد نفسه مضطرّاً إلى أن يستحضر في ذهنه ذلك الكمّ الهائل من التغيّرات التي عاشها العالم خلال فترة التسع والخمسين سنةً تلك، والتي أصابت ما أصابت من مظاهر السلوك وأنماط التفكير وطرائق العيش.. ومن ثمّ فإنّ قناعاته لا يمكن لها أن تتّجه إلاّ إلى القول بأنّ الخطاب الذي تتضمّنه كلّ من الرسالتين سيكون ـ أو ينبغي أن يكون ـ مختلفاً بدرجة العمق والحدّة نفسها التي تختلف فيها كلٌّ من المرحلتين عن الأخرى..
ذلك أنّه من غير المعقول أن يقفز العالمُ هذه القفزة الهائلة، من غير أن يترك ذلك على خطابنا الأدبي أثراً ـ أيّ أثر ـ.. وبغضّ النظر عن المصيب والمخطئ في كلّ من النصّين، وبغضّ النظر أيضاً عن التفاصيل فيهما، فإنّ ما يلفت الانتباه فعلاً ويبعث على الخوف والقلق أنّ الثقافة التي ينطق بلسانها كلّ من الرجلين تكاد تكون واحدةً، بل تكاد تكون هي نفسها ثقافة (الشيوخ) من أدباء بني أميّة والعبّاس وسواهم في وصاياهم إلى (الناشئة) من الأدباء والكتاب، قبل عدّة قرون..
والمسألة مرتبطةٌ ـ في رأينا ـ بمجموعةٍ من الأمراض المستعصية التي لم تتمكّن الثقافةُ العربيةُ من تجاوزها إلى يومنا هذا مع ما قيل عنها، وبُذل من محاولاتٍ لعلاجها واستئصالها.. ذلك أنّ هذه الثقافة ما زالت أسيرةَ قوالب جامدةٍ في النظر إلى الحياة والمجتمع والفنّ، وما تزال خاضعةً لجملةٍ من آليّات التحليل والتفكير لا تتّسم بالثبات والاستقرار فقط، بل تعاني إلى جانب ذلك من التناقض، والتردّد، وضبابيّة الرؤية، والحرص غير المبرّر على التزام جانب الحذر والحيطة في التعبير عن المواقف..
تناقض وتردّد:
يقول طه حسين مخاطباً الأديب الشابّ: "وما من شكّ في أنّ للأديب حقّه الكامل في الحرية الفنية التي تتيح له نقد الحياة الاجتماعيّة وما فيها من أوضاعٍ لا بد من أن تُنقَدَ بين حينٍ وحينٍ، ومن أن يعنف نقدُها أحياناً لتصلح وتستقيم". إنّ الدعوة هنا إلى حقٍّ (كاملٍ) في نقد الحياة الاجتماعيّة تتّسم بقدرٍ من الصراحة والوضوح يجعلها غير قابلةٍ لأيّ نوعٍ من أنواع التشكيك أو التأويل أو إعادة النظر، ولا يوازيها في صراحتها تلك سوى ذلك الإقرار بحقّ الأديب في اللجوء إلى (العنف) في نقد تلك الحياة الاجتماعيّة. ولكي يقوّي طه حسين من عزيمة الأديب الشابّ، ويحضّه على الاستمرار في هذا المنهج من النقد، وعلى التمسّك بحقه (كاملاً)؛ يذكّره بآخرين اصطنعوا لأنفسهم ما يريد له أن يصطنع: "على الأديب أن يؤدّي واجبه نحو الحقّ والخير والجمال، لا يفلّ من عزمه إخفاق من سبقه، ولا يحدّ من همّه إشفاقه من أن يصيبه ما أصاب الذين سبقوه كلّهم".
هكذا تبدأ الرسالة، وفيها تصوّرٌ محدّدٌ وواضحٌ عن الأدب ووظيفته وعلاقته بالحياة والمجتمع، وهو تصوّرٌ يتمحور حول فكرة (الحرية الفنية) التي تنأى بالمبدع ـ أو ينبغي أن تنأى به ـ عن كلّ نوعٍ من أنواع المساءلة أو المحاسبة. وحقّ المبدع في ممارسة هذه الحرية حقٌّ (كاملٌ)، وإن بلغ به الأمر حدّ (العنف) في النقد، فللإبداع ـ في مجال الفنّ خصوصاً ـ شروطُه التي تختلف عن الشروط التي تحكم سائر أنواع النشاط الإنسانيّ الأخرى، ولعلّ هذا ما عناه (طه حسين) بقوله: "ولست أرى للجماعة أن تحدّ من حرّيّة الأديب في نقدها مهما يكن هذا النقد قاسياً عنيفاً".
إلاّ أنّ انعطافةً مفاجئةً تعرّض لها النصّ، أطاحت بكلّ تلك المقولات، وجعلت منها مجرّد لغوٍ لا قيمة له. وانظر إلى هذا التنصّل غير المفهوم من مواقفَ لم يمض على التعبير عنها أكثر من بضع كلمات: "ولكن الرفق في اللفظ أجدر أن يبلغ من القلوب ما لا يبلغه العنف". وانظر إلى هذه الارتدادة المباغتة عن يقينٍ كان شبه مطلقٍ بكمال الحقّ في الحرية الفنية: "ولكن مع ذلك أستأذنك في أن تعيد النظر في قصّتك فقد تجد فيها هنا وهناك تعبيراتٍ لعلّها قد أسرفت في الجراءة. ولعلّ من حقّها أن تردّ إلى بعض القصد من دون أن يضعف ذلك من قوّتها أو يصرفها عن غايتها التي قصدت إليها". وانظر إلى ما كان قبل قليلٍ (توفيقاً، ونجحاً، وجمالاً، وروعةً، ودقّة ملاحظةٍ وتحليلٍ، وحياةً قويّةً بثّها الكاتبُ الشابّ في الأشخاص وفي الطبيعة، وصدقاً في اللهجة، وحسناً في الأداء..)، كيف انقلب الآن (جموحاً وطيشاً..). يقول طه حسين: "كما أنّ ما لاحظت من جموحٍ ليس فيما أعتقد إلاّ نتيجةً لشباب الكاتب واندفاعه مع هذا الشباب وإسرافه في الثقة بالنفس والاعتداد بالرأي". وانظر إلى ما كان إقراراً بحقّ المبدع في أن (يعنف في نقده للحياة الاجتماعيّة)، ثمّ أصبح بقدرة قادرٍ إلزاماً له بالاعتدال في اتّخاذ المواقف: "وهذه كلّها خصالٌ تحمد، ولكن من الخير أن تردّ إلى شيءٍ من الاعتدال".
ما لا يجوز في الكتابة:
وبالمقابل، فإنّ (حنا مينة) في أحد أجزاء رسالته يخاطب الأديبة الشابّة بالقول: "وما أشكّ أنّ لك، على صغر سنّك، تجاربَ، أو تجربةً ما، فلا تخشي، أو تتحرّجي، في أيّ موضوعٍ خاصّ، أو عاطفةٍ خاصّةٍ، أو اشتياقٍ، أو استلطافٍ، وقع لك، أو لإحدى زميلاتك..". إنّها توصيةٌ مباشرةٌ وصريحةٌ بالصدق في التعبير، فالتعبير المبدع عن التجارب يقتضي من الكاتب أن يكون صادقاً، وأشدّ ما يجرح الصدقَ ويؤذيه أن يتحرّج الكاتب، وأن يخشى عواقب صدقه.
والإبداع من جهةٍ أخرى تجاوزٌ وتمرّدٌ وخروجٌ على ما هو عاديّ مألوفٌ متداولٌ، الأمر الذي يؤكّده (حنا مينة) في رسالته بالقول: "أمّا العزيزة مايا، الكاتبة المبرعمة حرفاً، فإنّ عليها، في سياق النص، ألاّ تتردّد في قتل العاميّة، والكلمات الجاهزة، وأن تخترق المتداول والمألوف، والمستحاثّ في الأفلام والمسلسلات العربيّة، أو بعضها على الأقلّ، وأن تنبذ الحكمة التي تعوي، أو تجعجع، أو تقتل الروح بسماجتها، أو التكرار في اجترارها..".
إنّه إعلانُ حربٍ شديدُ الوضوح ضدّ كل محاولات القولبة والتأطير والنمذجة التي يمكن أن يتعرّض لها الإبداع، وضدّ كلّ ما من شأنه أن يحول دون تدفّق الإحساس. وما يمكن فهمه من هذا الإعلان (لا تخشي، ولا تتحرّجي..) أنّ الإبداع ينبغي أن يظلّ خارج دائرة الممنوع والمسموح، أو الحلال والحرام، أو ما هو جائزٌ وغير جائز..
بيد أنّ (حنا مينة) لسببٍ ما لا يمضي بالأمر إلى هذه النهاية، إذ سرعان ما تبدأ عمليات التراجع والانسحاب ومحاولات التملّص من مستحقّات وصاياه، وما قد يترتّب عليها من نتائج والتزامات.. وها هو يتحدّث عن إحدى الكاتبات (إحدى البنات ـ كما يسمّيها) محذّراً (العزيزة مايا) من الاقتداء بها: "هي ناقصة التجربة في فنّ كتابة الرواية أصلاً، وهي عديمة الخبرة، في مسائل أكبر من عمرها، ومن إدراكها أنّ هذا يجوز أو لا يجوز في النشر..".
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هذا الذي يجوز في الإبداع، أو لا يجوز؟.. وكيف (لعديم الخبرة) أن يعرفه ليراعيه؟، بل كيف للتجربة أن تكتمل، وللخبرة أن يكون لها حضورٌ ما، إذا لم يُتَحْ للمبدع أن يكتب ويجرّب؟، ثمّ ما هو العمر الذي ينبغي أن يتناول فيه المبدع تلك المسألة، ويتجنّب تناول تلك؟، بل من الذي يحدّد ذلك كلّه للمبدع؟..
يقول (حنا مينة) في موضعٍ آخر من رسالته: "إنّ الكاتبات اليوم يتعجّلن الشهرة، فيقلّدن ليلى عسيران، أو غادة السمّان، أو ليلى العثمان، أو غيرهنّ، دون أن يمتلكن ثقافةً مماثلةً لأيّ ممّن ذكرت، أو لم أذكر، وهذا خطأٌ، وهراءٌ، وعيبٌ وصغار..". ومرّةً أخرى نسأل: هل ينبغي على المبدع أن يتوقّف عن الكتابة إلى أن يأذن له (كبير القوم)، بعد أن يطمئنّ على ثقافته التي أصبحت (مماثلةً) لثقافة أولئك الأديبات الكبيرات؟..
نفاق فكريّ:
إنّ في رسالة (حنا مينة) كما في رسالة (طه حسين) ـ ولا نريد هنا الإساءة إلى شخص أيٍّ منهما ـ نوعاً من (النفاق الفكريّ) يُراد منه الاستحواذُ على إعجاب جميع الأطراف، فهما حريصان على إرضاء الآخرين، لذلك يريد كلّ منهما أن يظهر بمظهر الأديب المتشبّع بفكرة (الحرية)، المؤمن بها إيماناً ليس من بعده إيمان؛ ويسعى في الوقت نفسه إلى الظهور بمظهر (الأب) الخبير الذي يعرف أنّ لكل شيءٍ حدوداً وضوابط ينبغي مراعاتها.. كلّ منهما يريد أن يجعل من (تجربته) مقياساً لا بدّ من اتّباعه والاقتداء به، وما دون ذلك ضلالٌ وطيشٌ وإسراف.. كلّ منهما يمارس نوعاً من التيئيس والإحباط بحق (المبتدئين) من الكتّاب والأدباء، من خلال الزجّ بهم في مواقف فيها تشويشٌ وتناقضٌ وتعتيم، فهذا الأديب ينبغي أن (يعنف من غير عنف)، و(أن يتمرّد على المجتمع، مع التزامٍ بأوامره ونواهيه وحرامه وحلاله)، و(أن يعلن الحرب، ولكن دون أن يقتل أو يجرح أو يهدم أو يخرّب)، (وأن يكون صادقاً مع نفسه والعالم من حوله، مراعياً في الوقت نفسه ما تقتضيه الحياة من سلوكٍ مراوغٍ مخاتل...).
الآباء الحكماء:
الرسالتان صدرتا عن اسمين كبيرين جسّدا ـ كلٌّ في المرحلة التي ينتمي إليها ـ تجربةً إبداعيّةً ذات وزنٍ وتأثير؛ فإذا كان الأمر على هذا النحو حقاً، فإنّهما تمثّلان ـ في بعض جوانبهما على الأقلّ ـ جزءاً من تقاليد العلاقة بين (الكبار) و(الصغار) في المشهد الثقافيّ العربيّ. وما جاء فيهما من كلامٍ حول (إيثار القصد والاعتدال، وملاءمة الذوق "رسالة طه حسين")، و(الكتابة عن الوقائع والأحداث والمشكلات دون ذكر الأسماء ودون الإساءة إليها وبغير ميلٍ إلى الفضائح، والتأنّي في طلب الشهرة من خلال الامتناع عن ذكر الكلمات الداعرة وتسمية بعض أعضاء الجسد بأسمائها الصريحة، وحسن التعامل مع ثيمة الجسد "حنا مينة") .. إنّ ذلك كله يكشف عن حسّ أبويّ يتملّك أولئك (الكبار)، وعن رغبةٍ في لعب دور (الوصيّ الخبير الحكيم العاقل المتّزن) في التعامل مع (الصغار ذوي التجربة الناقصة، والخبرة المحدودة، الواقعين تحت تأثير نزواتهم البدائيّة وغرائزهم المتفلّتة، المتعجّلين لقطف ثمارٍ ليست من حقّهم، المهووسين بالشهرة والمجد، المتسرّعين، الطائشين..).
أمّا ما قيل عن (حقوقٍ كاملةٍ في الحرية الفنية، وضرورة اللجوء إلى العنف بين الحين والآخر في نقد الحياة الاجتماعية، وأنه ليس من حقّ أحدٍ أن يحدّ من حرية الأديب في النقد مهما يكن هذا النقد قاسياً عنيفاً، وأنّ على الأديب أن لا يتردّد في قتل العامية واختراق المتداول المألوف...)؛ إنّ ذلك كلّه ليس إلا كلماتٍ خرجت من أفواه أصحابها عن غير إيمانٍ، ولا اقتناعٍ، ولعلّها لم تكن إلا محاولةً للتعمية على موقفٍ مختلفٍ يريدون المجاهرة به، لكنّهم ـ لسببٍ أو لآخر ـ يخجلون، أو لعلّهم يخافون..
رسالة غير منشورة لطه حسين إلى كاتب لبناني شاب عام 1947
طه حسين الحياة - 05/01/06//
في العام 1947 وجّه الكاتب طه حسين رسالة الى كاتب لبناني شاب يدعى هنري غالب الأشقر يعرب فيها عن رأيه في رواية مخطوطة عنوانها «وداد أو المرأة» كان أرسلها الأشقر اليه بغية الوقوف عند ملاحظاته. إلا أن الرواية والرسالة نامتا نحو 58 سنة الى أن صدرت الرواية قبل أيام في طبعة أولى، متضمنة رسالة طه حسين. وكان الأشقر رحل في 1998 عن 88 سنة. تنشر «الحياة» الرسالة التي تلقي ضوءاً على الرواية وعلى طريقة الكاتب المصري الكبير في توجيه الملاحظات النقدية.
«سيدي الأستاذ
قرأت قصتك القيمة الممتعة فأحب أن أهنئك بما ظفرت به من توفيق ونجح. ففي قصتك جمال وروعة لا شك فيهما مصدرهما دقة الملاحظة والتحليل وهذه الحياة القوية التي بثثتها في الأشخاص وفي الطبيعة من حولهم ثم صدق اللهجة وحسن الأداء. وما من شك في أن للأديب حقه الكامل في الحرية الفنية التي تتيح له نقد الحياة الاجتماعية وما فيها من أوضاع لا بد من أن تنقد بين حين وحين ومن أن يعنف نقدها أحياناً لتصلح وتستقيم.
وما من شك في أنك قد اصطنعت حقك في هذه الحرية كاملاً موفوراً فنقدت من أوضاع الحياة الاجتماعية هذه الإلفة التي تفرض على قوم لم يخلقوا ليأتلفوا. وهذه الخلطة التي يفرضها الزواج على قوم ليس بين أمزجتهم وطبائعهم ما يتيح لها هذه الحياة الهادئة الرحيمة التي ينبغي أن تكون مصدر خير للذين يحيونها أولاً وللذين يعيشون من حولهم ثانياً وللحضارة الإنسانية بعد هذا كله.
ومن قبلك حاول الكتّاب والأدباء والمصلحون ان يغيروا من هذه الأوضاع فلم يبلغوا مما حاولوا إلا قليلاً. ولكن على الأديب أن يؤدي واجبه للحق والخير والجمال لا يفل من عزمه اخفاق من سبقه ولا يحد من همه اشفاقه أن يصيبه ما أصاب الذين سبقوه كلهم.
ولا بد من شكوى الى ذي مروءة يسليك أو يسليك أو يتوجع.
ولكن مع ذلك أستأذنك في أن تعيد النظر في قصتك فقد تجد فيها هنا وهناك تعبيرات لعلها قد أسرفت في الجراءة. ولعل من حقها ان ترد الى بعض القصد من دون ان يضعف ذلك من قوتها أو يصرفها عن غايتها التي قصدت اليها. فقد توصف الجماعة بالطغيان وقد توصف بإسرافها في المحافظة وقد توصف بأنها صماء لا تسمع وعمياء لا تبصر وبأن قلوبها قد قست، فهي كالحجارة أو أشد قسوة ولست أرى بذلك بأساً ولست أرى للجماعة ان تحد من حرية الأديب في نقدها مهما يكن هذا النقد قاسياً عنيفاً. ولكن الرفق في اللفظ أجدر ان يبلغ من القلوب ما لا يبلغه العنف وإيثار القصد والاعتدال حين تتحدث عن الخالق وعما بينه وبين الناس من صلة وعن الدين وما له في نفوس الناس من تأثير. أحرى أن يلائم الذوق وما ينبغي لهذه المعاني السامية من رعاية وأن يعطف عليك قلوب القراء وينفعهم بما تريد أن تؤدي اليهم من المعاني.
وأنت بعد ذلك خليق أن تقرأ القصة مرة أخرى فقد تجد فيها هنا وهناك لفظاً يحتاج الى التقويــم وخطأ لغوياً يحتاج الى الاصلاح.
ولولا اني على جناح سفر لأحصيت لك بعض هذه الهنات التي ما أرى إلا انها نتيجة لإسراع الخاطر في الاملاء وإسراع القلم في الكتابة كما ان ما لاحظت من جموح ليس فيما أعتقد إلا نتيجة لشباب الكاتب واندفاعه مع هذا الشباب وإسرافه في الثقة بالنفس والاعتداد بالرأي. وهذه كلها خصال تحمد ولكن من الخير ان ترد الى شيء من الاعتدال.
فتقبَّل تهنئتي خالصة ولا تضق بهذه الملاحظات التي لم أهدها إليك إلا لأني واثق بأن لك في الأدب وفي القصص مستقبلاً أرجو أن يكون رائعاً وأحب له من أجل ذلك ان يكون بمأمن من بعض هذه الخصال التي إذا لم تصلح في ابان اصلاحها لم يسهل التخلص منها فيما يستأنف من الأيام.
ولك أصدق التحيات وأخلص الأماني.
24 مايو 1947
رسالة إلى برعم يتفتح حرفاً!
دمشق
صحيفة تشرين
آفاق
الثلاثاء 17 كانون ثاني 2006
حنا مينه
على قلقٍ كأن الريح
تحتي، أوجهها يميناً أوشمالا
العزيزة آيا منذر حنا
أنت، على صغر سنك، تكتبين جيداً، وتحسنين اقتطاف كلمات لغيرك، جورج صاند مثلاً، ودمجها في السياق، لكن الكتابة، المراد نشرها، لا تكتب على وجه الورقة وقفاها، كما فعلتِ في رسالتك إلي!
أنصحك بالكتابة على ورق أبيض، في اي موضوعٍ تشائين، دون ان تكون على شكل رسالة، بل على شكل مقالة، لها حدثٌ ومضمون، وزهوٌ أدبي، كي يسهل علينا نشرها في أية جريدة تصدر في دمشق.
بدء الكتابة يكون، أو من المستحسن ان يكون، عن الحياة الخاصة للكاتب، او على جزء من هذه الحياة، وما أشك أن لك، على صغر سنّك، تجارب، او تجربة ما، فلا تخشي، او تتحرجي، في اي موضوع خاص، او عاطفة خاصة، او اشتياقٍ، او استلطاف، وقع لك، أو لإحدى زميلاتك، فشرط الكتابة ألا نكتب إلا ما عشناه، او رأيناه، او سمعنا به، أو فكرنا فيه، أو كان مناسباً، او منطبقاً، على تجربتنا او تجربة غيرنا ممن تربطنا بهم صلات وثقى، أو خلة فضلى، او حتى غاشية من ضلال!
ان الوقائع، والأحداث، والمشكلات، كثيرة في دنيانا هذه، تناديكِ «أنا هنا!» وفي وسعك الكتابة عنها، صراحة أو تورية، دون ذكر الأسماءو ودون الاساءة اليها، وبغير ميل، في مثل عمرك، الى الفضائح، مهما تكن مغرية، فالإملوديشي بما فيه من نسغ الربيع، والالماح كالافضاح يكفي للتعبير.
اعترف. اخطأت، ففي العام 1982، كما يثبت الناقد اللبناني محمد دكروب، في كتابه «احاديث وحوارات مع حنا مينة» انني تنبأت ان الرواية ستكون ديوان العرب، في القرن الواحد و العشرين، وصحّت النبوءة في أواخر القرن العشرين، وراح كل الزملاء الكتاب، يعلنون انهم سيكتبون الرواية، من ادونيس، الى سعدي يوسف، الى الشاعر النابه الصديق العزيز فايز خضور غير ان الكاتبات المبتدئات اليوم يتعجلّن الشهرة، فيقلّدن ليلى عسيران، او غادة السمان، او ليلى العثمان، او غيرهن، دون أن يمتلكن ثقافة مماثلة لأي ممن ذكرت، او ممن لم أذكر، وهذا خطأ، وهراء، وعيب وصغار، وليست المسألة، هنا، في ايراد الجنس، حين يكون في مجرى سياق الرواية او القصة، بل في اقحامه اقحاما، او الصاقه بغير ضرورة، على هذا السياق، والغاية من كل ذلك، ان يشتهرن كما اشتهرت روايتي «الياطر» اويصلن، على جناح غمامة، الى ما وصلت اليه الكاتبة الجزائرية احلام مستغانمي في روايتها «ذاكرة الجسد» او غيرها ممن قاربن الجسد، بغير نجاح، لأنهن لم يبلغن ان يعرفن ان الجسد كالحب، مادة للكتابة، ازلاً ابداً، وتبقى مهارة القص هي التي تحدد النجاح او الفشل!
احدى البنات، ممن فزن في مسابقة الرواية في وزارة الثقافة، اوغلت حتى البشم وحتى التقزز، في ذكر الاعضاء التناسلية للرجل، مسمية هذه الاعضاء بأسمائها الصريحة، ومايشبه الدعر، في اللذة المكشوفة، العارية، للمرأة، او الانثى بعامة، عند استجلابها الغلمة، وهي تلامس الاعضاء الجنسية للرجل، قبل ممارسة الحب، او خلاله، فلما ارادت وزارة الثقافة، مديرية النشر والترجمة، ان تنشر هذه الرواية المبتذلة، اقتطعت عنها الكلمات الداعرة، فراحت صاحبتها، ومعها ناقد معروف بسطحيته لا بعبقريته، بخيباته الأدبية لا نجاحاته النقدية، في الطواف على المقاهي والكافتيريات في دمشق وغيرها وهما يتبجحان بان مديرية النشر، وعلى رأسها مفكر كبير، وكاتب كبير ايضا، شوهت الرواية، وخربتها تخريبا متعمدا، لان الرواية «الفلتة» التي لو قيض لها ان تنشر، لتفوقت كاتبتها على سيمون دي بوفوار نفسها!
انني التمس العذر للفتاة الصغيرة عمراً، فهي ناقصة التجربة في فن كتابة الرواية اصلاً، وهي عديمة الخبرة، في مسائل اكبر من عمرها، ومن ادراكها ان هذا يجوز او لا يجوز في النشر، وفي ان الشهوة الحمراء، ملصقة على جسم الرواية إلصاقا، عيب لا سبيل الى تقبله، أو اندراجه في سلك الكتابة التي هي متعة وفائدة، فجاءت روايتها، قلباً وقالباً، للمتعة الخسيسة ليس إلا، غير انني لا أرى عذراً، لإنسان تداول النقد، وأسرف فيه، ان يغري الفتاة البريئة، او غير البريئة، بما قامت به من تشهير لنفسها قبل غيرها، في تطوافها على الناس، شاكية أو باكية، على مصير روايتها المخزية.
أما العزيزة مايا، الكاتبة المبرعمة حرفاً، فان عليها، في سياق النص، ألا تتردد في قتل العادية، والكلمات الجاهزة، وان تخترق المتداول والمألوف، والمستحاث في الافلام والمسلسات العربية، او بعضها على الأقل، وان تنبذ الحكمة التي تعوي، او تجعجع، او تقتل الروح بسماجتها، او التكرار في اجترارها، والتلف في علكها من كثرة «اللت والعجن» فيها.
08-أيار-2021
28-أيلول-2019 | |
06-تموز-2019 | |
26-كانون الثاني-2019 | |
17-شباط-2018 | |
13-كانون الثاني-2018 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |