بالروح بالدم نفديك يا ...
2006-04-09
أدب ميت- أدباء أموات
تتّسم عمليّة بناء المناهج التعليميّة (في مختلف مراحلها: "التصميم"، و"البناء"، وما يلي ذلك من "تقويمٍ"، ثمّ "تطوير") بقدرٍ غير قليلٍ من التعقيد، ذلك أنّها تحتاج إلى مهاراتٍ خاصّةٍ وخبراتٍ معمّقةٍ لا في مجال التخصّص العلميّ وحسب، بل في الحياة وشؤونها المختلفة أيضاً. وممّا هو متّفقٌ عليه أنّ أهمّ ما ينبغي التفكير به وتحديده مسبقاً وقبل الشروع في أيّة خطوةٍ عمليّةٍ هو الأهداف والغايات التي ينبغي الوصول إليها.
وهذه الأهداف قد تكون ذات طبيعةٍ تخصّصيّةٍ فنّيّةٍ محضة، بمعنى أنّها ترتبط بالمادّة العلميّة التي يراد تقديمها إلى المتعلّم؛ وقد تكون ذات طبيعةٍ اجتماعيّةٍ واسعة، أي تنطلق من الرغبة في تمتين الصلة بين المتعلّم والحياة، وتهيئة الظروف المناسبة لتمكينه من التكيّف معها، وإكسابه القدرةَ على فهمها أوّلاً، ثمّ الانخراط فيها على نحو فعّالٍ ومنتج.
وبالطبع فإنّ للتاريخ قيمته في هذا السياق، فمن المعروف أنّ إدراك ظاهرةٍ من الظواهر غالباً ما يقتضي ربطَها ببعدها التاريخيّ، فمن شأن ذلك أن يبلورها، ويزيدها وضوحاً، الأمر الذي يسهّل على المتعلّم مهمّة إدراكها والتعامل معها على نحوٍ أكثر سلاسةً وفاعليّة.
ومن الواضح بعد هذا كلّه أنّ القائمين على السياسة التربويّة في القطر (سوريّة) عندما خطّطوا لمنهج اللغة العربيّة (الأدب تحديداً) في المرحلة الثانويّة قد أخذوا هذا الجانب التاريخيّ بعين الاعتبار، وقد يكون في ذلك ما يُحْسَبُ لهم، إلاّ أنّ الحساب يتوقّف عند هذه النقطة فقط، لتبدأ بعدئذٍ مظاهرُ الخلل والقصور والتخبّط والفوضى.
انعدام توازن:
ثمّة أوّلاً حالةٌ من انعدام التوازن بين مكوّنات هذا المنهج؛ فنحن نعيش عالم 2006، ومن المفترض أنّ الهدف الاستراتيجيّ الذي نسعى إليه بالدرجة الأولى هو تقديمُ أدب هذه المرحلة وعرضُه وتحليلُه؛ فإذا كان ثمّة ضرورةٌ للعودة إلى مراحل أخرى فبغرض ربط هذا الأدب بسياقه التاريخيّ الذي أشرنا إليه قبل قليلٍ لا غير. ولكن الذي حدث أنّ ما خُصِّص لهذا الأدب لا يتجاوز مقدار الثلث من جملة مكوّنات المنهج. ففي الصفّين الأوّل والثاني من المرحلة الثانويّة كان الاهتمامُ موجَّهاً نحو الأدب في عصوره القديمة (الجاهليّ والإسلاميّ وما بعدهما...)، ولم يبق للأدب الحديث (أدبِنا) إلاّ قدرٌ ضئيلٌ لا يتناسب مع موقعه في سلّم الأولويّات. وعلى هذا فإنّ المتعلّم يغادر مقاعد الدراسة ولديه من المعلومات عن أدب (آبائه وأجداده) ما يزيد في حجمه وتأثيره عمّا يعرفه عن أدبه هو الحيِّ المحسوسِ المتداوَلِ على أرض الواقع لا القابعِ في بطون الكتب..
فإذا اكتفينا بهذا المسّ الرفيق السريع لواحدةٍ من أخطر عيوب المنهج وأوضحها، وانتقلنا إلى (الأدب العربيّ الحديث) نفسِه كما يقدّمه منهج الصفّ الثالث الثانويّ من خلال الكتاب الذي يحمل العنوان ذاته، فسنلفي أنفسنا أمام فضيحةٍ من العيار الثقيل.
موت وأموات:
في هذا الكتاب (الأدب العربيّ الحديث ـ وتأمّلْ كلمةَ "حديث" هنا) أربعون نصّاً أدبيّاً (شعريّاً ونثريّاً).. أربعةٌ وثلاثون نصّاً من هذه النصوص أصحابُها أموات.. ستّةٌ فقط تكرّم القائمون على الأمر فاختاروها لأدباء ما زالوا يشاركوننا نعمة الحياة في هذا العالم.. أصغرُ الأحياء سنّاً سعاد الصباح، فهي ما تزال في مقتبل العمر، وستحتفل هذا العام بعيد ميلادها الرابع والستّين فقط (ولدت عام 1942)!!.. أمّا أكبرهم فنجيب محفوظ (أربع وتسعون سنة)!!..
من بين نصوص الأموات التي تُدَرَّسُ تحت عنوان (الحداثة في الأدب العربيّ) ما كُتِب عام 1881 (قصيدة البارودي ـ وبالمناسبة فالرجل وُلِدَ عام 1838 أي قبل 168 سنةً، وحينها "لمن لا يعرف" لم يكن الانترنت قد اكتُشِف بعدُ، كما لم تكن أمريكا قد دخلت العراق).. وبعضُها كان أكثر حداثةً، فكُتِب عام 1896 (قصيدة اليازجي).. وثمّة نصوصٌ أخرى لا نعرف تواريخ كتابتها لكنّنا نعرف تواريخ وفاة أصحابها مثل (عبد الرحمن الكواكبي 1912 ـ وجبران خليل جبران 1931 ـ وأحمد شوقي 1932 ـ والرافعي 1937 ـ والرصافي 1945 ـ وخليل مطران 1949)، وهؤلاء جميعاً وافتهم المنيّة بعد معركة حطّين بالتأكيد..
لقد خيّل إليّ وأنا أتأمّل هذه الحقائق أنّني لم أكن أتعامل مع كتابٍ، بل مع تابوت.. وإلاّ لم هذه الحفاوةُ كلُّها بالأموات؟!.. إنّ أحداً لا يسعى إلى الغضّ من شأن هؤلاء، ولا الحطّ من أقدارهم، أو الانتقاص من أدوارٍ كانت لهم في التمهيد لأدب الحياة، إلاّ أنّ أدب الحياة هذا هو الذي يعنينا في النهاية، ولا ذريعةَ لأحدٍ في تجاهله وإهماله.. وبصراحةٍ مطلقةٍ، (وأرجو ألاّ يُفهَم الأمرُ أبعدَ ممّا يحتمِل) فإنّ درغام سفّان وعلاء الدين عبد المولى ولقمان ديركي يعنون لي أكثر بكثيرٍ ممّا يعنيه خير الدين الزركليّ أو شفيق جبري أو حتى سليمان العيسى. لأنّ تجربة هؤلاء الإبداعيّة ـ بغضّ النظر عن رأيي الخاصّ فيها ـ هي التجربةُ الحيّةُ التي ألتقي بها كلّ يوم، أقبّلها أحياناً وأصفعها أحياناً أخرى وأتحاور معها وأتقاسم وإيّاها رغيفَ الخبز الساخن الخارج لتوّه من تنّور الحياة..
هذا عن الأموات، أمّا عن حجازي ودرويش والفيتوري (وقد تفضّل السادةُ المؤلّفون فاختاروا نصوصاً لهم لأسبابٍ ودوافع نعترف بأنّنا لم نفهمها) فهم وإن كانوا من الأحياء فقد قتلتهم أدواتُ النقد والتحليل الصدئةُ التي أعملها (نطاسيّو اللغة العربيّة) في أجساد نصوصهم.. لقد تحوّلت هذه النصوصُ إلى أكوامٍ من الاستعارات المكنيّة والتصريحيّة والكنايات والتشبيهات البليغة وغير البليغة مع قليلٍ من الجناس والطباق والمقابلة والازدواج، إضافةً إلى رشّةِ شعاراتٍ حول المقاومة والالتزام والتفاؤل الثوريّ والإيمان بقدرة الجماهير على التغيير وبناء المجتمع الجديد وما إلى ذلك من مستحاثّاتٍ ولُقىً لو علمتْ بها متاحفُ أوروبّا لبذلت الغالي والنفيس لاقتنائها..
صديد ودم فاسد:
وبمناسبة الحديث عن هذه الشعارات، ففي الوقت الذي نسي فيه العالمُ ما كان من أمر الألسنيّة والبنيويّة والحداثة، وانهمك بشؤون ما بعد الحداثة والنظام العالميّ الجديد والعولمة، فإنّ السادةَ مؤلّفي الكتاب ما زالوا مصرّين على حمل أعباء المسؤوليّة التاريخيّة ورفع شعار الأدب الملتزم (الذي يعايش تجارب الجماهير الكبرى وكفاحها، ويشاركها نضالها من أجل تحقيق أهدافها الكبرى في الوحدة والحريّة والاشتراكيّة). كما أنّهم ما زالوا مقتنعين بأنّ الأدب مشروعٌ نضاليّ يحتّم على الأديب (العملَ على منع استغلال الإنسان للإنسان، وإقامة الضمان الاجتماعيّ للعمل، وبناء مجتمعٍ عربيٍّ اشتراكيٍّ تؤول فيه ملكيّةُ وسائل الإنتاج إلى الشعب، وينتفي منه استغلالُ الرأسماليّين والإقطاعيّين للإنسان العربيّ)..
ألم نقلْ إنّه تابوت، وإنّ على الشابّ في مدارسنا أن يفتتح أيّامه دائماً برفع الغطاء عنه وإلقاء التحيّة على الجثث المستلقية داخله، مستنشقاً ما يتصاعدُ منها من روائح وأبخرة، وممتّعاً عينيه بما يسيل من أشلائها من صديدٍ ودمٍ فاسد؟!!..
بالروح.. بالدم:
إلاّ أنّ ما لا ينبغي أن يفوتنا بعد هذا كلّه أنّ السادة المؤلّفين كانوا في غاية التأدّب والتهذيب والالتزام بقواعد اللياقة واللباقة في تعاملهم مع هذه الجثث.. ذلك أنّنا لم نقرأ لهم كلمةً تسيء إلى أيّ منها، أو تحطّ من قدره، أو تكشف عورةً من عوراته.. ولقد كان واضحاً حرصُهم على أن تظلّ لهذه النصوص / الجثث هيبتُها في نظر أولئك المراهقين الصغار، فكانوا يتبارون في مدحها وتقريظها وتعداد فضائلها والكشف عن أسرار الجمال فيها، حتّى ليكاد أحدهم يقفز من مقعده وهو يصفّق ويصرخ بالصوت العالي بعد أن أخذ به الحماسُ كلّ مأخذ: (بالروح.. بالدم.. نفديك يا أحمد شوقي ـ أو بشارة الخوري)..
لقد كان ذلك ـ في تصوّري ـ تعبيراً عن رغبةٍ مقصودةٍ وسياسةٍ مبرمجةٍ لتعطيل العقل النقديّ لدى المتعلّم، والقضاء على كلّ نزوعٍ لديه نحو الاستقلال بالرأي، واستئصال كلّ استعدادٍ كامنٍ فيه للمعارضة أو المخالفة أو التحرّر من قيود الأحكام المطلقة والأفكار المسبقة الجاهزة، ليتحوّل ـ من بعدُ ـ إلى مجرّد كائنٍ سلبيّ لا يجيد سوى التصفيق والتمجيد، ولا يتقن سوى لغة المدح والتقريظ.. وإلاّ كيف يمكن لعاقلٍ أن يصدّق أنّ نصّاً أدبيّاً مهما بلغ حظّه من الجمال يمكن أن يخلو من عيبٍ أو خلل..؟!! أليس من الغريب أنّ جميع نصوص الكتاب كانت من النوع الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه..؟!! ألم يكن جديراً بالسادة المؤلّفين أن يأخذوا بأيدي هؤلاء المتعلّمين الشباب لتنمية مهاراتهم في الانتقاد والاعتراض وإبداء الرأي صريحاً جريئاً لا مواربة فيه ولا خوف ولا تردّد..؟!!
الحشمة الشعريّة:
ولا تَسَلْ بعد هذا كلّه عن قصيدة النثر، أو النصّ المفتوح أو ما إلى ذلك من خزعبلاتٍ وتُرَّهاتٍ، فهذه أشياء لا ينبغي التطرّق إليها ـ لا تصريحاً ولا تلميحاً ـ لأنّها ممّا ينافي مبدأ العفّة أو الحشمة الشعريّة الذي يحرص السادة المؤلّفون على ترسيخه في نفوس مراهقي 2006، وهو ما أكّدتْه وشدّدتْ عليه جميع المنظّمات الشعبيّة في مؤتمراتها السنويّة العاديّة والطارئة الاستثنائيّة، وأيّدتها فيه المجالسُ المحليّةُ، والفروعُ والشُّعَبُ والفِرَقُ وسائرُ الجماهير الغفيرة المؤمنة الصابرة المحتسبة.. وإنّا لله وإنّا إليه لراجعون..
08-أيار-2021
28-أيلول-2019 | |
06-تموز-2019 | |
26-كانون الثاني-2019 | |
17-شباط-2018 | |
13-كانون الثاني-2018 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |