إهداء
إلى روح العميد العظيم
الدكتور طه حسين
لم يخطر ببالي يوماً أن أنشغل بما انشغلت به في هذا الكتاب أو كتبي السابقة، فقد انصرمت سنوات دراستي وانصرفت إلى دراسة الاقتصاد الزراعي، وهيء لي وأنا أحصل على الدكتوراه، أنني مقبل على البحث في شؤون التنمية الزراعية، وأن قصارى ما أتمناه أن أكتب مؤلفاً أو مؤلفين في مجال تخصصي العام أو الدقيق، وأنني سأقضي عمري أسيراً لمنحنيات الإنتاج والتكلفة والإيراد، ومنصرفاً إلى المهنة التي عشقتها بكل جوارحي وهي التدريس، ولا أملك وأنا أراجع ما حدث بعد ذلك إلا أن أبتسم، فقد توارى ما قضيت عمري في بحثه وتحصيله، وانصرفت عنه إلى القراءة والدراسة ثم الكتابة والبحث في مجال جديد كل الجدة، أدخلني في خضم معارك عنيفة وحادة، ونقلني إلى مشارف المخاطرة، ووضعني في موقف العداء لتيار عريض وعنيد، وأسمعني ما لم أتوقع في حياتي سماعه، تنديداً وتأييداً، وفتح عني على ما أجده الآن مبرراً لوجودي ومحوراً لعمري، وملأ بريدي بخطابات التعضيد والتهديد، ولم أجد فسحة من الوقت لكي أتوقف قليلاً وأتساءل: متى وكيف، وإلى أين؟
حقاً، وتقدرون فتضحك الأقدار، بل وتقهقه أحياناً فبعض ما كتبت يطبع للمرة السادسة، وبعضه يترجم، وبعضه يدرس في الجامعات والمعاهد الأجنبية، وبعضه تعددت الكتب المؤلفة بالعربية للرد عليه، ولم يأت ذلك كله من فراغ وإنما كان حصيلة جهد هائل ومرتب في القراءة والبحث، وصدق مع النفس والناس بلا حدود، ووضوح في القصد والرؤية دون التواء أو تمويه، وقد تيقنت خلال ذلك من حقيقة مؤكدة، وهي أننا نسيء الظن كثيراً بمصر وبالمصريين، ونتصور أن الطريق إلى عقولهم محفوف بالمداهنة والاسترضاء، وأن ما يقبلونه منا هو ما يرضيهم أو نتصور نحن أن يرضيهم، والحقيقة التي ثبتت لدي عكس ذلك تماماً، فالعقل المصري قابل للمحاورة معك مهما اختلفت معه بشرط أن تكون واضحاً ومقنعاً، وهو أيضاً مستعد لتلقي آرائك مهما كانت بشرط أن يتيقن من صدقك في التعبير والدفاع عنها، وحاسته في إدراك الصدق وتمييزه حاسة باهرة، ولعل هذا يفسّر لنا تقبّل المصريين لفكر رواد الحضارة في بداية القرن، من أمثال الطهطاوي وعلى مبارك وأحمد لطفي السيد وسعد زغلول وقاسم أمين وطه حسين وعلي عبد الرزاق وأحمد أمين وغيرهم، على الرغم من أنهم ساروا (ظاهرياً) في عكس الاتجاه، وسبحوا (كما بدا للجميع) ضد التيار، ولم تمر سنوات قليلة إلا وكانوا هم أنفسهم رواد المسيرة، ورموز التيار الفكري العام، وأكاد أتخيل سعد زغلول، ساكن الفكر، راكد الحوار، رموزه في الكتابة متمثلة في جاويش وعلي يوسف، والتيار الفكري السائد على سطح السياسية متعلق بأهداب الخلافة العثمانية، أكاد أتخيله جالساً في قهوة مِتَاتْيَا في ميدان العتبة، مستمعاً إلى جمال الدين الأفغاني وهو يتحدث عن الثورة وحقوق الشعوب، بينما يتبلور في وجدان سعد منهج فكري متكامل، لو صارح به أحداً وقتها لأتهمه بالجنون، ولعله كان يسائل نفسه، لماذا لا ندعو لاستقلال مصر عن الجميع، ولماذا لا ندعو لتوحد المصريين على أساس المواطنة وليس العقيدة، ولماذا لا تتحرر المرأة من سيطرة حجاب الزي وحجاب العقل، ولست أشك في أنه كان يدرك المحاذير، على المستوى العام فيما يخيّل للجميع أنه تيار فكري سائد، وعلى المستوى الشخصي فيما يهدد مكانته المرتقبة، والمرتبطة أشد الارتباط بسكون المناخ الفكري والحضاري وركوده، هنا لا بد من إضافة بُعْد جوهري وهام، وهو إدراك الرواد لطبيعة مسار التاريخ، واتجاه هذا المسار، وهو إدراك داخلي يتبلور في اللاشعور، وفي هذه الأحوال يكون المسرح السياسي والفكري مهيأ لدور ينتظر صاحبه، وعادة ما يكون هذا الدور معاكساً لكل ما هو ظاهر، ومعبراً في نفس الوقت عما هو كامن وحقيقي ومستقبلي وصحيح، ولنا أن نتساءل بعد ستين عاماً عن النتائج، كيف انتهى المطاف بسعد زعيماً شعبياً وتاريخياً، وانتهى بعلي يوسف شيخ لسجادة صوفية، ولنا أيضاً أن نتساءل عن تأثير كتاب علي عبد الرازق ذي الثمانين صفحة، وتأثير المجلدات التي كتبها معارضوه، وعن فكر طه حسين وأدبه، وفكر أشياخه ممن تصوروا أنه أحرزوا نصراً نهائياً عليه حين رفضوا منحه شهادة العالمية، ولو استسلم كل من هؤلاء لما تصور الجميع أنه فكر الأغلبية، وصوت الرأي العام، وهوى الجماهير، لاقتصر دورهم على الأداء البيولوجي، يأكلون كما يأكل الناس، ويُخْرجُونَ كما يُخْرِج الناس، ويفكرون كما يفكر الناس، ويكتبون كما تعود الناس، ويندثر ذكرهم كما يندثر ذكر أغلب الناس، ولعله من المفيد هنا أن نتساءل عن قيمة إسهام سعد زغلول لو اقتصر دوره وهو الدارس للقانون على مبحث في القانون المدني، أو مذكرة في الأحوال الشخصية، وقس على ذلك لو اقتصر دور طه حسين على تقييم أدب أبي العلاء، أو دور علي عبد الرازق على كتابة مذكرات أحكام القضاء الشرعي، هنا لا بد أن نسلم بحكمة علوية تهيئ الأفراد لأداء دور، ربما دفعوا حياتهم من أجله، وربما أسعدهم الحظ بحصاد النتائج خلال حياتهم، وربما حدث العكس فعاشوا حياتهم يتنازعهم حماس تأييد القلة، وصراخ تنديد الكثرة، وليس عليهم إلا أن يدركوا حقيقة واحدة، وهي أنهم موجودون لأداء دور، تفرضه عليهم معطيات الواقع ومتطلبات المستقبل، ويدفعهم إليه إيمانهم بأوطانهم وبمستقبل الأجيال القادمة، وأن وجودهم مرتبط بأداء هذا الدور، وأنهم بقدر هذا الأداء سوف يكونون، وبمقدار التضحية سوف تنتصر دعوتهم، وبقدر قوة مناوئيهم وعنفهم وجبروتهم، بقدر ما يكون لأدائهم معنى، ولدورهم تأثير، وبقدر إيمانهم بأن رحلة العمر كلها قصيرة، وأن الجميع إلى نهاية طال العمر أو قصر، وأن النهاية ثمن ضئيل لبداية الآخرين على طريق صحيح، بقدر ما تأتي البداية بأسرع مما يظن الجميع، وبقدر ما ترتفع الراية إلى أعلى مما يتصور الكل...
من منا يتذكر اسماً واحداً من أسماء من أنكروا على جاليليو مقولته بدوران الأرض حول الشمس؟ لا أحد، بينما يتذكر الجميع جاليليو، ويعترف الجميع بصحة نظريته، ولو أخفى جاليليو ما توصل إليه، لربح العيش الآمن وخسر نفسه، ولما ذكره أحد...
من منا يتذكر من قطع أطراف ابن المقفع وأجبره على أكلها بعد شيّها، لأنه تجرأ على إزجاء النصح للحاكم في كتابه (رسالة الصحابة)، تقريباًَ لا أحد، بينما تنتقل كتب ابن المقفع، كليلة ودمنة، والأدب الكبير، والأدب الصغير، ورسالة الصحابة، من الأجداد إلى الأحفاد، وأحفاد الأحفاد، ويرتفع ذكره بقدر صدقه مع نفسه، ومع الناس، ولو تفرغ لكتابة عرائض المديح، وقصائد الثناء، لاندثر ذكره فيمن اندثروا وما أكثرهم، وما زاده عذابه في النهاية الأليمة إلا ارتفاعاً في المكانة وخلوداً في الذكر..
لا أذكر هذا كله تعزية للنفس، ولا تسرية عنها، وإنما أذكره لكي يتعظ به من يركبون مدّ الإرهاب، استجابة لتصفيق صفيق، ومجاراة لريح السموم التي هبت على مصرنا في غفلة من التاريخ، وسعياً وراء عيش هنيء، وطعام مريء، ولو تأملوا قليلاً، لأدركوا أنهم لا يتجاوزون في رؤيتهم أرنبة أنفهم، وأنهم يسعون بأنفسهم إلى حتوفهم، وأن لفعالهم مكاناً خالداً في مزبلة التاريخ، وأن أولادهم وأحفادهم سوف يحصدون نتائج مزايداتهم عيشاً وغْداً مقابل عيشهم الرغد، وسمّاً ناقعاً مقابل طعامهم المريء.
مازلت أتذكر أحد أيام صيف عام 1982 وأنا أعرض مسودات كتابي الأول (الوفد والمستقبل) على الأستاذ الكبير ابراهيم طلعت في الإسكندرية، تعقليه المختصر «بالتوفيق، لكنك تضع نفسك أمام فوهة المدفع»، وقد تذكرت قوله مرة ثانية وأنا أتهيأ لإصدار كتابي الثاني (قبل السقوط)، الذي رفضت كل دور النشر إصداره، وكان تقديري أنني وضعت نفسي بكتابته في فوهة المدفع ذاته، وها هي السنوات تمر، ويتوالى ما أصدرته من كتب، (الحقيقة الغائبة)، ثم (حوار حول العلمانية،)، ثم (الطائفية إلى أين) بالمشاركة مع آخرين، ثم (الملعوب)، ثم هذا الكتاب الذي أقدمه للقارئ، ولم ينطلق المدفع بعد، ولا يعنيني أن ينطلق، بل إن الموقف برمته أدى إلى نتائج معاكسة تماماً لما استهدفه مغاوير زماننا الكئيب، فاليوم الذي لا يصلني فيه تهديد منهم، (عمر ضايع يحسبوه الناس علي) كما تقول أم كلثوم، والصباح الذي لا تكتحل عيناي فيه بهجوم من تياراتهم دليل قصور في سعيي وتقصير في جهدي، وأذكر أن جريدة (الأحرار) في عهد سيطرة التيار الديني على حزب الأحرار، تفرغت للهجوم عليّ، مدفوعة بمحاولة أحد القيادات السياسية الدينية تصفية حساباته السياسية معي، ولم يكن يمر أسبوع دون خبر مثير، أو مقال عنيف، أو هجوم مستفز، وكم كانت جوانحي ترقص طرباً وأنا أقرأ هذا كله، لأن معناه واضح لديهم، ومفهوم لدي، ودلالته أنني أوجعهم بما أكتب، وأثيرهم بما أجتهد، وما دام ردّ فعلهم سباباً وقذفاً فمعنى ذلك أن منطقهم أعجز عن الردّ، وأهون من الحوار، وأقصر من التصدي، وقد هالني أن يمرّ أسبوعان دون شيء من ذلك، فرفعت سماعة الهاتف محدثاً الأستاذ محمد عامر رئيس التحرير، الذي انتقلت دهشته إليّ عبر المحادثة، وأنا أسأله: ترى هل قصرت في شيء، وهل تراجعت عن شيء، وهل توقفت عن شيء، وإذا لم يكن شيء من هذا وارداً فلماذا لا أجد حرفاً واحداً في جريدتكم ينقل إليّ ما تعودته منكم، ولماذا لا تجودون ولو بشتيمة واحدة، أو كلمة سباب، أو عبارة قذف، لماذا يا أستاذ عامر؟ لقد كدت أشك في نفسي، وبالطبع كان رده مزيجاً من الضحك والإندهاش، والحق أن استجاب لندائي، وأجاب رجائي على خير ما أتمنى وأنتظر، وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فلعل القارئ يذكر أن اسمي كان ترتيبه الثالث في قوائم الاغتيال التي ضبطت لدى تنظيم (الناجون من النار) كما أسموا أنفسهم، أو (الساعون إلى النار) كما أسميهم، ولو لم يحدث ذلك لشعرت بأسى شديد، فالشجاعة تقاس بعداء الجبناء، والسمو يقاس بعداء الوضعاء، والرصاص هو التعبير العنيف عن منتهى الضعف، وعندما سألني محرر مجلة أكتوبر عن تعليقي، أبديت منتهى الحزن والأسى، على أن ترتيبي تأخر إلى المركز الثالث، ووعدت أن أبذل قصارى الجهد حتى أحتل الموقع الجدير بي، في المقدمة، وربما تصور البعض أنها شجاعة لكنني أصحح لهم، فالحقيقة أنه.. طموح..
أي زمان هذا الذي نعيش فيه؟ وأي حوار هذا الذي ينطق أحد أطرافه بالكلمات، فيرد الطرف الآخر بالطلقات؟ إنني كثيراًَ ما أتساءل: هل مر على مصر في تاريخها كله شيء مثل هذا أو شبيه به؟ وهل مطلوب من صاحب الرأي أن يتمتع بمهارة استخدام المسدس للدفاع عن نفسه، وأن يفسح مساحة من وقته لكي يتدرب على الكارتيه بديلاً عن التفرغ للقراءة أو الكتابة؟ إذا كان المقصود أن نتراجع فقد طلبوا المستحيل، وإذا كان المستهدف أن نخاف فقد ضلوا السبيل، وإذا كان المطلوب أن نغمد القلم فقد أخطأوا رقم الهاتف، وليس في الأمر شجاعة منا بقدر ما فيه من منطق، فالموت أهنأ كثيراً من العيش في ظل فكرهم العييّ، وحكمهم العتيّ، ومنطقهم الغبيّ، وأن يفقد الواحد منا حياته وهو يدافع عن وحدة الوطن، أشرف كثيراً من أن يعيش في وطن ممزق، للمرة الأولى في تاريخه، وأن يضحي الواحد بالسنوات الباقية من عمره أشرف كثيراً من أن يقضيها تحت حكم من يفضلون ركوب الناقة على ركوب السيارة لأن الثانية (لتركبوها) بينما الأولى (لتركبوها وزينة)، كما يذكر أحد أمراء الجماعات في أسيوط، أو من يذهبون فرادى وجماعات لقضاء الحاجة في الخلاء وفي يد كل منهم حجر وبوصلة، الحجر للاستنجاء، والبوصلة لضبط المؤخرة في عكس اتجاه القبلة، كما يفعل أعضاء الجماعة الإسلامية في المنيا.
المقبرة أهون، والاستشهاد أفضل، والجهاد ضدهم حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً هو الاختيار الصحيح والمريح..
لقد قصدت بهذه المقدمة السريعة أن أوضح السبب في تناول الإرهاب كمحور أساسي لهذا الكتاب، وأن أطمئن من أرسلوا إلي مؤازرين ومعضدين، وأن أرد على من أرسلوا إليّ منددين ومهددين، ولسوف يجد بعض القراء من وجهات النظر ومن الآراء، ما يقبلونه أحياناً ويختلفون معه أحياناً، ولا ضير في ذلك أبداً، وليس مطلوباً أن يشغلنا الاختلاف في الجزئيات عن وحدة الصف في مواجهة اختبار الوجود والاستمرار للوطن والحضارة والمستقبل، ولن يغفر الله والوطن لأحد إن تقاعس أو تراجع أو جبن، فما بالك إن زايد أو تملق أو تحالف..
وفي الله الكنانة شرّ هؤلاء وأولئك، وحماها من ردة حضارية تأخذ بتلابيبها، ونصرها، وسيحدث وأعزها، وسيكون، وأبقاها منارة للحضارة والتقدم والاستنارة..
وهل في ذلك شك؟
د. فرج فوده
مصر الجديدة ـ 30 يونيو 1987
الإرهاب (*)
عندما سمعت لأول مرة عن محاولة اغتيالا أو باشا، اتجه ذهني بصورة مباشرة إلى التنظيمات الدينية المتطرفة، واعتقدت أن أحداً لن يختلف حول ذلك، غاية ما في الأمر أن البعض سوف يصرح، والبعض سوف يلمح، والبعض سوف ينتظر نتيجة التحقيقات والتحريات، ولم يخطر على بالي إطلاقاً أن تتبارى الأقلام في محاولة نفي التهمة عن هذا الاتجاه بالتحديد، ولم أتصور أن تصل المحاولة إلى تحويل أدلة الاتهام إلى أدلة للبراءة، وكان أطرف ما قرأت ولعله كان النغمة السائدة فيما كتب، أن ظهور الجناة باللحية، ووجود أحدهم بالجلباب، دليل نفي للاتهام عن الجماعات، لأن عملية كهذه لا بد وأن تكون مخططة، ولا يعقل أن يتطوع المخطط بكشف هوية الجناة، حيث لا تترك اللحية والجلباب مجالاً للشك في هويتهم، وتحليل كهذا لا يترك لمحدودي الخيال من أمثالي، إلا تصوراً منطقياً، يتبادر إلى الذهن بمنطق المخالفة، وهو أن السبيل الوحيد لاتهام الجماعات الإسلامية، هو ارتداء الجناة للردنجوت، وحديثهم بالعبرية، وحملهم لجوازات سفر أجنبية، وقد فات هؤلاء الكتاب جميعاً أن العملية ليس فيها تخطيط ولا يحزنون، وأنها شأن جميع عمليات هذه الجماعات، تمارس بمنطق قصعة الثريد، حيث يتبارى الجميع في غمس اليد بحثاً عن صيد، عن إيمان منهم بأن الكف (السابق سابق)، وأن من سبق أكل النبق، وأن البركة في الحركة، ولعلي في هذا أملك دليلاً على أن الأمر كما سبق، وهو دليل لا يقبل الشك أو التهوين، فلو كان هناك من يخطط، أو على الأقل يفكر، لما اختار موقع الجريمة أمام منزل حسن أبو باشا، لأنه الموقع الوحيد المستحيل، فأبو باشا ليس عليه حراسة إلا في هذا المكان، ولو حاولوا اغتياله على بعد مائة متر، لوجدوه وحيداً أعزل ولكفوا أنفسهم مئونة الاشتباك مع أحد الحراس، ولما أفلتوا بضربة حظ غريبة، من رشاش أهمل صاحبه في أداء واجبه، واندفع في طلب المصعد، ولو لم يفعل، لاستضافتهم مقابر الغفير، أو في أحسن الظن زنازين السجن أو مستشفياته...
أي تخطيط هذا الذي يدفع بأصحابه إلى الفشل، وينتهي بمؤامراتهم إلى نتيجة عكسية، ويسعى بالجناة إلى مصارعهم، بينما في شوارع القاهرة متسع وفي حركة أبو باشا بعيداً عن منزله مجال، وقد يراد البعض بأن تغيير لون السيارة بعد سرقتها، دليل على التخطيط المحكم، لكني أرد عليه بغير ذلك فالسيارة المسروقة حكومية، وهي لا شكل مبلغ عنها وعن لونها، وأول ما يفعله سارق السيارة، أي سيارة، أن يحاول تغيير لونها حتى لا يقبض عليه في أول نقطة مرور، أو عند أقرب إشارة، بل لعل نوع السيارات المستخدمة وكفاءتها، دليل آخر على أن المسالة تتم بالبركة، فإحدى السيارات تويوتا نصف نقل (حادث أبو باشا) والأخرى 128 (حادث مكرم)، والاثنتان مستعملتان بل إن شئنا الدقة مستهلكتان، وكل منهما يمكن أن تؤدي دور الركوبة، وليس دور السيارة القادرة على الحركة والمناورة والفرار، وللقارئ أن يقارن بين هذه السيارات وبين مثيلاتها المستخدمة في محاولة اغتيال الإسرائيليين والأمريكان، وله أن يتعجب أيضاً لرواية شهود حادثة مكرم، عن توقف سيارة الجناة في إشارة مرور قريبة على مرمى النظر، وقد تذكرت لحظة قراءة ذلك، قصة رواها لي الأستاذ فؤاد سراج الدين عن محاولة اغتيال النحاس باشا عند توقف سيارته في إشارة المرور أمام النادي السعدي، وقد ذكر لي أن تعليماته لقائد السيارة كانت السبب في نجاة النحاس، حيث كانت أوامره الواضحة والصارمة أن لا يتوقف في أي إشارة مرور، وهذا ما حدث تماماً حين اندفع السائق مخترقاً الإشارة الحمراء، في نفس لحظة إلقاء القنبلة، ولأن الجاني توقع أن تتوقف السيارة، انفجرت القنبلة في الفراغ ما بين توقع الجاني وتصرف السائق، وكانت النجاة.
تلك بديهيات الاحتراف، وأولويات حسن التصرف، وأصول حماية الشخصيات العامة، فما بالك بحماية الهاربين من محاولة اغتيال..
هو منطق قصعة الثريد إذن، هيا بنا نقتل أبو باشا، إذن نذهب إلى منزله، ونقتله أمام بيته، ونعلن بلحانا المشروعة، أننا هنا، وما دام الرشاش في اليد اليمنى، وفتوى حل القتل في اليد اليسرى، فلا ضير ولا جناح ولا تأثيم، وماذا نخسر إذا كان الفشل طريقاً إلى جنة النعيم، ولست أبالي حين أُقتَل مسلماً، أو حين أَقتلُ مسلماً، على أي جنب كان في الموت مصرعي، جنب أبو باشا أو جنب السادات، أو جنب جنود الشرطة في أسيوط، لست أبالي ومعي كل الحق ففي الجنة قصر ينتظر، كما أفتى بذلك الأمراء، وفي قاعة المحكمة محامون يتلمظون لتصفية حساباتهم مع السلطة، وسوف تشير أصابعهم إلى أبو باشا بأنه راسبوتين، وفي الخارج سوف تدق صحف المعارضة الطبول، وسوف تشيد بنا، وتتحدث عن تعذيبنا، وسوف تنشر صور القتلى منا معنونة باسم الشهداء، وسوف تنشر صور المحبوسين مكللة بالثناء، وسوف تصرخ في قفص الاتهام، وا إسلاماه، إسلامية إسلامية، وساعتها ربما ارتعد وزير الداخلية، حين يتذكر أنه بعد المعاش، مواجه بالرشاش، وربما تذكر القضاة، مصرع زميلهم الخازندار، في وضح النهار، وربما تذكرت القيادات الحزبية، وكتاب الصحف القومية، أطفالهم الصغار، وأقساط المدارس الأجنبية، وجهاز البنت (البكرية)، وكابينة الإسكندرية، وما دام الإخوة السابقون في الجهاد، قتلوا مائة ضابط وشرطي في أسيوط، ونجوا جميعاً من أحكام الإعدام، فليكن إذن ما يكون، ففي كل الأحوال، المكسب مضمون ومأمون، وما أدرانا فربما كتب عنا قاض عامل مثل المستشار غراب، مقالاً ساخناً كما كتب إلى عبود الزمر، يناجينا فيه كما ناجاه، ويصفنا بأننا على الدرب الصحيح كما وصفه، ويذرف من أجلنا الدمع الهتون كما ذرفه في مقاله بجريدة الأحرار، الذي هاجم فيه السلطة الحاكمة بحروف من نار، وما أدرانا وما أحرانا بأن نسير على الدرب، ما دام الوعي غائباً أو إلى غياب، وما دام أعضاء النقابات من الإخوة المجاهدين، يجيدون الإضراب ويعتصمون ليس استنكاراً للإرهاب، وإنما استنكاراً للتعامل معه، والرد عليه..
هذا هو حال مصر للأسف الشديد، رغم تكرار الوعيد، ورغم محاولة اغتيال مكرم، التي وضعت المزايدين في مأزق جديد، فليس لمكرم أعداء، وليس له عداء، إلا مع هؤلاء، وإذا كانوا قد رفعوا في محاولة اغتيال أبو باشا كرت المخابرات الأمريكية أو الإسرائيلية، أو القيادات العلمانية، فأي كرت يرفعونه بعد هذه المحاولة الغاشمة، وإذا كان التهويش (أو التلويش) قد أصبح مستهلكاً وممجوجاً بالنسبة للجهات الأجنبية، فهل يصدقهم أحد إذا وجهوا الاتهام إلى الزملكاوية أو الأهلاوية أو إلى مؤسسة الثروة السمكية..الإرهاب حسب الطلب
إن الإرهاب لا يعيش، ولا ينمو إلا في ظل الديماجوجية، وإلا عندما تفقد العين القدرة على التمييز بين الإرهاب وبين الشرعية، وإلا عندما يتنادى البعض بأن هناك إرهاباً مشروعاً وإرهاباً غير مشروع، وإرهاباً مستحباً وإرهاباً غير مستحب، وهو ما يحدث في مصر للأسف الشديد، فقاتل السادات ـ لأن البعض يكره السادات ـ شهيد، وقاتل رجال الشرطة في أسيوط إرهابي، بينما هذا من ذاك، بل هذا هو ذاك، وأستطيع أن أذكر عديداً من الأمثلة عن هذا الفرز للإرهاب، بل أذكر أنني كنت محاضراً في ندوة لحزب التجمع بالاسكندرية، وسألني أحد الحاضرين عن رأيي في اغتيال الملحق الإداري الإسرائيلي،، وكانت إجابتي الفورية أنه إرهاب، وأنه غير موجه إلى إسرائيل، لأن من يريد اغتيال إسرائيلي أو مواجهة إسرائيلي فأمامه أرض الله واسعة، لكن هذا عندما يحدث على أرض مصر، يصبح موجهاً إلى أمن مصر، وإلى سلطة الدولة في مصر، وسألته لماذا لا يرى الأمر من جانبه العكسي ويتصور أن متطرفاً إسرائيلياً قد اغتال الملحق الإداري المصري، ويتخيل رد فعله ورد فعل المصريين، بل وماذا يحدث إذا قررت كل فئة أن تصفي حسابها بنفس الأسلوب، فيقتل أعضاء الجماعات موظفي السفارات الاشتراكية لأنهم ملحدون، ويقتل اليساريون موظفي السفارات الغربية لأنهم امبرياليون، وسوف يجد كل فريق حججاً أكثر من وجيهة، وأكثر من منطقية، لتبرير ما يفعل، وإذا كنا نبرر الاغتيال لمجرد أنه (على الكيف)، فلماذا لا نتوقع أن يغتال شباب الأحرار رئيس التجمع، وأن يرد شباب التجمع التحية بأحسن منها لرئيس الأحرار، ويمكن أن نستطرد في هذا المنهج إلى أن يصل الأمر إلى اغتيال صالح سليم (رئيس النادي الأهلي) على يد الزملكاوية الأصوليين، وأذكر أن صاحب السؤال قد ردّ علي بأنه مازال مقتنعاً بأن ما حدث عمل وطني، لكنه في نفس الوقت يحترم رأيي تماماً، ويحترم شجاعتي في إبدائه، وصدقي مع نهجي الخاص في التفكير، وما دام الحديث قد جرّنا إلى حزب التجمع، فليسمح لي الأخوة اليساريون أن لا أعفيهم من اللوم، فأنا مازلت أتذكر كيف تحولت صحيفتهم إلى مهرجان لتحية سليمان خاطر، فقط لأنه قتل مجموعة من السياح الإسرائيليين، ولم يتوقف واحد منهم لكي يناقش نفسه بصدق، كيف يوصف قاتل الأطفال والنساء والشيوخ بالبطولة، وكيف يتبارى الجميع في اختلاق المبررات له، وبعضها أو كلها لم يخطر له على بال، ولم يسأل واحد منهم نفسه عن موقفه لو أطلق أحد أعضاء الجماعات رصاصة على السائحين الروس، وقتل منهم الأطفال والنساء، محتجاً بانتهاك السوفييت لأرض أفغانستان المسلمة، وإذا كنت أوجه اللوم لليسار، فمن باب الصداقة، ومن منطلق الاحترام لتيار لم يعرف عنه أنه امتشق سلاحاً غير الكلمة، بينما لا لوم لديّ ولا تثريب على موقف صحيفة الشعب، أو على صحيفة الأحرار، فمواقفها متناسقة مع ما يعلنونه من أفكار، وما يرتبطون به من تحالفات، وما يظنونه في أحيان كثيرة ـ وبعض الظن إثم ـ من أنهم هم أنفسهم الشعب، وأنهم وحدهم الأحرار، وما يؤكدونه دائماً في كتاباتهم من عمى الألوان، وفرز الإرهاب إلى إرهاب مستحب وإرهاب مستنكر، دون إدراك لأنهم ينوّمون المجتمع مغناطيسياً ويشلون قدرته على المقاومة، ويقيدون حركته في مواجهة الإرهاب، لأنه كما تعلم منهم، مطالب أمام كل حادث إرهابي بالتوقف، والتفكير، والتساؤل، هل هو إرهاب مرغوب أو غير مرغوب؟ مطلوب أم غير مطلوب؟ وهنا نختلف، ونختلق، ونضيف، وننقص، وتكون الضحية في النهاية مصر، والمنتصر في النهاية ذلك الكريه الكئيب، وأقصد به.. الإرهاب.
(*) انتهت كتابة هذا الكتاب في 30 يونيو 1987 قبل محاولة اغتيال النبوي اسماعيل وزير الداخلية الأسبق، وبالتالي قبل كشف خيوط تنظيم (الناجون من النار)، وقبل التحقق من أن التنظيمات السياسية الإسلامية المتطرفة وراء محاولات اغتيال أبو باشا ومكرم محمد أحمد وقبل شهور طويلة من كشف تنظيم (ثورة مصر) وأنه وراء محاولات اغتيال الإسرائيليين والأمريكان.