لماذا تركت الشعر وحيداً؟
2008-08-11
حسناً فعلت.
لا معنى لحزمة سنوات إضافية. لباقة شهور. لحفنة أيّام. لا يستجدي الفرسان السيد الوقت. هذه مهمته مذ ولد التراب. سيّاف وحطّاب. يكره القامات السامقة. والأغاني الشاهقة. والظل العالي. يلاعب ويهندس الكمائن والأفخاخ. يعانق ويتحسس خنجره. ثم تأتي الساعة. لا يليق بملاكم كبير أن يتوارى. يتقدم نحو الضربة القاضية. تفوح رائحة التراب.
حسناً فعلت.
صحّحتَ خطأ مزمناً. هذا قلب يحتاج إلى أجساد كثيرة كي لا تنوء به. هذه مخيلة تحتاج إلى شرايين أكثر وفاء. هذه قصائد تحتاج إلى قاموس أقلّ تجهماً. وما ذنب القلب لتحمّله أثقال هذا الشغف؟ وما ذنب الشرايين لتنهكها بالمناديل والأغاني؟ وما ذنب القاموس لتعرّيه فيفتضح مشاعل وفراشات؟.
حسناً فعلت.
أنت الهارب المزمن. سقطت الخريطة في القفص فأصابتك لعنة الفرار من الأقفاص. تدخل بلاداً لتودعها. تدخل عاصمة لتتلصص على القدس. تنام في بيروت لتشم رائحة الجليل. تعتب على دمشق ولا تنسى أنها دمشق. وتسهر في القاهرة لتستمع إلى تقارير النيل. وتحمل في حقيبتك دموع بغداد. ينافس عدد قتلاها عدد أشجار النخيل. وتستيقظ باكراً في عمّان كي لا يطول الانتظار على شفير الجسر.
أنت المتبرم المزمن. يتبرم القلب من قفص الجسد. وتتبرم المخيلة من قفص الدماغ. تتبرم المفردة من ايقاع القصيدة. والقصيدة من قفص القاموس. والقاموس من حدود اللغة والمخافر المنصوبة عند تخومها. ويكتب على الشاعر أن يقاوم كل هذه الأقفاص. أن يحرر النار من معتقلاتها. والعصافير من الثكن. والمفردات من غرف التحقيق والتعذيب. والخرائط من حبر الاحتلال. والوطن من المستوطنات. والأمة من قفص الماضي. والجامعات من وطأة الليل. والضمير العالمي من إجازة لا تنتهي. يتعب العصفور من مقارعة الأقفاص. يضع نقطة في آخر السطر وينام.
حسناً فعلت.
أكاد أجزم أنك قد تعبت. أيها الإرهابي العتيق. أيها الإرهابي الأبيض. ضبطوك بالجرم المشهود. تنشر وجع المخيمات على حبل الزغاريد. ضبطوك متلبساً بعروبتك الرحبة. ضبطوك تكاتب عصافير الجليل. ضبطوا مناديلك تحرّض الموج في بحر حيفا. خافوا أن يعلن البحر انتفاضته. ضبطوك متسللاً إلى الضمائر. وكتب المدارس. ضبطوا الحمام يروج لحبرك السري. ضبطوك تزرع الياسمين ليلاً في قريتك القتيلة. وتدسّ الياسمين في قهوة أمك. ضبطوك تهرّب المواويل والقناديل. وضبطوا صبية تخفي دواوينك في حقيبة عرسها. جريمتك أكيدة أيها الإرهابي الجميل. أقلقت المحتل. وغسلت روح القاموس.
قبل شهور جلس على شفرة النيل. كانت المناسبة لقاء لمؤسسة ياسرعرفات. شعرت كأنه جاء ليدسّ أحزانه في النهر. كان عاتباً. وكان غاضباً. ويحاول إخفاء يأسه. كان يتجرع سمّ ما حصل في غزة. ولم يتردد في البوح. يكره الظلم. ويخشى الظلام. يؤلمه أن العواصم تضيق وتختنق. طلقت المستقبل وانصرفت إلى حفر الأنفاق وبناء المتاريس. يؤلمه هذا العجز عن قبول الآخر. هذه الرغبة في محوه. تقلقه هذه القدرة على الانتحار. هذه الهجرة إلى القواميس العتيقة.
تذكرت في تلك الليلة ما قاله في 1994 في تونس لدى سؤاله عن اتفاق أوسلو. قال: "أتحاشى النظر إلى الخريطة. انها تهجم علي كالمخرز...". ولم يعد سراً أن الخريطة ليست المخرز الوحيد. اكتشف محمود درويش أن الأمور أقلّ بكثير مما كان يعتقد. اكتشف أن الأمة تغرق في موسم أقفاص ومن دون أن يظهر ضوء في آخر النفق كان يبشّر به دائماً صديقه "الختيار" الذي ينام الآن في تراب فلسطين. وكأن التراب أراد مغالبة قلقه فاستدعى ياسر عرفات ولم يتأخر في استدعاء محمود درويش. كأنه يحتمي بنعشين وعاشقين. بكوفية الأول وقصيدة الثاني.
حسناً فعلت.
اختصرت خيباتك. واختصرت منافيك. وآلام أغانيك. عرفت وأنت الرائي أن الليل يزداد قتامة. والأقفاص تزداد قسوة. لوحت وذهبت. قدر الينابيع أن تنفجر. قدر الغيوم أن تنهمر. قدر الأنهار أن تلقي بنفسها في البحر. هذا حجر الأغاني يتغطى بالتراب. ينزرع نجمة ليراقب الآتي. كان فلسطينياً حالماً من التراب إلى التراب. وكان شاعراً من الوريد إلى الوريد. وكان يتدرب كل صباح على تجديد حلمه وتجديد قصيدته.
حسناً فعلت.
اختصرت أهوال العيش وأهوال اللغة. لكن دعنا نعاتبك. نادراً ما ترتكب أمة أغنية بهذا البهاء. لماذا دفعت الحصان إلى الهاوية؟ لماذا تركت الشعر وحيداً؟.
سجّل: خسرناك. لكن لا تعتذر عما فعلت.
08-أيار-2021
10-آذار-2018 | |
05-آذار-2011 | |
11-آب-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |