كوتشوك مدام بوفاري فلوبيرتشكل الراقصة المصرية المعروفة كوتشوك هانم لغزاً محيّراً للكتّاب. لغزها هذا يستشري في الحكايات التي كثرت حولها وصارت أشبه بالتعوايذ التي تستولي على القلوب والعقول. أكثر ما يتجلى هذا اللغز في علاقتها بالكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير صاحب رواية "مدام بو فاري". ولعل الشرق الذي كان فلوبير يتخيله هو الذي جعل من كوتشوك هانم هذا اللغز المخدّر. وقد عثر عليه الكاتب الشهير مجسّداً بالراقصة نفسها التي صارت رحلة اسطورية في الخيال الجنسي والأدبي لكتّاب وشعراء وفنانين كثر بل صارت بطلة سحرية للكثير من الكتابات الاكزوتيكية والغرائبية. لعل كتاب "فتح ملفّ كوتشوك هانم" لفاروق سعد يلقي الضوء مجدداً على هذا اللغز.
في 27 آذار 1853 وجه الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير رسالة الى عشيقته الاديبة لويز كوليه كتب فيها ما لم يجرؤ على قوله لها ومواجهتها به شفاهاً، وهو تبرير وقائع لقائه بالعالمة المصرية كوتشوك هانم في منزلها في إسنا في مصر في 16 آذار ،1850 وما تخلل اللقاء من أفعال ماجنة، بدءاً من قيام رفيقه مكسيم دوكان بمضاجعة كوتشوك في الطبقة السفلى من منزلها، وصعودها الى الطبقة الأولى لتؤدي رقصة التعري المعروفة باسم "رقصة النحلة" الخلاعية والتي أعقبتها مضاجعاته المتتابعة لها على سرير من القصب في مخدعها "طوال الليل"، على حد وصفه.
سعى فلوبير في رسالته الى لويز كوليه ان يزيل من نفسها ما أثارته فيها من غيرة ونقمة عليه قصيدة قرأتها للشاعر لوي بوييه وصف فيها كوتشوك هانم وصفاً مثيراً للغرام والحنين. وهي القصيدة التي استوحاها من رسالة كتبها فلوبير في 13 آذار سنة 1850 ووجهها الى صديقه لوي بوييه روى فيها تفاصيل ما حدث مع كوتشوك هانم، واصفاً رقصة التعري التي ادتها.
يرجّح فاروق سعد لن تكون لويز كوليه، وإثر قراءتها قصيدة لوي بوييه وهي بما عرف عنها من جرأة وسطوة على الرجال قد حملت بوييه على اطلاعها على الرسالة المذكورة. وعلى هذا، صرّح فلوبير في رسالته الى لويز كوليه في 27 آذار سنة 1853 مستدركاً ومدافعاً عن نفسه: "أما عن كوتشوك هانم فليهدأ بالك ولتصوّبي آراءك عن الشرق. فإني واثق ان العاطفة لم تجد سبيلها الى قلبها، بل إني أشك في أنها كانت صادقة الحسّ بالمتعة الجنسية، (...) المرأة الشرقية خالية القلب لا فرق عندها بين رجل وآخر، ولا همّ لها إلا نارجيلة تدخّنها وحمّام تختلف اليه وكحل تكحل به عينيها وقهوة تحتسيها، أما عن إحساسها بالمتعة الجسدية فهذا أمر تافه بالنسبة إليها، وأكاد أعزو هذا الى ختانها في سن مبكرة".
ان عبارات فلوبير عن كوتشوك هانم هي التي جعلت فاروق سعد يفتح ملفها لاكتشاف حقيقة ما اعتمده من معطيات عن هذه العالمة ككل من فلوبير ومكسيم دوكان، وقبلهما جورج كوتيس، وغيرهم. وكانت البداية مع لويز كوليه، المرأة التي وجّه اليها فلوبير رسالته في 27 آذار 1853 وتناول فيها كوتشوك هانم.
يقول فاروق سعد انه، ذات يوم من مطلع خريف عام ،1869 رست في ميناء الاسكندرية سفينة فرنسية نزلت منها امرأة آتية من عالم الغرب، وبالتحديد من فرنسا، في طريقها للبحث عن امرأة في مصر هي كوتشوك هانم. لكنها لم تعثر عليها رغم انها فتشت في الكثير من الأمكنة. وعادت خائبة.
الجامحة كان من المتوقع أن تتابع تلك المرأة، بعدما عادت الى وطنها في الغرب، استقصاءاتها عن تلك المرأة التي فشلت في العثور عليها في عالم الشرق. وكان يفترض ان تعود هذه المرأة الى المصدر الذي استقت منه في الأصل معلوماتها، فتعمد الى مراجعتها وتحليلها، مدققةً في أساسها، متحرية عن تشعباتها، لو لم تكن تلك المرأة هل لويز كوليه وهي كما أجمعت الكتابات التي تناولت سيرتها، على ما هي عليه من مكابرة في الرأي، وعنفوان في النفس، وجموح في المشاعر الى حد التهوّر. حتى انها لم تتردد ذات يوم من الانقضاض بسكين على الكاتب ألفونس كار وغرزته بين كتفيه، لمجرد أنه تجرأ على انتقاد نتاجها الشعري والطعن بشرعية منحها أربع جوائز على شعرها.
كان يمكن ان تستمر لويز كوليه في تحرياتها عن تلك المرأة، لكن ذلك لم يحصل، لما كانت عليه من أنانية واستئثار وزهو بقلبها الحنون، ومن اعتزاز بجسدها. فظلت رغم تقدمها في السن في حنين الى ذلك الزمان الذي كان فيه جسدها رحباً يحتضن عشق ذوي الكفاءات الجسدية، المغمورين والمشعورين، أمثال فيكتور هوغو والفرد دو موسيه، وفلوبير الذي استمرت علاقته الحميمة به ثماني سنوات رغم انها كانت تكبره بأحد عشر عاماً. وكان فلوبير هو ذلك العشيق الذي جاءت كوليه الى الشرق لتبحث فيه عن غريمتها على قلبه ومنافستها على جسده: كوتشوك هانم. لكنها في كتاباتها عن رحلتها الى مصر تجنبت الكلام عن كوتشوك.
ولم يكن ليثني كوليه عن اغتنام مناسبة رحلتها الى الشرق للبحث عن كوتشوك، سواء أكانت قد قرأت أم لم تقرأ ما كتبه لويس باسكال عن رحلته الى الشرق بعد سنوات من رحلة فلوبير في كتابه "رحلة الى الشرق" حيث وجد، على زعمه، في العنوان الذي قصدته لويز كوليه في إسنا امرأة أخرى غير كوتشوك هانم، لا تقل عنها إثارة تدعى حسنة، والتي قد تكون حسنة الطويلة التي وصفها فلوبير بـ"الخنزيرة البدينة" وذكر انه التقاها في قرية قنا وضاجعها مراراً وأغرمت به وقد انتقلت الى إسنا.
فلوبير والجسد الراقص يبيّن فاروق سعد ان وصف كل من كورتيس ودوكان لكوتشوك هانم لا يتطرق لا من قريب الى وصف جسدها، ولا الى زيها - كأنثى. ولا اشارة صريحة او ضمنية الى أي عضو انثوي فيها حتى في المواضع التي تتضمن تلميحاً او تصريحاً بمضاجعتها! ويلاحظ فاروق سعد ان فلوبير عندما أتى على ذكر كوتشوك كامرأة شرقية، فذلك في رسالة له بعد ثلاث سنوات من عودته من مصر. ويلاحظ أيضاً ان فلوبير في وصفه للراقص حسن البلبيسي في رسالته الى بوييه في 13 آذار 1850 يذكر ان البلبيسي "رقص له رقصة النحلة" في فندق النيل فبدا كأنه أكثر اهتماماً بجسده من اهتمامه برقصته! وعندما يقارن فلوبير بين رقص كوتشوك ورقص حسن البلبيسي، يفضل هذا الأخير، لكن هذا التفضيل غير واضح المعالم في كتاب الدكتور سعد.
يتساءل فاروق سعد: ترى من تكون كوتشوك هانم؟! هل هي حقاً محظية عباس باشا الأول كما زعم دوكان؟! هل هي حقاً صفية التي زعم بريس في كتابه "مصر تحت سلطة محمد علي" على "انها محظية عباس الأول"، لكن ذلك ليس صحيحاً. رغم ان اكثر الكتّاب خلطوا بين كوتشوك وصفية، بل أسرفوا في التخييل والاختلاف الى حد يخرج الى اللامعقولية.
اذا كان الذين كتبوا عن كوتشوك هانم، رحالة او باحثين، قد أجمعوا على أنها هي صفية التي كانت محظية لعباس باشا الأول، فإن هناك من ذهب أبعد من ذلك، بالقول ان كوتشوك كانت زوجة له. لكن فاروق سعد يجد ان الذين كتبوا عن كل من صفية او كوتشوك هانم وأصلهما وفصلهما، لم يكونوا على صواب في ما ذهبوا إليه او زعموه فلا صفية ولا كوتشوك هانم كانت يوماً محظية او مستولدة او زوجة لعباس الأول.
لا فرق بين أن تكون كوتشوك هانم محض غازية مجهولة الماضي، أو عالمة كانت ذات يوم زوجة او محظية لشخصية ذات مكانة رفيعة على جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وبصرف النظر عمّا اذا كانت هذه المرأة منتمية الى عالم الخيال أو تعيش في عالم الواقع، وبصرف النظر عما تمثله كوتشوك هانم بالذات وما ترمز اليه من الناحية الأدبية والجمالية عند عمر فاخوري، وما حلله من الناحية الفلسفية عامة والنفسية خاصة جان بول سارتر، وعالجه من الناحية الأخلاقية والاجتماعية ادوارد سعيد وعالجه ثروت عكاشة من الناحية التاريخية، وبحثته من الناحية الأدبية والسياسية رنا قباني، فإن هؤلاء الأربعة يسلّمون من دون تحفّظ، بالوجود التاريخي لهذه المرأة، على قول فاروق سعد، فقد نبهوا بشكل غير مباشر، الى المدى البعيد الذي وصل اليه الوهم بغوستاف فلوبير خاصة في وصفه كوتشوك هانم ورقصها والليلة التي امضاها في مخدعها، وصفاً مثيراً حوّلها ضباباً أسطورياً كثيفاً حجب الواقع عن البصر.
حدود الوهم
وعندما عالج جان بول سارتر السيرة النفسية لغوستاف فلوبير في كتابه "أبله العائلة"، توقف عند كوتشوك هانم بعدما ألفى فلوبير مغرماً بالمرأة التي تنمّي احساسه بوهم الواقع. ومن هنا كان تفضيله المومسات لطاعتهن وانقيادهن على مثيلات مغنيات وممثلات طالما أغوينه كلما غشاهن الخيال، مثل برسون ولاجيه حيث الحب معهن واقعي جداً ودقيق جداً، وتبقى أضواء المسرح حدوداً للوهم خلفها، واذا وصل سارتر الى كوتشوك، أورد و"الحال انه، في سنة ،1850 بالطريقة نفسها تماماً، سوف تثير كوتشوك هانم رغبته - (فلوبير) انها كما يفيدنا به - مومس مشهورة جداً، تعتمر طربوشاً يصفه طويلاً، والذي ينمي الانطباع باللاواقعية أخيراً انها ترقص "ترفع نفسها تارة على رجل وطوراً على الرجل الأخرى، شيء مدهش، رأيت هذا الرقصة على أوان اغريقية قديمة".
كان فلوبير يضاجع كوتشوك لكي يخرج من الواقع. ويسلك ادوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" مسار التحليل النفسي - الثقافي الذي سلكه سارتر ويضعه ضمن إطار اجتماعي، مضيفاً ردة الفعل الشرقية إزاء كتابات فلوبير عن الشرق فيعتبرها محاولات لتشكيل عالم خيالي بديل من عالم الواقع الغربي: "أما أكثر اللحظات احتفالية في أسفار فلوبير فترتبط بكوتشوك هانم. التي كانت النموذج البدئي لعدد من شخصيات رواياته النسائية، بشهوانيتها المتفقهة، ولطافتها (وتبعاً لفلوبير) خشونتها اللامبالية. وقد أحب فلوبير بشكل خاص انها بدت كأنها لا تطلب منه شيئاً أبداً، بينما امتزجت "رائحة البق المثيرة للغثيان في سريرها مع عطر جلدها، الذي كان يقطر منه الصندل".
المرأة الشرقية هي مناسبة وفرصة لتأملات فلوبير. فهو مسحور باكتفائها الذاتي، بلا مبالاتها العاطفية، وكذلك بما تسمح له، وهي تستلقي الى جانبه، بالتفكير به. وفي كونها عرضاً لأنوثة باهرة اكثر منها امرأة، فإن كوتشوك هي النموذج البدئي لشخصيتي فلوبير، سالامبو وسالومي، وكذلك لجميع الصور المعدة للإغواء الجسدي الانثوي الذي يتعرض له القديس انطون في روايته - وكانت كوتشوك، تستطيع ان تقول مثل ملكة سبأ (التي رقصت هي ايضاً "النحلة") - لو امتلكت القدرة على الكلام لقالت: "أنا لست امرأة، أنا عالم".
شرق التهويمات الجنسية ويرى ريموند شواب ان استخدام فلوبير للشرق كرمز أدبي كان بمثابة هرب من الذات المملولة في الواقع اليومي المضجر. فرحلته الخيالية الى الشرق بدأت قبل ان يذهب فعلاً اليه بوقت طويل. وعندما وصل في النهاية الى مصر عام 1849 أشعره جوها بأنه كمن رآها من قبل، وها هو الآن "يلتقيها من جديد". كان من شأن رحلة فلوبير الفعلية ان اكدت رحلته الخيالية. ومن هذا المنطلق تبيّن رنا قباني ان الشرق قد ترافق دائماً في الذهن الاوروبي مع "التوقعات الجنسية"، إذ كان يبرز في ثنايا النصوص اللاهوتية والأسطورية القديمة نموذج المرأة الغاوية. فهناك ديدون في رواية "فرجيل" تستقبل اينياس في فراشها كما استقبلت كليوباترا انطونيو في سريرها. وهنالك ميديا المتطرفة في عواطفها وعنفها. انها الشرقية، الهمجية التي تغوي وتصدّ في اللحظة الواحدة. ثم هناك بلقيس، صاحبة عرش اليمن، المرأة الشرقية الجميلة "التي أسمعها الملك سليمان أعذب كلمات الحب". أما سالومي فجمالها وشرها متلازمان، رقص يثير ويخيف في آن واحد، وقد أصبحت موضوعاً مهماً في ايقونات عصر النهضة وفي لوحات القرن التاسع عشر وأدبه وموسيقاه.
يبيّن أحد الكتّاب ان كوتشوك هانم متجلية في معظم أعمال فلوبير، في "سلامبو" وفي "التربية العاطفية"، كما ان صورة كوتشوك جاءت على صورة ملكة سبأ في قضية فلوبير "إغواء القديس انطوان" التي كتبها قبل رحلته الى الشرق. او بمعنى آخر ما كتبه فلوبير عن الشرق كان متخيلاً قبل أن يكون واقعياً. لكن هذا لا ينفي ان كوتشوك هانم كانت امرأة حقيقية وليست سراب أخيلة كما يحاول فاروق سعد أن يثبت. انها واقعية وإن كانت أقرب الى الخيال الإيهام.
ملحق النهـار الثقافي
فتح ملف كوتشوك هانمالمؤلف:
فاروق سعدالتوفر: عدد الاجزاء: 1
سنة النشر: 2003
الطبعة رقم: 1
الناشر: مؤسسة المعارف للطباعة والنشر
صفحة: 304
القياس: 21cm x 29cm
ISBN: 9953-403-06-6