مناقشة لأراء أدونيس حول الثورة والشعر
2006-04-08
المقالات الأربعة التي نشرها أدونيس تباعاً في زاويته الأسبوعية في الثورة تحت عناوين: "ثورة الأشياء/ ثورة الكلمات"، الطليعة السياسية /الطليعة الشعرية - حلقتان- "،"آفاق العمل/ آفاق الحلم"، وأضيف إليها افتتاحية العدد الخامس من ملحق الثورةالثقافي،أنما تشكل مونولوجاً متكامل وواحد. وإذا كان هذا المونولوج يكشف عن هواجس الشاعر" المشروعة " حيال قضايا كبيرة فيواقعنا السياسي والثقافي هي: الشعر والثورة والجماهير، إلا أنه للأسف يلتف، وينغلق في دائرة تحبط أمكانية تحوله إلى حوار.
فأدونيس يطرح أفكاره بوثوق " تقريري" ، ثم يتصور الاعتراض، ويفندها، ثم يصل إلى نتائج باطمئنان لا توهنه وساسة أو شكوك. أنه تقريباً يسدل الستار في وجوهنا، ويجبرنا على أحد الاختيارين: أما أن نقبل المونولوج بتمامه، وبكل ما يقود أليه من نتائج، وأما أن ننسحب من الصالة. ولكن القضايا التي يثيرها أدونيس جوهرية بالنسبة لنا،وعلى مواجهتا يرتكب بعض مصيرنا. لهذا يتعذر علينا الاكتفاء بأحد هذين الاختيارين السلبيين ، ولا بد من التدخل في سياق هذا المونولوج، ومحاولة تفكيك ترابطه الظاهري. أولاً كي نحوله إلى حوار, وثانياً كي نتفحص محتواه، وصحة الأحكام التي يزدحم بها.
* * *
التدخل الأول :
المعاني أو الأفكار- الموقف
في بداية المقالة" ثورة الأشياء/ ثورة الكلمات" يحدد أدونيس تعريفاً، ومعياراً نقدياً للشعر.. يقول:" من جهة هناك فكرة، أو معنى كما كان يعبر النقاد العرب القدامى، وهو معنى مشترك عام، أو مبذول للجميع بحسب تعبير الجاحظ: للشعراء الكبار والصغار،الجيدين والرديئين. وهناك طريقة للتعبير عن هذا الفكرة أي لصياغتها، بحسب المصطلح النقدي العربي. ومقياس الأفضلية بين شاعر وشاعر لا يكمن في فكرة،أنما يمكن في طريقة،ذلك أنها هي التي تميز تمييزاً كاملاً بين الشاعر الجيد والشاعر الرديء" .
هذا التحديد الحاسم الذي يشكل المنطلق الأساسي لكل ما سيأتي في مقالاته الأربعة، ينطوي بدءا على كل الالتباسات التي يضعنا أدونيس في دوامتها. فهو يعامل كلا من الفكر أو المعنى بكثير من الازدراء، ولا يدع لهما في العمل الشعري إلا هامشاً ثانوياً، أو قيمة واهية جداً.
وثمة ميل شبه ألي لدى الكثيرين للإقرار بصحة هذا الرأي الذي لا يفتأ يردد بأن الأفكار مشتركة أو مبذولة للجميع، وما يهم في العمل الأدبي أو "الشعري" هو صياغتها وطرقة التعبير عنها. وإنه لضروري الآن إن نتفحص بتدقيق وإمعان إبعاد هذه المقولة، والأخطار التي يمكن أن تسوق إليها.
لنفرض فعلاً أن كل المعاني والأفكار مشتركة ومبذولة للجميع. وهو فرض نظري خاو لا يوازيه إلا القول بأن كل ثروات العالم مشتركة ومبذولة للجميع. ولكن مع هذا لنمض إلى النهاية ما يؤدي إليه هذا الافتراض. إذا كانت الأفكار مبذولة كدخان وغبار المدينة، وإذا كان يبني فكرة دون أخرى أمر لا قيمة له في حد ذاته ، فهذا يعني بشكل ما أن الأفكار، كل الأفكار تتساوى قيمة وهمية. وأن اختيار أي فكرة يتماثل في القيمة والأهمية مع اختيار أي فكرة أخرى. وإذن.. فكل مضامين الشعر مبررة. كلها مشروعة. كلها متماثلة. تلك هي النتيجة - المتاهة، التي يقودنا إليها التسليم بمقولة أدونيس. نتيجة تحتقر أو تهمل القيمة
" الموقف الانتقائي" من الأفكار، كما أنها تلغي المعايير الأساسي الذي يحدد هوية الكاتب، الشاعر، بله الإنسان. فنحن نعرف أن الأفكار ليست متجانسة أو متمائلة، وإنما هي متناقضة ومتنابذة. وفي تناقضها وتنابذها تعكس" اديولوجياً" الصراعات المادية والاجتماعية عبر التاريخ. أو بتعميم وتبسيط أكثر... تتباين الأفكار وتتعارض قيمة وأهمية وفقاً لمواقع القوى التي تتبناها، وتتسلح بها.. وأفكار قوى الرجعية ليست هي أفكار القوى التقدم. لهذا فأن الفكرة " مهمة" في حد ذاتها. وما يتبناه الشاعر من أفكار، حتى لو كانت مبذولة للجميع، يشكل ملمحاً جوهرياً من ملامح " خصوصيته", لأن في هذا التبني اختياره، وموقفه، وانتماءه. ويتحدد الاختيار والموقف والانتماء على مستويين متشابكين هما الموضوع والمحتوى. والحقيقة أن أدونيس يستعمل في عباراته كلمتين غير محددتين تماماً. أنه يتحدث عن الفكر، أو معنى بشمول يتضمن مسألتين مختلفتين إلى حد ما رغم ترابطهما. ففي كل عمل أدبي هناك أولاً الموضوع, وهناك ثانياً المضمون الذي نشحن به هذا الموضوع.. وهذان الجانبان يشكلان معاً، وبعيداً عن أي تصوير ميكانيكي جوهر اختيار ومواقف وانتماء الكاتب. وقد وضح
" أرنست فيشر" في كتابه " ضرورة الفن" هذه المسألة بصورة لا لبس فيها. فهو يقول:
" ..وإذا كان الموضوع والمضمون يقدمان دائماً مترابطين, إلا أن مع ذلك لا يعبران عن شيء واحد إذ يمكن أن يعالج ويفسر اثنان من الفنانين أو الكتاب موضوعاً واحداً تفسيرين مختلفان إلى حد يجعل عمل كل منهما مختلفاً، تماماً عن عمل الآخر. ولا شك أن الاختيار الموضوع أهميته الكبرى، ونحن نستطيع أن نحدد عن طريق هذا الاختيار، بالإضافة إلى أشياء أخرى، موقف الفنان أو الكاتب (...) وإن الموضوع يرتفع إلى مستوى المضمون من خلال موقف الفنان وحده ، لأن المضمون ليس مجرد ما يقدمه الفنان، بل أيضاً كيف يقدمه, في أي سهياق، وبأي درجة من الوعي الاجتماعي والفردي. وموضوع مثل – الحصاد - يمكن أن يعالج كأنشودة شجية، أو كلوحة مائية تقليدية، أو كجهد إنساني مرهق، أو كانتصار للإنسان على الطبيعة: فكل شيء يتوقف على وجهة نظر الفنان، وما إذا كان يتحدث باسم الطبقة الحاكمة ومعتذراً عنها، أو كسائح عاطفي يقضي يوم العطلة، أو كفلاح متذمر، أو كثوري " اشتراكي " .
إذن اختيارك الموضوع يحدد خطوطاً من موقف وانتماء الكاتب، ثم يعمق المضمون هذه الخطوط ويوضحها. فحين اختار توفيق الحكيم عام (1969)، أي في غمرة الهزيمة وغمرة الاستنزاف" الحياة على سطح القمر" موضوعا لأحد مسرحياته فأنه قد حدد بذلك موقفا وانتماء واضحين بالمعنى السلبي. إنه التخدير والانسلاخ الفاضح عن الناس وفواجعهم التاريخية. وإذ يتناول نزار قباني في شعره موضوع " تحرير المرآة " فهذا يحدد بعض ملامح" موقف " لكنه حين لا يتعدى في المحتوى بعض القشور الخارجية، وتتوقف رؤيته عن مواضعات الطبقة البرجوازية في العلاقة بين الرجل والمرآة، فأنه يوضح ويكشف قيمة وطبيعة موقفه وانتمائه.. لهذا عندما يزدري أدونيس المعاني أو الأفكار، وبالتالي الموقف النابع من اختيار الموضوع ومحتواه، فأنه يجردنا من المعايير أساسي لتقويم الشعر، والأدب عامة، كما أنه يبعثرنا في فوضى، يتصالح عبر دوامتها الكاتب الفرنسي الفاشي" سيلين"، والكتاب التقدمي برشت.
التدخل الثاني :
لثورتان المنفصلتان – الفراغ
قد يحتج أدونيس قائلاً: إن رأيه يرد في سياق الحديث عن الثورة في الواقع المادي و الواقع الشعري. وإن هذا يعني اختيارا بين أفكار المبذولة حتى ولو كان مضمراً. لقد اختار موضوع " الثورة ". ومن هذا الاختيار يمكن استشفاف موقفه شاعرا, ومنظرا. لكن القضية للأسف، ليست " قشرية " إلى هذا الحد. ومناقشة أرائه حول الثورتين المادية والشعرية سيكشف لنا المزيد من الالتباسات التي يدوخنا في دوارها، وأحياناً بما يشبه اللذة.
في الثورة، يميز أدونيس بين " ثورة الأشياء " وهي التي تقوم بها – تحديداً – العمال والفلاحون، وبين " ثورة الكلمات " التي يقوم بها – تحديداً – الشاعر. ثم يجتهد في المقارنة بين الثورتين، أو في تحديد " خصوصية " كل منها. إلا أنه يعجز عن ربطها بأي علاقة، ويتحاشى كل الصيغة التفاعلية بينما. فنحن أمام ثورتين مستقلتين تمضيان الوحدة بمحاذاة الأخرى أو خلفها، وليس بينهما إلا صلة محض شكلية قد لا تتجاوز التسمية. ومرد هذا الانقطاع، أو الانفصال، إنما يعود إلى رؤية أدونيس للثورة المادية، - ثورة العمال و
الفلاحين -. فهو يتحدث عن هذه الثورة كتجريد ذهبي، أو كصورة رومانتيكية غير مرتبطة إلا بخطوط واهية مع الموقف الموضوعي بكثافة حقائقه، وغنى حركته. إنها تقريباً طفرة في الهواء، وخارج وعاء التاريخ، لا نعرف كيف تتم، ووفق أية قوانين؟ تقريباً هي معجزة يحققها عمال والفلاحين شف وجودهم حتى باتوا كالخيالات النورانية. وفي هذه المعجزة، الحديث عن الأيديولوجية مسألة ثانوية، والوعي معطى بصورة غيبية، والانفجار صاعقة تهوي دون توقع. بقول أدونيس: " الثورة هي شعر المادة. والعمال والفلاحين هم شعراؤها الطبيعيون. وليس العمل بذاته الفكرة بذتها، هو ما يهم في الثورة، بل المهم هو دلالة العمل ( طريقة التعبير ) فقيمة العمل ليست معطاة في الحركات المباشرة التي تكونه، وإنما هي تابعة للمسافة بينها وبين العمل، أي بين العمل ودلالته التي تتجاوز المعطى المباشر إلى الممكن." وواضح من هذه العبارة ، رغم افعوانية اللغوية التي يستخدمها أدونيس وسيلة لشل قارئه، طبيعة نظرته الطوباوية أو" التجريدية " للثورة . فهو يغمض عينيه عن " الإيديولوجية "- الفكرة ذاتها، ويطرحها جانباً كالعنصر ثانوي، ليقفز إلى الدلالة، إلى النتيجة، إلى تجسيد الممكن. هذه القفزة نحو الممكن ليست فقط غير ممكنة دون أيديولوجية،بل أن الممكن نفسه لا يمكن تحديد معالمه إلا عبر المنطلق الأديولوجي.. ولذا فأن العمل يتضمن دلالته إذا أردنا استخدام كلمات أدونيس، والمسافة بين العمل، وتحقيق تلك الدلالة، هي بالذات النضال اليومي المترابط الذي يبدأ من الوعي، ويعبر في صرعات مستمرة، وأحياناً دموية، حتى يصل إلى أنجاز مهمته وهي الثورة. وفي هذا السياق يمضي العمل0والدلالة في ديالكتيك خصب يتنامى كل لحظة. والعمال والفلاحون في غمار هذه الدبالكتيك ليسو صورة ذهنية، وإنما هم وجود حي، مليء بالحضور، ومحدد بظروف تاريخية معينة سواء اقتصاديا، وثقافيا، أو وعيا بوحدتهم الطبقية. وهم لا يستطيعون أن ينظموا قصيدة الثورة بالإلهام، وإنما بتضافر مجتمع من عوامل موضوعية ليس أقلهم الوعي، والتنظيم، والظروف التاريخية المواتي، والإيمان الجار بإمكانية الثورة. أو بتعبير آخر، تضافر كل الفعاليات الثورية في مجتمع خلق الظروف الملائمة لولادة قصيدة الثورة. لكن أدونيس تجاهل كل هذه الحقائق، ويتخيل واقعاً تاماً ناجزاً يخططه على أساسه نظريته في الشعر الثوري. وفي مقاله " الطليعة السياسية/ الطليعة الشعرية " - الحلقة الثانية – يبلغ هذا التجاهل قمته حين يقول في حوار مبني على الوثبات " أن هذه الطبقة لا تستطيع تحقيق الثورة بالمعنى الحقيقي للكلمة، إلا إذا كانت هي نفسها، عقلياً وحياتياً، قد ثورت نفسها، أي خرجت، بتفكيرها وسلوكها،من العالم القديم التقليدي، بمفهوماته وقيمه كلها، وأخذت تمارس بناء العالم الثوري الجديد." .. ويلفت النظر حقاً ما في عبارة " قد ثورت نفسها " من انقطاع عن الواقع، ومراوغة المسؤولية. كيف ثورت نفسها؟ أهي المعجزة! أم ربة الشعر! أم التوالد الذاتي! أن أدونيس لا يخبرنا إلا بمجرد الإشارة إلى الطليعة السياسية.
ولدينا كل الحق أن نستنتج أن المسألة تعنيه كثيراً.لأن الثورة التي يتحدث عنها هي الثورة الذهنية، أو افتراضية، مسلوخة عن الواقع وتعقيداته. ولا شك أن هذا التصور الذهني يفرغ الثورة من تاريخيتها، ومن جواهرها كتحليل أيديولوجي محدد لموقع محدد، ثم كصراع متواصل عبر متغيرات هذا الواقع وصولاً إلى تحقيقها. وبمثل هذا التفريع تغدو الثورة صورة طوباوية لا يكلف، ولا يقتضي الانتماء إليها أي شيء. أنها هناك.. في الزمن الأتي. طفرة تمت، وشكل تكون. وما بين الآن والزمن الأتي مسافة طويلة،تختفي في طياته كما الغبار،
الأيديولوجية، وجدليان الواقع، وتناقضات القوى، والنضالات اليومية... أو باختصار، كل سياق الثورة الذي هو بالتحديد العلمي: عملية الثورية الحقيقية. بهذا المفهوم ، يعزل أدونيس نفسه,وبشكل مخيب، عن عملية الثورة المادية، ويعجز عن أقامة أي ارتباط بين هذه الثورة، وثورة الشعر الذي يبشر بها. وينكشف عمق تلك العزلة، ووطأة هذا العجز، بصورة أجلى وأدق، إذاً حللنا الآن، وقد حان الوقت، تصويره عن الثورة الشعرية: ماهيتها ، وأدواتها، والممكن الذي نتفتح عليه.
التدخل الثالث:
علم جمال التغير- القصيدة الشكل
يستعير أدونيس من الثورة الحقيقية – المادية – قشرتها " إنها الحركة الانقلابية الشاملة "، ثم يحاول أن يؤسس بالتوازي مع هذه القشرة، وليس بدءا من الثورة، أو بالتفاعل معها، على جمال جديد يسمى في مقاله " الطليعة لسياسية / الطليعة الشعرية -2- " علم جمال التغير.
" فإذا كان من الممكن أن نسمي علم الجمال الموروث علم جمال الثبات، وإذا كانت الثورة تغير1، فمن الممكن أن نسمي علم الجمال الجديد بعلم جمال التغير". وهو يصوغ أسس عالم الجمال الجديد بأسلوب شبه إرهابي، أو " جدانوفي " ما دام يؤثر هذا الوصف على سواه. فالجدانوفية ليست وحيدة الاتجاه، حتى ولو تعمد البعض ألا يرو فيها ألا اتجاها واحدا. لكن تلك نقطة أخرى.. فما أعنيه بالأسلوب شبه الإرهابي، هو أنه يجردنا، وباحتقار بارد، من كل أمكانية لبحث أو تقويم تلك أسس التي يصوغها. لأن كل الأسئلة التي يمكن أن تستنطق علم جمال التغيير عن ماهيته، أو أدواته، أو أفقه، إنما تسقط في تفاهة ما يسميه أدونيس
" التبسيطية ". وأذن ما العمل؟ أما أن نتراجع، وإما أن نقبل التلوث، والانغماس في التفاهة" التبسيطية "! الحقيقة ليست أمامنا خيار. فالقضايا التي يثيرها أدونيس، ليست قضاياه الشخصية، بل هي – كما قلت - قضايانا جميعاً. وعلم الجمال الذي يصوغه ليس تبريراً لممارسته الشعرية الخاصة فقط، وإنما هو نظرة للشعر بعامة. وهو لا يلقى " مونولوجه" في غرفة مغلقة، ولكن ينشره في الصحف المتوجهة إلى قراء هذا الزمان... إلينا. إذن لا يجوز أن ندع تهمة " التبسيطية " تربكنا، أو تثبط عزمنا على الاستكشاف الدرب التي يقودنا إليها نقبض" التبسيطية "، وهو في رأيي، وكما سنرى، " الشكلية – الذاتية ". من حيث الماهية والأدوات، والأفق.
* لكي نحدد ماهية علم الجمال، الذي يحاول أدونيس تأسيسه، لا بد من التساؤل، بدءا، عن
" الأرضية " التي يستنبت منها نظريته الجمالية. وعلى ضوء المدخلين السابقتين حول الأفكار، والثورة المادية، اعتقد أن من السهل تحديد معالم هذه الأرضية. فهي" ذاتية "، و " لا واقعية " و "مبتورة عن العالم الموضوعي ".. ولا يقلل من وضوح هذا العالم الإلحاح الشخصي على أن " الأرضية " التي ينطلق منها، ويتحرك عبرها هي الثورة. ويقول في افتتاحية العدد الخامس من ملحق الثورة " ثمة ممكن في ألذات وفي الموضوع، ينشأ كل لحظة : ثمة احتمال ، كل لحظة، لنشوء تصوير جمالي الواقع والحياة يغاير التصورات السابقة، وهو احتمال يبرز على الأخص ضمن حركة الثورة ". ولكن لكي يتم بروز هذا التصوير الجمالي صمن حركة الثورة، ولكي يكون ثورياً بالفعل، لابد من أن تكون وشائجه مع الواقع الثوري متينة، وحية ، لا لفظية أو شكلية. والوشائج هنا هي الموقف الفكري – الأيديولوجي – وفهم بنية الواقع، والفعالية الجمالية في التغيير والإبداع أفاقه. إلا أن أدونيس، وفي مقالاته الخمس لا يمل تقطيع هذه الوشائج، وتسفيه أي حديث عنها، وقد رأينا كيف نبذ الموضوعات والمضامين إلى هامش الثانوي، بل ألغى قيمته المعيارية في نقد وتقويم العمل الشعري... وعندما حاول أن يجد جسوراً بين الثور المادية والثورة الشعورية لم يفع إلا أن يكشف عن تناقضه الداخلي، وإن يؤكد استحالة قيام مثل هذه الجسور، ومقال" الطليعة السياسية / وطليعة الشعرية " بقسيمه أنما هو توكيد متوال وملح على هذه الاستحالة. وعلى أن " للعمل السياسي خصوصية، وللكتابة الشعرية خصوصيتها" ولا يجوز أن نخضع واحدة للأخرى... وليته اكتفى في هذا المقال بتقطيع الجسور، لكنه مضى أبعد، ومنع الثورة الحقيقية بفكرها، وممارستها، واتجاهها، أن طرح على الشعر أي سؤال، لأنها بذالك تسقط في التفاهة، والتبسيطية ، الشعر جمهورية جمالية مستقلة عن المجتمع، والواقع، والتاريخ .. وهذه الجمهورية حفاظاً على استقلالها ترفض حتى علاقة التمثيل الدبلوماسي مع أي عالم خارجي.. وتتبع في نموها، وتطورها قوانين مستقلة وذاتية. نابعة منها وبها. وأية محاولة للبحث عن التفاعل، أو الفعالية ما هو إلا اعتداء على حرمات هذه الجمهورية، أو محاولة تقويضها بجيوش السطحية والتبسيطية. ومع هذا، لا يحس أدونيس بأي تناقض وهو يقول " العمل السياسي جانب واحد من الحركة الثورية، والفعالية الإبداعية الفنية، جانب آخر، بتعبير آخر، العمل السياسي والعمل الثقافي والعمل الشعري أجزاء من كل وحد، من العمل الثوري الشامل" ما الصلات بين هذه الأجزاء؟ وكيف تتناغم وتنسجم في سياق العمل الثوري؟... الجواب الوحيد الذي يعطه أدونيس في مقالاته هو، ألا تكون هناك أية علاقة بين جزء و أخر.
وهذه النتيجة ليست مفاجئة. فما دامت الثورة المادية – ثورة العمال والفلاحين – صورة ذهنية وطوباوية، فأنه يستطيع ودون حس بالتناقض، أن يقيم بالتوازي معها، تصوراً جمالياً ذاتياً، وتلك أحدى حيل" الفكر المثالي" التي تساعد الشاعر على تخطي تناقضاته الداخلية . فهو يحل المشكلة بين الذاتي والموضوعي، بأن يختصر ويلعب العالم الموضوعي في " صور محض ذاتية" ، ثم يتوازن معها، وكأنه يتوازن حقا مع العالم الموضوعي... لهذا غاية ما يصل أليه أدونيس من خلال هذه التخبطات هو القول بأن " ما هو ثوري وشعبي وجماهيري في الشعر هو الشعر نفسه " .
08-أيار-2021
23-نيسان-2006 | |
08-نيسان-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |