منمنمات من أجل النسيان
2008-03-04
جولي هيفرمان قادمة بأنوثتها من عصر الروكوكو
ما من شيء يمكن استعادته كما هو. لكن الفن يعيننا على العبث بالأزمنة. أما المكان فشيء مؤقت في ظل تيارات الهجرة البشرية التي تتحرك مثل الرياح على سطح الكرة الأرضية. دائما نكون هناك مثلما نحن هنا. يفكر الواحد منا كمن لم ينتقل ببيته إلى جهة مجهولة. ما نراه في الفن يمكنه أن يعيننا على نسيان الأماكن بقدر ما يجعل تلك الأماكن قادرة على استنساخ ذاتها. معجزة الفن تكمن في قدرته على إقناعنا بتجاوز حواسنا المباشرة لنستسلم لحدس قوانا الداخلية. جولي هيفرمان تفعل ذلك.
البيرونية جولي هيفرمان تعيد إلى تلك البقاع النائية حقها في تاريخ الجمال. طفلة الأبدية هذه، المتماهية مع شغبها كما لو أنها خادمته، لا تستثني عريها من بسالة تحديها للزمن. ذلك العري يمزج جسدها اللين بالطبيعة، وهي طبيعة مقترحة خياليا. طبيعة لا يمكن إحالتها جغرافيا مثلما هي رسوم جولي هيفرمان التي تعبث بالتاريخ، متخذة من فكر ما بعد الحداثة مركبا يقلّها في اتجاه عصر الباروك (القرن السابع عشر)، يوم كانت البيرو – باعتبارها جزءاً من قارة أميركا الجنوبية - تشترك مع أوروبا في صناعة القرار الجمالي.
الفتاة استيقظت لتوها
الطالعة من لوحاتها، الفتاة التي استيقظت لتوها على نداء أمها التي سبقتها إلى العدم، القبلة التي لم تستنفد بعد شهوتها، أميرة الباروك الذاهبة إلى الروكوكو بخفة غزال لا يزال يجد في غواية صياديه حياة مضافة، ابنة النأي والنفي والغربة والترحال، تجاوزت الخمسين ولا تزال تسقي النبع حكايات خرافية، فكيف يخترقها الزمن؟! بنضارة الفاكهة الطازجة تغزو الحقول والممالك والقلاع والحصون والقصور والشرفات المزيّنة بالذهب والفضة. لا يمكن العين أن تتبع أثرا من خطوتها بل يمكنها فقط أن تضيع وهي تفتش عن لمعة صغيرة استقرت في مكان ما من جسد الصغيرة الحافية. لا تتركها الفتنة بل ترافقها أينما حلت: في زرقتها حيث تغفو الملائكة بعد مشقة الحديث المضني عن ألوهة لا تزال غامضة، في لغتها حيث تنحدر المدن إلى القرى والقرى إلى البوادي والبوادي إلى الكهوف والكهوف إلى التيه، في اطمئنانها حيث تتآخى الكائنات التي لا تزال تتنفس هواء البرية الأولى. عريها لا يفرّق بين زمن وآخر، فهي ليست وحيدة كما تبدو. في مطبخها تمتزج أطعمة الأمس واليوم والغد فتهبنا يدها قوت سفر يمتد إلى الأبدية. تجلس لتشرح، فما الذي تقترحه وهي التي اشتبكت بالرسم حياة خالصة يزيدها النفي صرامة واستبدادا وعفة. لا يمكن النظر إلى رسومها أفقيا. يمكنها أن تقول: إن ما لا يرى من المرآة ليس عمقها، بل تلك المسافة التي تفصلنا عن كوكب ناءٍ. هي أو الفاكهة، ولا شيء آخر يظهر في رسومها الصافية. لحظة الصفر تغريها في وصف تجليات صورتها: الكائن الذي لم يتعرف بعد الى خطيئته الكامنة، حصاة البراءة المرمية على شاطئ الفردوس. هل تروي جولي هيفرمان سيرتها إذ تكتفي بصورتها الشخصية مادة لحكاية تلتهم الزمن كله؟ بترف وبذخ وتوتر وانشداه ومبالغة في الاستعراض التلذذي، تقول كل لوحة من لوحاتها شيئا ما عن تلك الصبية الذاهبة إلى نقائها بعناد القديسين واستعدادهم للنبذ. وهي الشيء عينه الذي يجعلنا نشعر بالحذر، بل بالخوف. ذلك لأننا نشعر أمام رسومها بأنها في طريقها إلى الاعتراف بدلا منا.
هي وصورتها
يلذّ لها أن تكون موجودة في كل مكان. كما يسحرها أن تكون هي، وفي الوقت نفسه صورتها الأخرى التي تنسخها وتستجيب هيئتها المنقّاة من كل وصف محتمل. هيئة تشترك في صوغها المواد الأولية التي أوحت فكرة الخلق، وفي مقدمتها النار. في الكثير من رسومها، يختفي شيء من جسدها، وغالبا ما يكون وجهها خلف شعلة من النار. المرأة الخاطفة التي تتسلق عريها لتكون موجودة فيه، لنتعرف من خلاله الى متاهتها وهي التي تحتمي بثنائياتها: لكن من أنتِ حقا بين الاثنتين، حيث تطلع إحداهما من الأخرى من غير أن تغادرها، من غير أن تلتفت إليها، ولكن قبل هذا هل أنتِ اثنتان حقاً أم أكثر؟
أنزلق إلى سيرة مجنونة، هي سيرة الحواس كلها لكن في وقفتها اللاهثة على حافات الشبق المتأني. الفتاة المزنّرة بكل ما لذّ وطاب من هبات الطبيعة لا يمكن تأويلها بصريا، فهي تقيم مثل أليس في أرض عجائب منتحلة، خارج كل مفهوم مسبق عن الأنثى، ذريعتها في الوجود. تنظر إلينا كمن ينتظر في وقفة، هي مزيج من التساؤل والعصيان المبكر. الطريق ما بيننا يمكنها أن تقول شيئا مختلفا عن فكر نسوي يسخر من كل أفكارنا بل ويعيننا على تدارك ما فاتنا من أنوثتنا المغدورة. فالصبية لا تشير إلى عريها في صفته عنوانا. إنها تفعل ما نفعله حين نقيم منسيين في مكان نجهل جهاته. لذلك لا يمكن التقاط شيء من جسدها الذي غالبا ما تبقيه كما هو. ليس لأنها تسعى إلى النظر إليه رمزيا بل لأنها وجدته هكذا، ملعبا لكون لم يبتكر بعد جهاته. كما لو أن معجزة هذه الرسامة تكمن في أنها استطاعت أخيرا أن ترى المرأة. الأنثى التي لا يمكن تأويلها بصريا وقد اكتشفت عينها. "ليست الخصوبة إلا كذبة وما الأمومة إلا وهم"، يمكنها أن تقول. هذه الأنثى التي هي، ليست واقعا، كل حقيقة تخونها. فما ان تقترب الحقيقة من الأنثى حتى تصير شبهة. "لقد شبِّه الينا دائما انك موجودة أيتها الأنثى". على المائدة مثل قوت، بين الأغصان مثل حمامة، على الجلد مثل رغوة صابون، بين الفخذين مثل شهوة، ما هو عدد النساء اللواتي نحتاجهن لنفهم ذكورتنا في سياق حقيقتها المهزومة؟
الحديقة السرية
الصبية تلك، الصبية التي لا عمر لها، تظل صامتة. عيناها تتكلمان: "اتبعني" تقول وهي أشبه بأليس، ولست سوى أرنبها المستفهم. باب الحديقة السرية ينفتح مع أول نظرة. كما الحب تماما: يحدث أن لا نرى، وأن لا نسمع، وأن لا نلمس، وأن لا نتذوق. فقط نتبع الرائحة بغريزتنا لنقع على الكنز. المتحف يقلدها، لها في صناعة التاريخ ما يجعل منها الأستاذ الذي صارت أصابعه تشعّ عظات تتقشف بالموسيقى. ليست ضحكتها سوى فجوة، أما دمعتها فإنها البحيرة التي ترقد في أعماقها الوحوش. سأحذّرك في كل مرة انزلق إلى بئرك. سأنظر إليك بيأس كلما ارتقيت سلمك. لا لشيء إلا لأني أود إلقاء التحية على كليوباترا وزنوبيا وبلقيس وعشتار وفينوس واديث بياف. ولن يقف معي سوى باخوس الذي هو سجين معبده في بعلبك. تقولين: "نحتاج دائما إلى كأس مضافة. ما بقي مختبئا في الدنان من الخمر هو ما يهب صحونا معنى". شيء منك يشبه إلى حد كبير ذلك الشيء الذي يقدّمك ويتقدمك متألما ومأخوذا بك، لذلك فإني حين أسكنك تذهب محاولتي إهدارا وحين أفارقك تخذلني قدماي. أكون موجودا بالطريقة التي لا تجعلني موجودا حقا. فما من مكان يضمّك، إذ صار جسدك يتبرأ منك. أتذكر القوّال نصرت فاتح علي خان. كان الرجل يتعبد فيما الناس يرقصون على أنغام صوته الذي يهبه التشنج نوعا من الجمال الروحي. كيف يمكننا أن نتخيل عذاباً أشد؟ لا يفتك جسدك العاري بأحد، ذلك لأن غوايتك كانت دائما في مكان آخر، هو مكان يسوده الذعر. تخرجين بسيرتك من متحف ما، صارت صنعته أن يقلّد هذيانات أمطارك، وهو المتحف ذاته الذي يلهمك العصيان. أنت موجودة لأن الطبيعة صارت جزءاً من سيرة جسدك. وإذا كانت سيرة ذلك الجسد، وهي سلاحك الوحيد ضد الشر، قد ألقت بك في البرية، فيا لروعة ذلك المصير. ولكن ما هذا الذي يحيط بقدميك؟: كائنات بحرية. هل تقع غابتك يا جولي هيفرمان تحت البحر؟ لكن الحمام يحلّق حول الموقد الذي تقفين أمامه في بيتك، فهل يحلّق بيتك في السماء؟ في كل الأحوال تظل النار تخفي وجهك. "سأهبك مدينة، حراسها عميان وأجراس كنائسها صامتة وكهنتها مجانين والمسافرون إليها شعراء"، تقولين لمن لا يجدك منسية في إحدى المحطات مثل قفاز يد مثقوب.
أنوثتها خلاصها
المرأة التي ترعى الخراف، الريفية بأناقة نظرتها الساهمة، المطمئنة كما لو أنها دائما في بيتها رغم كل ما يحيط بها من وحشة، تأسر نبيلا لترعاه مثلما تفعل مع خرافها. لا تكلّمه بل تقوله، لا تستعرضه بل تسلّيه. تهبه المناعة. روكوكو دائما ضد الزمن. هل كل هذه المنمنمات من أجل النسيان؟ لا زخارف، الحياة هي هكذا. ليست هناك بداية، المهم أن نقبض على الخيط الذي تشعر من خلاله أصابعنا بأن هناك من يستدعينا، وبأن هناك دائما أقداماً تسير بنا في خطوات لم نلقها من قبل. لا يهمّ إن كانت تلك الأقدام أقدامنا أم هي أقدام لآخرين لما يولدوا بعد. لم يكن جسدها وهي الغريبة المطمئنة موقعاً للشهوات. ولكن هل تستعيد جولي هيفرمان مشاهد حلمية أم تكتفي برواية حياتها مثلما عاشتها سحريا؟ حياتها تلك وحياة امرأة أخرى تسكنها أو ترافقها مثل قرين. الأنثى التي صارت تتشبه بالذئب في تلفّته والشاة في حيرتها والنمر في جرأته. ودائما يكون الوحش على مقربة من يديها. هي مرآتها التي تهتدي بشعاع معجزتها: الأنثى في صفتها خلاصة الجمال وفكرته
ملحق النهار في 2/3/2008
08-أيار-2021
25-تشرين الأول-2014 | |
24-نيسان-2014 | |
04-آذار-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |