عندما يهزم القدر فرسان الكلام
2008-09-13
أعلن القدر رحيل فارس آخر، وخيمت ظلاله على أرجاء الكلام، العبرات تتلاطم للخروج في جنازة القصيدة، والألم يتحسر على وداع أخير، القبلة تتنهد من ثغر الكلمة، والأحرف تنفخ في بوق، لتعلن للغة رحيل فارس من أجود فرسانها، أعلن الموت أخيراً، جنازة شاعر كانت الكلمة صديقته، والصديقة قصيدة، والقصيدة حلمه وألمه، وحلمه وطنه المتخم بالألم والأسى.
هكذا انتهى المطاف برجل قاد قطيعاً من الكلمات أمامه، ورعى ملايين الأحرف في ضيعة صغيرة، أطلق العنان لألوانه المتناثرة في أحلام أطفال تحبو منذ الأزل، انفجرت من أنينه ينابيع الحب والألم، آهاته اخترقت خيوط الشمس الساطعة أبداً في سماء القصيدة.
رحل محمود درويش، تاركاً خلفه، غبار الزمن الأعمى، يتناثر بين كلماته التي أبت أن تذرف إلا عبرات الحب والغزل، كلماته التي كانت تغازل النساء في طريق القرية، بين أشجار الليمون، وتحت عريشة الكرمة، قالت النسوة أمام التنور، مات شاعر الخبز، فصرخت الأحرف في كل مكان، الأن أصبحت القصيدة يتيمة.
محمود درويش، يقطع تذكرة سفر بعيد، مهاجراً، تاركاً كل شيء خلفه، متوجهاً إلى مكان آخر، سيلتقي بدراً جديداً، وقد يعد نجوماً أخرى، تختلف كما كانت في سماء القدس ذلك المساء، القدس التي حلم بها عاصمة لوطنه الحزين، سيشرب محمود درويش نخب موت آخر، وقدر ينتهي من هنا، ليعلن نفيره هناك.
الأيام تمر بألم جديد، توقف الزمن هنا، الحبيب فارق عشيقته، ذهول خيم على ضحكات أطفال الضيعة، الحزن رسم ابتسامة على شفتي أنثى كانت ألوان ثيابها تنثر العبير على قبر كئيب، القلب يئن كل يوم، ولحظات الفرح تخجل الدنو من آلامنا، الموت صور مشهداً مخيفاً للوحة خانقة، صمت الزمن وبدأت القصيدة برثاء والدها، حديثاً بين أنين خائن وخجل حجل يطير على ذرى قلوب مقفرة، بين أبيات قصيدة شعر حزينة، وجدائل عروس على الفرس، الموت الجبان رسم فاجعة بكل كلمات الطيف، وهاجر الطائر مخلفاً وراءه يتامى الألوان والكلمات.
الموت هدر دم زهرة أخرى، أطفأت الغيوم ضياء القصيدة، الشمس تبكي وردة بريئة قتل الفراق ألونها، آلام ضاعت بين طيات الألم، المشهد يصدر أزيز صرخة أم ثكلى، ما عادت تخبز الخبز لصغيرها، عبرات حجل تنهمر من عيني حسناء جميلة، اليراعات ذلك اليوم أبت الكتابة، وانهمرت من ثغورها كلمات بلون الجوري.
قصيدة أخرى تكتب بألم محمود درويش، ذلك الألم ما برح قط خلجاته، وقلبه العليل، رحيل آخر تغنى به العشق ولبس وشاحه الأسود، وزف الموت نبأ رحيل عزيز إلى ضيعة تحمل بين نهديها مجرى ألم متجدد، ترانيمها الخالدة، تسرد حكاية موت أخر، نفير أعلن عن ولادة قبر أخر، دهر جديد يمر ومعه روح طاهرة.
محمود درويش، ذلك التائه بين قصائده وآلامه، المنغمس في أهات وطنه، وأنين أيامه الصاخبة، الذي ينادي كل أم ثكلى، أذرفي المزيد من العبرات لعل تلك الدموع تخفف عنك وطئ السنين، وذل الأيام، وأهات الكلمات الآثمة لترتجف من صوتك كل أسواط الذل والخوف، وأحرف الموت.
محمود درويش، ذلك الأخر المختفي وراء أحرف ذهبية، كل واحد منها تنبأ بيوم أخر ليكون للحياة طعم آخر، ورائحة أخرى، تلك الخلجات الكئيبة التي أبت أن تبارح الفرح فارتطمت كلماته بكل سيوف الذل، وقلعت رياح صوته كل أشجار الغل الدفين في أفئدة هذا الزمن الأخرس.
محمود درويش، ذلك الأنين الصاخب، والضجيج القادم من خلف أسوار المدينة، ذلك الأكبر من كل موت وفراق، الأعظم من كل صخرة، يرميها الغادرون أمام درب الحصان الأشهب، فيزيح بكلمة واحدة كل أحجار الكراهية، ويحفر في الأرض صراط الأمل الواعد.
رحلت يا من كتبت لكل أصدقائك، رحلت يا من أهديت لصاحبك سليم بركات، قصيدة تختصر حبك له ولبني جلدته، رحلت يا من قلت "ليس للكردي إلا الريح" رحلت يا من زرعت الشوك زهراً، وارتوت من كلماتك كل الورود، ولبست العروس من قصائدك، أجمل فستان عرس، فزفت إلى عريسها، وهزمت أنت كل الكلمات...
08-أيار-2021
10-كانون الثاني-2010 | |
04-تشرين الأول-2009 | |
10-آب-2009 | |
28-تموز-2009 | |
08-تموز-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |