الكتابة الجديدة
2008-09-22
برزت ظاهرة في الحياة الأدبية المصرية خلال السنوات الأخيرة أُطلق عليها اسم «الكتابة الجديدة». هذه الظاهرة أصابت عدداً من كتاب الرواية المعروفين، بحسب قولهم، بالقلق على مستقبل الرواية في مصر. ربما رأوا فيها شبحاً يزحف على مصادر الصدارة التي استقروا فيها نتيجة أعمالهم الإبداعية، ولكن أيضاً بسبب القوى الاجتماعية التي ساندتهم، وشبكة العلاقات التي نشأت بينهم وبين أصحاب النفوذ في الإعلام، والثقافة والنشر، وأحياناً في الأوساط السياسية المهمة. ففي كل البلاد، وفي كل العصور يُوجد للقوى الاجتماعية السائدة دور في إبراز كتابة روائية معينة، والترويج لها، وبالتالي دور في إضفاء الشهرة، والمكانة على كتّاب روائيين مُعينين، وفي تشكيل الذوق العام للذين يستهلكون أعمالهم.
أُطلق على هذه الظاهرة اسم «الكتابة الجديدة» لأنها تتناول مجالات في المجتمع والحياة، ومواضيع، وقطاعات من الناس تجاهلها معظم كتّاب الرواية، لكنها فرضت نفسها على أعداد من الروائيين الجدد خلال العقود الأخيرة، ولأن أسلوب الكتّاب الذين ينتمون إليها فيه تجديد بصرف النظر عن مدى القيمة الأدبية لمختلف الأعمال الروائية التي تندرج تحت هذه التسمية، وبصرف النظر عن أن هذا النوع «الجديد» في حاجة إلى التحديد في وصف، وفي تحليل سماته، خصوصاً أن من المفترض أن الإبداع الروائي يحدث فيه تجديد مستمر.
إنها ظاهرة يجب الترحيب بها، لأن عدد الكتاب الروائيين الذين يُنظر إليهم على أنهم ينتمون إليها في ازدياد، ولأنهم شباب، ولأن نسبة لا بأس بها منهم نساء. كما أن بفضلهم أخذت ساحة الإبداع الروائي، والقصصي في مصر تستعيد الحيوية، وربما الخصوبة اللتين افتقدتهما إلى حد كبير في ظل التدهور الفكري والثقافي، والإبداعي الذي أصابها منذ أن تم استيعاب البلاد في نظام العولمة الرأسمالية، والسوق الحرة.
هذا التجديد في الكتابة الروائية مرتبط غالباً بحدوث تغيرات اجتماعية عميقة في المجتمع. المناطق العشوائية التي تضم أفقر فقراء المدن، وأبأس بؤساء البشر في بلادنا كانت موجودة في مختلف العصور، لكن خلال العقود الثلاثة الأخيرة، في ظل العولمة وتفرعاتها تدهورت ظروف الحياة لغالبية السكان في شكل ملحوظ، فأصبحت هذه المناطق تضم قطاعات مهمة من سكان المدن يُقدر عددهم يقارب السبعة ملايين، أي ما بين ثلث وربع المقيمين فيها.
سُميت هذه المناطق عشوائية لأن الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية فيها تتسم بالفوضى، ولا تخضع للحد الأدنى من النظم والهياكل الثابتة، أو القواعد السائدة في المناطق الأخرى. سكان المناطق العشوائية لا يحكمهم سوى ما يتفقون عليه ضمناً حتى تستمر الحياة، وهو اتفاق يُمكن أن يُخترق في أي لحظة. إنها مناطق بلا قانون، ولا قيم، ولا مصادر ثابتة للعيش، ولا أي شيء مستقر في الحياة يتحرك وفقاً لمسار محدد. تُحكمها فوضى وإن كانت فوضى تسير وفقاً لأعراف ومقاييس تبلورت من التجربة، والسعي إلى البقاء. إنها مناطق لا وجود فيها للأمن والأمان، تسري فيها الجريمة وتجارة المخدرات وتعاطيها، والدعارة، والجنس المنفلت منذ سن مبكرة. علاقات الحياة طابعها التشرذم، والتناحر، والانقسام، والعنف. إنها حياة بلا أمل، أو رؤية، أو يقين، أو قدرة على تغيير المصير. مع ذلك ففيها إرادة الانسان الذي يتعامل مع الظروف المحيطة به، ويبتكر الألاعيب ليقهر الموت، إنسان قادر على السخرية من مصيره، على الضحك، على الرقص، على تأمل القمر السائر في الليل، على الحب المفترس والغيرة، ونادراً على الكرم والتضحية النبيلة.
المناطق العشوائية خطيرة، مخيفة قد تنشأ فيها ثورة الجياع. إنها كتلة بشرية لها ثقل بحكم اتساعها، وعدد سكانها، وتأثيرها في المناطق المحيطة بها، وبحكم قابليتها للعصيان والاشتعال. لذلك تعيش في ظل قمع وإرهاب مُضاعف تفرضهما فرق البوليس، وفرق الإجرام. مع ذلك يستحيل حصارها, وهناك علاقات سياسية وإجرامية، وتجارية، ومهنية تنشأ بينها وبين الأحياء المحيطة بها، وحركة متبادلة تجتاز حدودها باستمرار.
المناطق العشوائية إذاً قطاع اجتماعي يتسع باستمرار. لذلك كان لا بد من أن تنشأ ثقافة تُعبر عنها. الأدب سباق، فأصبح أول المعبرين عنها في هذا المجال كتاب القصص والروايات. قد يُولدون فيها أو يُشكلون جزءاً من سكانها، أو تنشأ بينهم وبينها رابطة، لكنهم منفصلون عنها إلى حد ما، لأنهم أكثر وعياً، ولأنهم منتمون في غالبية الأحوال إلى مراتب اجتماعية أعلى من مرتبة سكانها. مع ذلك صاروا يُعبرون عنها، عن واقع مختلف عما كان يُعبر عنه الكتاب الذين سبقوهم، أو الذين لم تفرض عليهم وجودها بالمقدار الذي فرضته الآن على شباب الكتاب.
هذا الواقع العشوائي إذاً هو موضوع «الكتابة الجديدة» الذي يعبَّر عنه بأسلوبها الخاص. ومن الطبيعي أن تطبع العشوائية شخصيات الروائيين أنفسهم، أن تُؤثر في تكوينهم، وفي أقلامهم، في مواضيعهم وفي الطريقة التي يكتبون بها، في اللغة التي يُعبرّون بها. إنهم يكتبون عما غرسته الحياة العشوائية فيهم، حتى وإن لم يكونوا جزءاً لا يتجزأ منها، فتأثيرها واضح في المجتمع، واضح فيهم، وهم نتاج لها إلى حد كبير، شهود عليها، فاقدون مثلها الأمل، والرؤية، واليقين. مع ذلك، فإبداعهم حتى إن كان مجرد وصف لها، أو لجانب منها، أو لبعض تفاصيلها المجزأة هو خطوة أولى في التمرد عليها، في السخرية منها، في كشف مسالبها وتناقضاتها، في فضح الظلم والقبح اللذين لا ينفصلان عنها. إنه يجعلنا نرى ما لم نره من قبل، وما لم نُمعن التفكير فيه من قبل. يكشف قاع المدينة ويرفعه إلى السطح المرئي، والمحسوس. إنه يصنع وعياً جديداً، وغضباً جديداً، ورؤية تتسع لما كان غائباً عنا من قبل، للتدهور وللفساد بلا حد يفرضهما نظام عالمي ومحلي يُدمر إنسانية الإنسان.
لهذه الأسباب تبدو «الكتابة الجديدة» ظاهرة تستحق أن تقابل بالاهتمام والتشجيع بعيداً من الضجة المثارة حولها، بعيداً من التصادم والمشاحنات بين المصالح، والشلل، والأجيال. إنها ظاهرة مكتوب لها أن تبقى وتزدهر لمدة طويلة إن أُنضجت بالجهد المثابر، بتطوير فكر أو ثقافة المنتمين إليها، بالتغلب على العيوب الكائنة فيها. تلك العيوب الناتجة في التصاقها بفئات اجتماعية متقلبة، مشتتة، تميل إلى السطحية، إلى التمرد المطلق على القديم، على الذاكرة، على ما لا يمت إليها بصلة واضحة، ولأنها تعكس عالماً متشرذماً، مشتتاً وتتجاهل العلاقات المتحركة القائمة بين أجزائه، مكتوب عليها أن تبقى وتزدهر إذا تجاوزت بعض السمات المتعلقة بظروف نشأتها، إذا تفادت التسرع، وعدم الغوص في الأعماق، وتعودت التأمل الطويل في العالم الذي يتناوله إبداعها. ففي التاريخ وُجدت تيارات في الكتابة الروائية لم تعش طويلاً مثل حركة «البيتنيكس» التي عبرت عن شباب كانت حياته عبارة عن تنقل دائم في رحلة لم تنته، لكنها تفجرت في ستينات القرن الماضي ثم ماتت بعد أعوام عدة.
«الكتابة الجديدة» يُمكن ان تصنع تياراً يخترق القوالب الجامدة. مع ذلك، فإن الإبداع الروائي ذاكرة، وصيرورة، وتجربة، وتاريخ. الإبداع الروائي إتقان فني ورؤية، فإذا مال كُتّابه إلى الترويج لما هو سيئ في المجتمع بحجة احترام القارئ، وإعطائه ما يُريده، أو يميل إليه، والتحدث بلغته، أو الإدعاء أن الرواية الجيدة هي تلك التي تُباع كل نسخها، يمكن أن تتحول إلى مجرد إسفاف يلقى ترحيباً، لكنها ستفقد مميزاتها وتفشل في تسليط الضوء على حياة أكثر المطحونين في بلادنا. قد لا تُؤمن بالأبطال، أو السرديات الكبرى، أو تتابع الزمن، أو الشاعرية والتناغم، أو الانسجام لأنها تعكس فوضى، لا منطق الأشياء في حياة الملايين من الناس. لكن يجب أن تكون لها رؤية فنية وفكر، بل وفلسفة، ويجب ألا ترفض ما هو مختلف، أن تتعلم منه. فالفن الروائي في حاجة إلى تخصيب متبادل، والفاصل بين الفن واللافن سيظل معضلة، لأن التقويم نتاج للاتجاهات، والتيارات السائدة في المجتمع، وللاتجاهات المعارضة لها، نتاج للزمان والمكان.
المهم أن يتحلى الكاتب الروائي بالإخلاص والحب لفنه. ويبقى لظاهرة الكتابات الجديدة أنها ألقت بحجر في مياه ظلت لفترة ساكنة، أنها يُمكن أن تكسر الجمود والقواعد الثابتة. لكن الحرية مرتبطة, سواء أردنا أو لم نرد, بالمسؤولية. والكاتب الروائي ينفذ إلى أعمق ما يُوجد في الانسان، إلى وجدانه، إلى ذلك الجزء الجوهري منه الذي يتأثر بما هو جميل، وعادل، ويضيق بما هو قبيح وظالم.
ومهما كان الوضع فلا ننسين أن الإبداع يُولد دائماً من رحم الفوضى.
* روائي مصري.
الحياة - 18/09/08//
08-أيار-2021
22-أيلول-2008 | |
26-آب-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |