أُلقي التحية على موهبة وجودي
2008-10-06
الأخلاق جمالية الداخل. ترفٌ مكلفٌ لا يُعطى لسوى قلّة.
بيار ريفردي
متى تصنع الغيرة عملاً إبداعياً أو إنسانياً خلاّقاً، ومتى تسقط في الوحل؟ ليس من الصعب أن يجيب المرء عن سؤال كهذا. خذوا الشجرة مثلاً، إذ يكفيها أن تعثر على ظلالها، كي تعرف أنها ذات ضوء، أي ذات ثمار. ليس من المهم جداً أن ترى ثمارها، هي بعينيها، إنما لا بدّ من أن يكتشف الناظرون اليها كثافة الثمار التي تتوالد من جسم ضوئها. بل من روح هذا الضوء.
يصعب على الشجرة أن ترى ثمارها، مثلما يصعب على الشمس – وهي مصدر - أن ترى إشعاعها. تعرف الشجرة بعبقرية جسمها أنها عطاءٌ، وتثمر. وتعرف ذلك أيضاً، معرفةً لامعة، من خلال ما تفعله بالأرض التي هي فيها، وما تفعله الأرض بها، ومن خلال الهواء، والفضاء، والجوار. ثم تعرف من خلال الرائين اليها، والمتنعمين بها، وبثمارها.
بظلالها/ ثمارها، تكتشف الشجرة أنها تُنجز شيئاً فذّاً. بهذا الإنجاز - صناعة الظلّ كي لا أقول صناعة الثمر - تبرّر عبقرية وجودها، وتمنحه معنى، وتحميه، فتنجو من الشعور بالفشل، وما يعقبه من "مرض" الغيرة، وهو مرضٌ مُهلك قد يذهب بمن يصيبه، إذا استفحل، الى اليباس والعقم، وخصوصاً بعد أن يستشري في العروق والأغصان، وصولاً الى الجذور.
عبقرية الشجرة أنها تعي كينونتها، وحجم هذه الكينونة، فتعيش ضوءها وظلالها، بكل اللذة التي يصنعها الضوء والظل. أي الجسم وثماره. هي، في هذا المعنى، طموح هائل وألوهة كاملة. وتواضع هائل أيضاً. تعي الشجرة سرّها بالغريزة الوجودية التي أعطتها إياها الطبيعة. فماذا تفعل الشجرة بسرّها هذا؟ تحبّه ليحبّها. تكون وفيةً له ليكون وفياً لها. بهذين، الحبّ والوفاء، تنجز الشجرة "احترامها" لجسمها، وموهبتها، فتصنع لذّتها ولذّة الآخرين بها.
هذه هي العبقرية، عبقرية الشجرة بالذات. ولا تبتعد عنها بكثير، عبقرية الوجود البشري، وإن تكن هذه العبقرية الأخيرة موسومةً بالعقل، مضافاً الى الغريزة ومعزّزاً إياها. وبالأخلاق والقيم، ضابطة نبض هذين العقل والغريزة، ومحتضنةً إياهما.
لكن ثمة مأساة بشرية تنجم احياناً عن وعي العقل، الذي قد لا يعرف حدوده فينحرف عنها. طموح هذا العقل واجبٌ، وطبيعيّ. لكنه تحدٍّ صعب لأنه دقيق ومرهف وخطير، ويحتاج الى موهبة فذّة. وهو يختلف عن برهان الشجرة. كيف؟ الشجرة إذا لم تؤمن بنفسها، انحرفت بنبلٍ الى انسحابها، اي الى يباسها وموتها. أما الإنسان فقد يحرفه جموح الشر الفاسد عن كينونته الجميلة فيظن، بموهبته الضئيلة، أنه يستطيع أن يكون نفسه وأن يكون الله والآخرين، معاً وفي آن واحد. حتى ليريد بغيرته العمياء – لا بعبقريته - أن يكسر الحدود، حدوده موهبته الضئيلة هذه، فيقع لا في الألوهة إنما في الحقد والعقم: الحقد على الله، وعلى مخلوقاته. والعقم الذي يؤدي الى التفتّت، والتسمّم الذاتي، فالتلاشي.
الغيرة، إذا لم تكن موهوبة، أي فاشلة و"مقهورة" فحسب، تحرق وتُعمي، حتى لتودي بأصحابها أحياناً الى كارثة.
الشجرة وجدت حلاً لهذه المشكلة - المأساة، بجسمها، بفرح جسمها، بضوء جسمها وبظلاله. وأعني: بثماره. كثرٌ من الكتّاب والفنّانين والعشّاق العباقرة الذين لا عدد لهم، واجهوا على مَرّ الحياة، هذه المشكلة – المأساة، بأن "احترموا" طبيعتها ومواهبها، فعثروا لها على حلول خلاّقة، وهبتهم إياها الكينونة البشرية. وهم بذلك، يكونون يردّون التحية بمثلها.
كهذه الشجرة، وكهؤلاء، يحلو لي اليوم أن أحترم ما أُعطيتُه.
كيف أفعل؟
بأن أُلقي التحية على موهبة وجودي.
جمانة حداد
( [email protected])
جريدة النهار
08-أيار-2021
26-تشرين الأول-2019 | |
07-نيسان-2018 | |
21-تشرين الثاني-2016 | |
02-آب-2011 | |
25-نيسان-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |