الإسرائيلي عسكري والفلسطيني إما بطل أو ضحية
2008-11-11
ثمة مفارقة فادحة بين حضور الإسرائيلي في حياة الفلسطينيين والعرب عموماً كعدو يجابههم في أرض المعركة، وبين غيابه شبه المطلق من الأدب والفن بكافة أشكاله إلى الحد الذي جعل حضوره النادر في هذا العمل الفني أو ذاك يستثير سخطاً ولغطاًُ بلا حدود، ويفتح الأبواب لاتهام مبدع العمل بالتطبيع على ما في هذه التهمة من إدانة سياسية تذهب إلى حدود المقاطعة والتخوين.
أتذكر أن مهرجان الإسماعيلية السينمائي قد شهد قبل عقد ونيف واحدة من تلك التظاهرات الصاخبة ضد التطبيع بسبب عرض فيلم للمخرج المصري خالد الحجر كان من بين شخصياته شخصية إسرائيلية رغم أن من شاهدوا الفيلم يؤكدون ـ على اختلاف مواقفهم ـ أنها شخصية سلبية أدانها الفيلم ووضعها في موقف يحرّض المشاهدين على إدانتها، ولكن دون أن يمنع ذلك كله جمهور النقاد من اعتبار الفيلم يستهدف التطبيع.
الفكرة هنا تنطلق من وهم أن الشخصية الإسرائيلية بحضورها تحقق نوعاً من الاعتراف الضمني، حتى ولو جاء هذا الحضور سلبياً ومداناً من مبدع العمل، فالأصل بالنسبة لأصحاب هذه النظرة هو الحديث عن الإسرائيلي بصيغة الغائب وعلى ألسنة الشخصيات العربية. الخشية والتحفظ هنا يقعان من فكرة ترك الشخصية الإسرائيلية تقدم نفسها مباشرة ودون وساطة الشخصيات العربية.
طيلة عقود الصراع العربي ـ الإسرائيلي كانت الآداب والفنون العربية تتحدث عن العدو، الغائب، الغامض والذي يظل في الحالات كلها بلا ملامح محددة. ذلك العدو يفترض غموضه وغياب صورته أن يحضر من خلال الأدب والفن في وظيفته العسكرية الصرفة، أي بوصفه الطرف الآخر في الحروب والمواجهات العسكرية ولكن دون أن تتجرّأ التجربة الأدبية والفنية العربية على محاولة رسم صورة له في حياته هناك، أي خلف خطوط المعارك، ما جعل صورة المجتمع الإسرائيلي برمته تغيب من آدابنا وفنوننا بالرغم من أننا نتحدث دون كلل عن مواجهة هذا العدو وندعي الحرص على معرفته ومعرفة أشكال حياته كي نتمكن من مواجهته والانتصار عليه.
في مقابل هذا الغياب الفادح لصورة الإسرائيلي في الآداب والفنون العربية سادت لوحة اجتماعية للشعب الفلسطيني لا تقترب من الفلسطينيين كمجتمع له تناقضاته وفئاته الاجتماعية المختلفة والمتباينة المواقف.
ومن يعود إلى الآداب والفنون المسرحية والإذاعية والسينمائية التي تناولت الصراع العربي ـ الإسرائيلي سيجد أن الفلسطينيين في تلك الأعمال هم كتلة بشرية واحدة ومتجانسة وتقف صفا واحدا في مواجهة عدوّها، ولا مكان للتناقضات والسلبيات في صفوفها باستثناء حفنة من الخونة الذين يرشدون العدو ويتعاملون معه.
أتذكر في هذا المجال الصخب الذي رافق عرض المسلسل التلفزيوني الشهير »التغريبة الفلسطينية« في البداية والذي شكّل ما يشبه الصدمة للبعض، قبل أن تتحوّل إلى صدمة إيجابية تثير النقاش المفيد.
كانت صدمة البعض مما اعتبروه إساءة للشعب الفلسطيني تذهب إلى حد تقديم شخصيات فلسطينية »قاسية« وذات أطماع وتبحث عن مصالحها الفردية على حساب الفلاحين الفقراء كما هو حال شخصية المختار أبو عايد مثلاً.
المسألة كانت ببساطة أن مسلسل التغريبة قدم الفلسطينيين باعتبارهم شعبا وليس مجموعات من المقاتلين، أي أنه قدمهم في حالاتهم الإنسانية الطبيعية التي تجعل شخصا مثل المختار أبو عايد يتطلع إلى الاستيلاء على أراضي الفلاحين الفقراء من أبناء قريته، ولكن دون أن يعني هذا أنه لا يحب وطنه، أو أنه يتقاعس عن الدفاع عنه.
كثير من تفاصيل الصورتين (صورة الإسرائيلي الغائبة وصورة الفلسطيني الأحادية) كرّست تناولا أدبيا وفنيا للصراع يخلو من العمق و«الحقيقية« ويقترب كثيرا من الأيديولوجيا، أي يبتعد بالضرورة عن الحياة كما هي في الواقع، وهي حالة تجعلنا نشير بثقة إلى غياب الرواية العميقة والفيلم السينمائي العميق في ما يخص الصراع مع الإسرائيلي، فكل ما نجده في أدبنا الروائي والدرامي أعمالاً لا تغامر بالغوص في عمق الصراع ومحاولة رؤية ما يمور فيه من تفاعلات لا يمكن اختصارها بثنائية الخير العربي في مقابل الشر الإسرائيلي. وهي ثنائية تذهب بنا إلى روايات متشابهة وأفلام سينمائية مكرّرة ونمطية المعالجات والنظرة الفكرية.
من المهم ملاحظة أن المعالجات الأدبية والفنية للصراع لا تزال تنحصر في الدائرة الضيقة لميادين الحروب، فالقارئ والمشاهد العربي لا يعرفان شيئا أبدا عن ذلك »المجتمع الآخر« وما يدور فيه من علاقات وأفكار سياسية وثقافية ولا عن العوامل الفكرية التي تؤثر فيه، أو التي تشكل وعيه وخياراته ومواقفه السياسية، ليس فقط لأن الكتاب والمبدعين الفلسطينيين والعرب لا يعرفون ذلك المجتمع، ولكن أيضا لأنهم لا يرغبون حقا في التعرف عليه ومحاولة تقديمه ورؤيته في صورة حقيقية بعيدا عن الأيديولوجيا والمواقف السياسية المسبقة.
ما الذي يعرفه القارئ والمشاهد العربي مثلا عن مجتمعات المستوطنين بكل تناقضاتها ووعيها الهجين المتشكل من أفكار ومصالح تُناقض مع بعضها بعضاً بذات الحدّة التي تتناقض فيها مع الفلسطيني والعربي؟
أعتقد أن المسافة لا تزال شاسعة بين صورة العسكري الإسرائيلي الصارمة والفاشية التي باتت »مألوفة« وتقليدية في آدابنا وفنوننا، وبين صورته في حياته اليومية وعوامل تكوينه الاجتماعية ومرجعياته الفكرية والنفسية ومنابع ثقافته ووعيه إلى الحد الذي يجعلنا »نكتشف» كل مرة أننا لا نعرف الإسرائيلي إلا بقدر ضئيل وغير مفيد غالبا ولا يمكننا أبدا من تحقيق أهدافنا التي نكرر صباح مساء سعينا لتحقيقها، على النقيض تماما مما يفعلونه هم هناك.
في مقابل هذا الغياب الفادح لرؤية عربية ثقافية وفنية للإسرائيلي في حياته العادية، ثمة غياب لا يمكن كما لا يجوز فهمه أو تبريره لصور حياة الفلسطينيين اليومية في وطنهم وخارجه. الفلسطيني هو بدوره شخصية نمطية تقدمها الأعمال الأدبية والفنية الفلسطينية والعربية كضحية ومقاومة بالمعنيين العريضين ولكن دون محاولة التوغل الجدي في التفاصيل، وهي صور تنأى عن محاولة رؤية الفلسطيني كإنسان يحب ويكره، يحزن ويفرح لأسباب طبيعية وإنسانية وليس بالضرورة لأسباب سياسية أو هو كما قال مرة محمود درويش »يشعر بالبرد« كباقي البشر على هذه الأرض. يحدث ذلك بسبب أن الآداب والفنون العربية تصر على رؤية الرّقعة السياسية الضيقة ولا تغامر بدخول الحياة العريضة لبشر الصراع العربي ـ الإسرائيلي بما هم أبطال ذلك الصراع وضحاياه معا. رؤية أدبية ـ فنية كهذه لا تستطيع أن تغادر الثنائية التقليدية لمعالجة الصراع أي المديح والهجاء، وهي لهذا السبب بالذات تظل خارجية تلامس قشرة الأحداث وتعجز عن تفسير ما يحدث فتكتفي بسردياتها شبه الإخبارية رغم أننا قد نشير إلى بعض الاستثناءات القليلة، السريعة والجزئية، التي حاولتها بعض الأعمال الأدبية والفنية ومنها »عائد إلى حيفا« لغسان كنفاني و«الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل« لإميل حبيبي ثم أخيرا مسلسل »الاجتياح« للمخرج التونسي شوقي الماجري وبالطبع تلك الأعمال الروائية التي كتبها روائيون فلسطينيون باللغة العبرية.
سيبدو غريباً للبعض أن نقول هنا إن الغالبية الساحقة من المواطنين العرب يجهلون تماما نوع الحياة التي يعيشها الفلسطينيون في البلدان العربية، وحجم الممنوعات المفروضة عليهم، والتي تبدو عند الحديث عنها نوعا من الفانتازيا غير الواقعية وغير القابلة للتصديق بسبب من أن الأعمال الأدبية والفنية التي تتناول الشأن الفلسطيني لا تزال تحصر تناولها في الدائرة الأضيق أي التي تتصدى للصراع مع الإسرائيلي في ميادين الحروب العسكرية.
ذلك كله يحدث تحت وطأة الوهم السائد عن التطبيع، حتى حين يتعلّق الأمر بأية ترجمات عربية لروايات أو قصص إسرائيلية، ولعلّنا نتذكر هنا الصدمة التي أحدثتها ترجمة الروائي السوري الراحل هاني الراهب لإحدى روايات يائيل دايان بعد عام 1967 وكذلك الصخب الذي عاشته الساحتان السياسية والثقافية بسبب قيام دور نشر إسرائيلية بترجمة بعض الآثار الأدبية العربية إلى اللغة العبرية إذ رأى كثر من المثقفين العرب في ذلك نوعاً من التطبيع يهدف إلى ترويض العقل العربي على القبول بوجود الدولة العبرية.
نحتاج ببساطة أن نقتنع فعلاً وليس قولاً بأن الأدب حياة بكل ما تعنيه كلمة حياة وما تفترضه من رؤى ومعالجات مغايرة.
المستقبل - الاحد 9 تشرين الثاني 2008
08-أيار-2021
06-حزيران-2020 | |
16-شباط-2011 | |
"كثيرة أنت" للشاعرة السورية سوزان ابراهيم وحيدة ولي ما لـيس لهنّ |
27-تموز-2010 |
23-تموز-2010 | |
09-أيار-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |